مع تعثر وتعليق الحوار السوداني- السوداني، الذي تسيره الآلية الثلاثية، بقيادة بعثة يونيتامس الأممية. ضمن مساعي حل الأزمة السياسية في البلاد، وتقريب وجهات النظر بين الأطراف المدنية والعسكرية. تتجه التساؤلات حول قدرة البعثة الأممية في تنفيذ بنود تفويضها في بناء السلم، والمساعدة في تحقيق الانتقال الديمقراطي الآمن في السودان.
أصبحت البعثة الأممية في حد ذاتها مسارا للخلاف والشكوك في السودان، بين قوى تعارض وجودها وتشكك في مصداقيتها، وقوى أخرى تدافع عنها. وترى فيها الملاذ الآمن لحماية مدنية الدولة، ووقف الطريق أمام أي محاولات من القوى العسكرية للاستئثار بالسلطة.
ورغم العلاقة المتوترة بين البعثة الأممية ومجلس السيادة الحاكم في السودان. والتي ظهرت ملامحها واضحة في تهديدات مباشرة ومعلنة من رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان بطردها من البلاد. إلا أنها نجحت، بمساعدة الاتحاد الإفريقي، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية IGAD في إطلاق الحوار السوداني. بمشاركة من مجلس السيادة، وقوى سياسية أخرى ترفض استمرار البعثة في السودان. في وقت رفضت فيه القوى السياسية المدنية -المدافعة عن بقاء البعثة الأممية- الجلوس على مائدة الحوار.
اقرأ أيضا: خلافات العسكريين والمدنيين تضعف فرص التحول الديمقراطي في السودان
لماذا تشكلت البعثة الأممية في السودان؟
وفقاً لخطاب منسوب لرئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك- تداوله الإعلام- في فبراير/ شباط 2020. طلب حمدوك من الأمين العام للأمم المتحدة، أن ترسل المنظمة بعثة سياسية إلى بلاده يشكلها مجلس الأمن. لتضطلع بمهام من شأنها حماية الانتقال الديمقراطي في السودان.
كان حمدوك يأمل أن تقوم البعثة على ضمان تنفيذ الدستور الانتقالي “الوثيقة الدستورية”، ووضع الدستور الدائم للبلاد. وهيكلة مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية، وإعادة تشكيلها على نحو جديد، بما في ذلك مؤسسة الجيش والشرطة والقضاء والنيابة. إضافة إلى المساعدة في حماية الاقتصاد السوداني، ورعاية اتفاق سلام بين السلطة والحركات المسلحة، في دارفور والنيل الأزرق وغيرها من مناطق الصراع. وهو ما مثّل تفويضا من رئيس الوزراء للبعثة في ممارسة هذه المهام الحيوية.
بالفعل، جاء تشكيل البعثة الأممية السياسية لحماية الانتقال في السودان “يونيتامس”. تحت الفصل السادس لميثاق الأمم المتحدة لدعم السلام. حيث نص خطاب حمدوك وقتها أن “تشمل ولاية البعثة المرتقبة كامل أراضي السودان”. معتبراً أن هناك “مخاطر تحيط بعملية الانتقال في بلاده، بما يستوجب على المجتمع الدولي بما في ذلك الأمم المتحدة التقدم الآن للمساعدة في القضايا المطروحة والمستعجلة في إرساء الأساس لمسيرة السودان على طريق السلام”.
وفي يونيو/ حزيران 2020، تبنى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 2524 لسنة 2020، والذي أنشأ بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان. والتي تختص بتقديم الدعم للسودان خلال انتقاله السياسي لحكم ديمقراطي، ولمدة 12 شهراً بشكل مبدئي. حيث تم التمديد بتفويض “يونيتامس” لمدة عامين إضافيين حتى يونيو/ حزيران 2023.
