يعاني الحوار السياسي في مصر –المزمع بدء جلساته في الأسبوع الأول من يوليو/تموز المقبل– من خمسة إشكالات أساسية، يجب التنبه لها ومحاولة التعامل معها وفق رؤية ممتدة تقوم علي استيعاب المشكل وإن جرت مرحلة التعامل معه وفق تدرج زمني.
الحوارات السياسية أو الوطنية يتم اللجوء إليها للتعامل مع الأزمات السياسية، وهي عادة ما تتعامل مع أزمة “الشرعية” -بمعني القبول والقناعة بالنظام السياسي والرضا عن مخرجاته وسياساته، ومن ثم فقد تكون مدخلا لتجديد الشرعية أو سبيلا لجعلها على المحك، وهنا يحسن أن نشير إلى أن دخول سودان/البشير في حوار وطني ٢٠١٤-٢٠١٦ لم يعالج أزمة الشرعية لنظامه، ولم يمنع الاحتجاجات الشعبية التي أسقطته في ٢٠١٩.

أولا: مشكل تعريف الاستقرار

الاستقرار هو مصلحة مشتركة بين الجميع في مصر، فليس من مصلحة أحد -حكومة ومعارضة إلا من تم استبعادهم من الحوار- انزلاق الوضع إلى اضطرابات اجتماعية لا تتحملها الدولة بمؤسساتها، ولا المجتمع المنهك الباحث عن لقمة عيشه بكرامة.
هناك طلب متصاعد من الجميع؛ جميع الأطراف -محلية وإقليمية ودولية- على الاستقرار في المنطقة ككل ومصر بسكانها الذين تجاوزوا المائة مليون بصفة خاصة.
الاستقرار بالنسبة للنظام الحالي هو مكون أساسي لشرعيته وأحد محددات “عقيدة” الأمن القومي التي يتبناها؛ فقد جاء لمنع انزلاق البلاد إلى فوضى بعد حكم الإخوان المحدود المدة والكارثي الأثر، وللحيلولة دون ملاقاة مصير سوريا وليبيا واليمن، لذا فقد كان المطلوب هو منع تكرار يناير مرة أخرى باستعادة بعض -وليس كل- أجهزة الدولة لوظائفها وأدوارها -خاصة الهيمنة على المجتمع وقمع قواه جميعا، بالإضافة إلى تحقيق قدر من النمو الاقتصادي يستشعره المواطن في تحسن مستوى معيشته.
مشكل هذا التعريف للاستقرار أنه لم يستطع أن يميز بين الأسباب الهيكلية التي أنتجت يناير فيتقدم للتعامل معها، وبين ما ترتب عليها من تداعيات ساهم الجميع في الوصول إليها؛ أقصد الجميع في معارضة لخطاب سائد يلقي بالتبعة علي الآخرين ومبرئا النفس.
سبق أن عالجت بالتفصيل فكرة الاستثمار في الاستقرار في المنطقة ككل وفي مصر بصفة خاصة، وأبرزت أن غياب التوافق بين الأطراف جميعا على المقصود به يدفع إلى مزيد من عدم الاستقرار في الإقليم ككل وفي داخل البلدان أيضا.
لكن ما علاقة ذلك بالحوار السياسي؟
إن مدخل تحقيق الاستقرار -في ظني- هو “عقد اجتماعي جديد” يقوم على دمج الديموقراطية السياسية في المطالب الاجتماعية/الاقتصادية لجمهور المصريين، وهذا يعني أنه بدلا من أن تكون الدولة فوق المجتمع ومتعالية على طبقاته كدولة يوليو ٢٠١٣؛ فيجب أن تكون الدولة مكانا للتدافع السلمي لمصالح مواطنيها، وتكون سياساتها تعبيرا عن هذا التدافع.
فهل يمكن أن يكون هذا هو أفق الحوار المزمع؛ أم نكتفي بحديث في الفروع والجزئيات؟

ثانيا: إدماج أولويات المصريين في الحوار:

في دراسة هامة للحوار التونسي الذي جري في الفترة بين ٢٠١٣-٢٠١٤ والذي ساهم بنجاح في معالجة الأزمة السياسية التي تفاقمت وقتها نتاج عوامل كثيرة؛ تنتهي هذه الدراسة التوثيقية إلى أن إحدى مشكلاته تمثلت في أن الجمهور قد رأى فيه معالجة لأزمة النخب السياسية وحل لمعضلاتها هي لا مشكلاته هو؛ فالجمهور التونسي لم يلحظ تأثيرا لنجاح حوار النخبة علي معيشته وأولوياته الاقتصادية، وهو ما ساهم بالوصول إلى الأزمة التونسية الحالية والتي تعكس الانفصال والخلف بين المجالين السياسي من ناحية وبين الاقتصادي/الاجتماعي من ناحية أخرى.
بعبارة أخرى؛ إن تركيز الجمهور العربي على ضرورة تحسين الظروف المعيشية اليومية لا يعني أنهم غير مهتمين بتحسين الحكم أو أنهم يرفضون الديمقراطية. لا يعتقد العرب -كما أشار الباروميتر العربي في استطلاعاته المتتالية- أن الديمقراطية سيئة بطبيعتها، وبدلا من ذلك، فقد تبنوا نهجا قائما على النتائج تجاه الديمقراطية، نهجا لا يوفر الشرعية وحكم القانون فحسب؛ بل أيضا الظروف الاجتماعية والاقتصادية المزدهرة.