ووفقاَ لبيانات رسمية على موقع البعثة، فإنها -عبر مقرها في الخرطوم- تقدم الدعم من خلال العديد من المبادرات السياسية والتنموية لبناء السلام. وبما يتضمن تقديم العون للسودانيين في تحقيق أهداف وثيقة الإعلان الدستوري.
السودان.. تاريخ من العداء مع البعثات الأجنبية
رغم الانفتاح الواضح والكبير للسودان على المجتمع الدولي منذ إزاحة نظام البشير، وما تبع الثورة السودانية من تقارب دولي ملحوظ. تمثل في رفع العقوبات الأمريكية، وإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتطبيع العلاقات السودانية- الإسرائيلية. لا يزال هناك حالة من عداء من بعض التيارات تجاه البعثات الأجنبية والأممية بشكل خاص. والتي تعمل في ملفات تمس بدرجة أو بأخرى ما يسمى “السيادة الوطنية للدولة”. وتعاملها في ملفات تتعلق بالأمن والسلم والاقتصاد، وما يترتب عليها من ترتيبات سياسية وأمنية.
وكان للسودان العديد من المواقف التاريخية بخاصة من قبل التيار الإسلامي متمثلاً في جبهة الإنقاذ -وقت حكم البشير- مع البعثات الأممية والموظفين الدوليين. حيث كان البشير قد قرر طرد منظمات الإغاثة الإنسانية الأجنبية العاملة في إقليم دارفور. معتبراً أنها تعمل ضد سيادة الدولة، واتهامها بمساعدة المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقاتها بشأنه هو شخصيا.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2006، قررت الحكومة السودانية إنهاء مهمة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة الي السودان يان برونك. باعتباره شخصا غير مرغوب فيه، وذلك على خلفية تصريحات له مفادها بأن الروح المعنوية للجيش السوداني منخفضة. بعد معاناته من هزيمتين كبيرتين في منطقة دارفور، واتهمت السلطات السودانية المبعوث الأممي وقتها بأنه متورط في أنشطة لا تتسق مع مهامه.
وفي 2014 قرر وزير الخارجية السوداني علي كرتي -الذي يشغل الآن منصب الأمين العام للحركة الإسلامية- طرد مسئولين دوليين. منهم ممثل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية علي الزعتري، والمدير الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ايفون هيل. معتبراً أنه قرار سيادي للسودان بدعوى تجاوز الموظفين حدود التفويض.
اقرأ أيضا: كيف تتعامل واشنطن مع انقلاب أحرجها في السودان؟
البعثة الأممية.. مساعدة أم وصاية؟
تتماشى الأهداف الأساسية للبعثة الأممية مع أهداف التنمية المستدامة للمنظمة الدولية. وهي المساعدة في الانتقال السياسي، والتقدم باتجاه حكم ديمقراطي، وتعزيز وحماية حقوق الإنسان واستدامة السلام. ودعمُ مسارات السلام، وتنفيذ اتفاقيات السلام المستقبلية، وحماية المدنيين وسيادة القانون. وعلى وجه الخصوص في دارفور وفي المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق)، ودعم إتاحة المساعدات الاقتصادية والتنموية، وتنسيق المساعدات الإنسانية. من خلال ضمان نهج تكاملي لوكالات الأمم المتحدة، والتمويل، والبرامج المتاحين من خلالها، وعبر التعاون مع المؤسسات المالية الدولية.
حسب الأهداف المعلنة، نرى أنها -جميعاً- تدخل في صلب عملية إدارة الحياة السياسية والاقتصادية في السودان خلال المرحلة الانتقالية الحالية. وهو ما فتح باب السجال والتوتر المستمر بين البعثة والمكونات السياسية في السودان. وعلى رأسها مجلس السيادة الحاكم برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، إضافة إلى مكونات سياسية وعسكرية أخرى.
يرى معارضون للوجود الأممي أن البعثة تتعامل وفق سياسة الوصاية والتدخل في الشئون الداخلية للبلاد، تحت شعار “حماية الانتقال الديمقراطي”. وهو ما يجعل البلاد تحت وصاية جبرية دولية. إذ تتدخل البعثة -حسب رأيهم- في كافة القضايا السودانية، تحت مسمى دعم الاستقرار السياسي، فضلاً عن مشاركتها في أي عمليات ومشاورات. من شأنها صياغة الدستور السوداني، وإجراء الانتخابات، والتعداد السكاني، والتخطيط التنموي، وتوفير العون الدولي. وفي الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الوطنية.
هل البعثة آلية لحماية الانتقال الديمقراطي؟
منذ تهديد الفريق عبد الفتاح البرهان في إبريل/ نيسان الماضي، بطرد البعثة الأممية من السودان. ارتفعت أصوات عدد من التيارات السياسة -في مقدمتها المنتمين للحركة الإسلامية- بمهاجمة البعثة الأممية، وإطلاق الشكوك في أدوار مشبوهة للبعثة. تصب في كونها نوعاً من” الوصاية الدولية” على السودان. وهو ما بات تحريضاً واضحاً ومباشراً ضد البعثة واستمرار وجودها في الخرطوم، ومحاولة للحيلولة دون تنفيذ أدوارها.
ونقلت صحف سودانية معلومات عن رفض المكون العسكري لوجود البعثة الأممية من قبل مجيئها وتكليفها بالعمل في السودان. إذ كان وجودها نتاج جهد ومسعى شخصي من رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، دون تنسيق مع المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي. حيث ساهمت الضغوط واتصالات دولية وإقليمية في قبول العسكريين. وكانت هناك العديد من المحاولات لوقف نشاطها، منذ عزل حمدوك، والإطاحة بالمكون المدني. ضمن قرارات 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
منذ هذه القرارات، وانتقاد البعثة الأممية للإطاحة بالمكون المدني. شن الفريق البرهان الهجوم على عمل البعثة وممارستها في أغلب خطاباته، وكان آخرها تصريح له في القاهرة ندد فيه بممارسات البعثة الأممية قائلا: “أنها جاءت لتنفيذ مهام محددة ليس من بينها ما تمارسه حالياً”. بينما عارضت البعثة بشدة قرارات البرهان. واعتبرت أن عدم نجاحها في تنفيذ مهامها في السودان سببه تلك القرارات “التي تعد انقلاباً أجهض العملية السياسية. وتسببت في غياب اتفاق سياسي للعودة إلى مسار انتقالي مقبول”.
ظل رئيس المجلس السيادي السوداني على مساره، في انتقاد أداء البعثة الأممية كلما وجد فرصة لذلك. حيث قال بيان لمجلس السيادة رداً على إحاطة البعثة في مجلس الأمن الدولي في أبريل/ نيسان الماضي، “على البعثة الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف في الساحة، وقد تتخذ اجراءات بطرد البعثة إن لم تكفَّ عن التمادي في تجاوز تفويضها والتدخل السافر في الشأن السوداني”.
اقرأ أيضا: السودان.. حكاية 27 عامًا في قوائم العقوبات
محاولات لاستمرار البعثة الأممية
استمر السجال بين البعثة والسلطة الانتقالية في السودان، حتى اتخذت وزارة الخارجية السودانية اجراءات لتقييم وتقويم عملها وإصلاح مسارها. حيث قال وزير الخارجية السوداني المكلف علي الصادق في مؤتمر صحفي في مايو/أيار الماضي. إن “يونيتامس لم تف بالتزاماتها وشاب عملها التقصير، رغم مرور قرابة العامين على إنشائها وهي مدة كفيلة بتحقيق الكثير من أهدافها المرجوة”. مؤكداً رفض السودان لأي تدخلات خارجية في الشئون الداخلية، خاصة الإجراءات القضائية.
في الوقت نفسه، تطورت تهديدات السلطة الانتقالية وانتقاداتها لأداء البعثة الأممية. إلى الدفع بمتظاهرين مؤيدين للمكون العسكري للتظاهر، عدة مرات، أمام مقر البعثة في العاصمة الخرطوم. منددين بما أسموه “التدخلات الأجنبية” في شؤون بلادهم، والمطالبة برحيلهم.