ما الذي يمكن أن نتعلمه -إذن- من الدرس التونسي؟

يدرك قطاع عريض من النخب المصرية أن الأزمة الاقتصادية التي انعكست على مستوى معيشة المصريين أحد العوامل الأساسية الدافعة للحوار السياسي قدما الآن، لكن في نفس الوقت لم يتضح بعد كيف يمكن للحوار أن يكون له تأثير على هذه الأزمة، ويساهم في معالجتها؟
النظام في خطابه يلقي بالتبعة علي كورونا والحرب الأوكرانية، وما قدمه من إجراءات أعلن عنها رئيس الوزراء في مؤتمره الصحفي -منتصف مايو/أيار الماضي- لم تتعامل مع العوامل الهيكلية التي أوصلتنا إلى ذلك، ولا ترقى إلى أن تكون روشتة إنقاذ شامل، أما خطاب المعارضة، فلم يقدم حتى الآن تصورا أو خطة إنقاذ واضحة، ناهيك عن استشعار قطاع منها أنه لا يملك تأثيرا على هذا الملف، فلا قدرة له عليه.
فهل يمكن أن يكون الحوار مدخلا لتقديم خطة إنقاذ اقتصادي؟ وكيف سيجري التوافق على ذلك؟ ومن سيقوم على تنفيذها؟ -أسئلة يجب أن ينشغل بها المقبلون على الحوار، وإلا ازدادت الفجوة بين الدولة ونخبتها من جهة وبين جموع المصريين من جهة اخري؛ فتعمقت أزمة الشرعية.

ثالثا: أزمة التمثيل

من يمثل من في مصر الآن؟ وبالتالي من يتحاور مع من في مصر؟ هل يمكن أن تطمأن إلى أن مؤسسات السياسة والمجتمع المدني تعبر عن مصالح جماهيرها؟ كيف تضمن لمؤسسات تمت هندستها بأدوات الأمن أن تعبر عن مصالح أعضائها؟
هذا الحوار سيدفع ثمن غياب قوى ومؤسسات سياسية قادرة على أن تعبر عن قطاعات جماهيرية وتأطر مصالحها، وللأسف سيتحول إلى ظاهرة صوتية في الإعلام -كما نشهد الآن، ولا يعني هذا التخلي عنه ولكن يجب أن ندرك حدوده، وفي نفس الوقت المستهدف منه وهو: بداية حقيقية وجادة لاستعادة السياسة وفتح المجال السياسي في بر مصر -أو هكذا ينبغي أن يكون، ويصبح السؤال حول الحد الأدني اللازم لذلك؟
مشكل التمثيل وضعف مؤسسات السياسة والمجتمع قد يثير قضية الازدواجية بين مؤسسات الحكم وبين عملية الحوار؛ فالمكان الطبيعي لهكذا حوارات هو البرلمان بمؤسستيه، لكن البرلمان لضعفه لم يعد هو المكان الطبيعي لذلك.
هذه الازدواجية تطرح قضية تنفيذ مخرجات الحوار، فإذا تم الاتفاق على مخرجات معينة للحوار فمن يضمن تنفيذها؛ خاصة أن بعضها سيكون طويل المدي عند التنفيذ؟ صحيح أن التزام الرئيس مهم، ولكن من يضمن استمراره في ظل ظروف وسياقات تتغير بسرعة؟