لكن قوى سياسية أخرى، في مقدمها تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، أعلنت عن رفضها المضايقات المختلفة بحق البعثة الأممية وأعضائها. معتبرة أن “من يقفون دون استمرار البعثة يريدون أن ترتد السودان لعصور الظلام السحيقة. ومعاداة المجتمع الدولي ومنظماته، لعودة البلاد للعزلة”، حسب بيان لقوى الحرية والتغيير تعقيباً على رفض تجديد تأشيرة الإقامة لمستشارة البعثة الأممية في مايو/أيار الماضي.
وترى القوى السياسية المدافعة عن بقاء البعثة الأممية في السودان. أن من يحاول تعطيل عملها “هم من يحملون توجهات إسلامية ومنسوبي النظام السابق”. مؤكدة أن البعثة تحقق للسودان العديد من الإيجابيات، في دعم عمليات السلام وتطبيقها، وحماية المدنيين في المناطق المتأثرة بالحرب. وإسناد مجهودات حشد الدعم الدولي التنموي والإنساني للسودان. وهو ما تم تحديده وفق أجندة السودانيين من أجل الاندماج في المجتمع الدولي، من موقع مستقل يحترم فيه السودان وينظر إليه بعين التقدير.
لماذا العداء؟
رغم التظاهرات والتهديدات ولغة التصعيد ضد البعثة الأممية خلال الشهرين الأخيرين. إلا أن عددا آخر من الأصوات السودانية تدعم استمرار البعثة الأممية في الخرطوم والقيام بالمهام الموكلة إليها لضمان وتسهيل عملية الانتقال الديمقراطي الآمن.
في تصريحات نقلتها صحيفة “السوداني”، قال وزير الخارجية السابق السفير إبراهيم طه أيوب إن “أربع فئات هي من تناصب البعثة العداء وترى في وجودها خطرًا على مصالحها. وبالتالي فهي تحرض عليها، بل وتقود حربًا علنية ضد فولكر رئيس البعثة. حتى يظل السودان مشغولًا بمشاكله الداخلية، ولا يقوى بالتالي على التنمية والتطور وأخذ قراره بيديه”.
ويرى أيوب أن “المكون العسكري هو من يقف على رأس هذه القائمة. وعلى رأسهم كل من رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وعضو المجلس إبراهيم جابر. حيث أن نجاح مهمة البعثة يعني نهاية سيطرتهم على مقاليد السلطة وهيمنتهم على مصادر الثروة. إضافة إلى محمد حمدان دقلو، وقيادات الدعم السريع. والذين يتمتعون حاليًا بالقوة ويخشون ضياعها، وفلول النظام السابق، الذين يؤمنون أن في وجود البعثة الدولية عائقًا لعودتهم للسلطة مرة أخرى، إضافة إلى قيادات أهلية من شرق السودان وبعض الجماعات الدارفورية”.
يضيف وزير الخارجية السابق أن “قوى إقليمية ودولية ترى أن لها حقًا معلومًا في السودان وتأتي على رأس هذه القائمة روسيا والصين. وهما من عارضوا في البداية البعثة الأممية”.
ويبقى نجاح البعثة الأممية في مهمتها الأساسية في حماية الانتقال الأمن للسلطة في السودان رهن نجاح الحوار السوداني- السوداني الجاري حالياً. وإقناع الأطراف السودانية المختلفة في الوصول إلى وثيقة وخارطة طريق. تنتهي بإجراء انتخابات ديمقراطية، وصياغة الدستور، وبناء السلم في مناطق النزاع المختلفة. وهو ما لن يتم إلا بإزالة الشكوك والحملات الإعلامية ضد البعثة ورئيسيها. بما يضمن تسيير عملها والتجاوب مع ما تقدمه من مقترحات وبدائل للأطراف المتنازعة.