رابعا: مشكل الإقصاء

وهو مشكل لا يتعلق فقط بغياب الإخوان وتحالفهم القديم للشرعية عنه؛ برغم إنه الفيل الذي في الغرفة والذي لا يريد أن يتقدم أحد للتعامل معه؛ وإنما يتعلق:
أولا: بإقصاء داخل الفصائل السياسية من كتلة ٣٠ يونيو، وكأن أحد مقاصد النظام هو إعادة إنتاج تحالف ٣٠ -6 مرة أخرى ولكن وفق مقاسه هو -أي وفق عملية إبعاد وتقريب، أو على حد قول أحد الصحفيين المطلعين: “إعادة اكتشاف للفاعلين السياسيين بعد ثماني سنوات من الغياب”، ولكنه يجري بغير وضوح لمعايير إعادة الهندسة وفي غياب إدراك لما جرى علي قوى ٣٠ ستة من تغييرات، بعبارة أخرى لا يمكن أن تنزل النهر مرتين وتجد نفس الماء إلا إذا كان آسنا راكدا.
وثانيا: بغياب موقف من الدياسبورا المصرية التي صارت -بحكم عوامل متعددة- لها تأثير على المجال السياسي الداخلي، وهو إن كان ضعيفا الآن لكن في ظل اختفاء للحدود الفاصلة بحكم العولمة بين الداخل والخارج؛ فمن المتوقع زيادته.
الكلمة المفتاحية لتصميم أي عملية حوار هي الشمول وعدم الإقصاء، ولا يعني ذلك شمول العملية لأصحاب المصلحة جميعا من اللحظة الأولى؛ ولكنه يعني ضرورة امتلاك رؤية -بغض النظر عن وقت تنفيذها- لدمج جميع الفاعلين في العملية، وإلا فإن المستبعدين هم أول الرابحين من فشل الحوار، الذي هو بحكم طبيعته عملية معقدة وتتداخل به عناصر كثيرة، ومعرض لاحتمالات الفشل أكثر من النجاح.
وهنا أطرح المدخل الذي أرتأيه وهو تحديد شروط لقبول الجميع في الحوار، لا استبعاد علي الهوية السياسية أو الانتماء الأيديولوجي والسياسي.
مشكلة الإقصاء هو ليس استبعاد طرف سياسي ما، ولكن أن تكون لديك قوة اجتماعية لا يتم التعبير عنها وعكس مصالحها ورؤاها في المجال السياسي، وخطورة هندسة المجال السياسي بأدوات سلطوية هو أنك لا تعرف الأوزان الحقيقية لهذه القوى، وعادة ما نفاجأ بها، كما أن استبعادها هو سبيل الراديكالية والتطرف الذي قد يكون عنيفا في لحظات ما.

خامسا: مشكل بناء الثقة

بناء الثقة بضمانات متبادلة بين أطراف الحوار؛ وكما تطلبها المعارضة من مدخل حقوقي يتعلق بالتعامل مع الملف الذي بات يؤرق الضمير الوطني المصري؛ فإنه واضح أن بعض أجهزة الدولة تطالب هي أيضا بضمانات، وعلى ما يبدو فإن بعض هذه الأجهزة تربط بين الاثنين -وهو مفهوم ويجب أخذه في الاعتبار؛ وإن لم يكن مقبولا أو مسوغا لاختلاف موازين القوي بين الطرفين.
الحوار أظهر هواجس ومخاوف بعض أجهزة الدولة والتي عطلت حتي الآن إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وهو ما يستدعي حوارا جادا حول مفهوم “الأمن” أو الاستقرار الأمني -كما تطرحه هذه الأجهزة، لكن المشكل هو أن الحوار حول ذلك من التابوهات المحرمة في مصر؛ فهو محتكر مما يطلق عليه الأجهزة “السيادية”، برغم أن مفاهيم الأمن اتسعت لتكون شأنا مجتمعيا وإنسانيا، وهو أخطر من أن يترك لهذه الأجهزة وحدها.
وهنا نقطة جديرة بالنقاش: تحقيق الأمن دون النمو الاقتصادي قد يؤدي إلى نوع من الاستقرار على المدى القصير فقط؛ لكنه لن يعالج المطالب الشعبية بالحصول على الفرص الاقتصادية والكرامة، وعلى العكس من ذلك، فإنه من دون ضمان الأمن تكون المبادرات الاقتصادية للحكومة عُرضة لتهديدات متزايدة من العنف خارج نطاق القانون، ومثال على ذلك ليبيا.
إن النمو الاقتصادي القوي هو مؤشر قوي للتنبؤ بالاستقرار، وبالمثل لا يرتبط النمو الاقتصادي المنخفض دائما بعدم الاستقرار، ولكن ما تهمله مؤشرات النمو هو التفاوت بين المواطنين وتوزيع الثروة، إلى جانب رضا الجمهور، ومستوى الخدمات، والرعاية الصحية، والمياه النظيفة، والسكن ميسور التكلفة، والآراء السياسية.
وهنا يصبح التعليم أحد مكونات الاستقرار؛ فإذا كنت جادا بشأن تغيير الاقتصاد وتدريب الناس على العمل في القرن ال21، فهذا هو المكان الذي يتعين عليك البدء منه، ويرتبط بالنمو الاقتصادي والتعليم “تضخم أعداد الشباب” الذي يعني المزيد والمزيد من الشباب والشابات في الاقتصادات التي لا يمكن أن توفر لهم وظائف منتجة، أو مدخولا مجديا للفرد، بما يجعل أي خطابات عن الاستقرار/الأمن دون النظر إلى أوضاعهم لا معنى لها.