طوال ما يسمى بالدولة الحديثة، من مطلع القرن التاسع عشر إلى خواتيم الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، لم يحدث أن ترك حاكم واحد مصر عند نهاية حكمه أفضل مما كانت عليه عند بداية حكمه، بما في ذلك محمد علي باشا 1805- 1848م الذي صعد بها إلى آفاق الإمبراطورية، ثم انحدر بها إلى ضيعة لا دور لها، غير توارثها بين أنجاله وأحفاده، الذين عجزوا عن حماية عروشهم، كما عجزوا عن حماية مصر، فعاش بعضهم تحت حماية فرنسا، ثم عاش بعضهم الآخر تحت حماية الانجليز حتى منتصف القرن العشرين .
كذلك جمال عبد الناصر 1954 – 1970 الذي صعد بمصر لتكون قائدة للعالم الناهض ثم انحدر بها إلى دولة مهزومة انهزمت ثلاث مرات، انهزمت وحدتها مع سوريا 1958- 1961، ثم انهزمت في مستنقع الحرب في اليمن 1962- 1967، انهزمت أمام إسرائيل في 1967، ثم مات عن بلد مهزوم مكتوب عليه أن يحارب بعد أن تم استنزاف موارده وتحطيم جيشه، لقد استنزف عبد الناصر مصر في السنوات العشر الأخيرة من حكمه بما أسقط ترتيبها المتقدم على قمة العالم العربي، لتتحول من تلك اللحظة إلى ترتيب أدنى يضطرها لقبول المنح والمساعدات من دول عربية مازال اسمها مكتوبا بالأقلام الرصاص في دفاتر التاريخ .
وبينهما الخديوي إسماعيل 1863 – 1879، وكان في طموحه خليطا من مطامح جده محمد علي باشا مع حماس جمال عبد الناصر، كان طامحا مثل جده متسرعا مثل عبد الناصر، كان أول حاكم في الدولة الحديثة يتم عزله بتوافق دولي، وكان مثله مثل عبد الناصر أول حاكم من سلالة محمد علي باشا يتسبب في وضع مصر تحت الوصاية الدولية ثم تحت الاحتلال الانجليزي المسلح، تماما مثلما كان عبد الناصر أول حاكم في العصر الجمهوري يشهد حكمه هزيمة في وزن هزيمته أمام إسرائيل في 5 يونيو 1967، ومثلما دفعت مصر أفدح الأثمان بسبب سياسات الخديوي كذلك دفعت ومازالت وسوف تظل تدفع أفدح الأثمان بسبب سياسات عبد الناصر .
لم يترك محمد علي باشا مصر أحسن حالا مما أخذها إلا لقب الدولة الحديثة الذي روجته وأشاعته ماكينات الدعاية الفرنسية في القرن التاسع عشر، وكذلك لم يكن خلفاؤه أحسن منه حظا باستثناء الأحلام الطفولية أن تكون مصر قطعة من أوروبا. وكذلك لم يترك عبد الناصر مصر أفضل حالا مما أخذها وعلى دربه سار خلفاؤه، حتى وصلت مصر بعد قرنين وعقدين من تاريخ الدولة الحديثة إلى عبء على نفسها وعبء على شعبها، الدولة الحديثة في شكلها الأخير خصم من الحداثة وليست إضافة إليها.
منذ الغزو العثماني 1517، لم تطأ أقدام الغزاة الأجانب أرض مصر، إلا مع بونابرت عند خاتمة القرن الثامن عشر، ثم مع الانجليز عند العقد التاسع من القرن التاسع عشر، لقد اتسمت الدولة الحديثة بالهشاشة في مواجهة الأجنبي، وفي المقابل اتسمت بالصلابة حد القمع والقهر والبطش في مواجهة الشعب .
فمنذ تصدى الأيوبيون والمماليك في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين لحملات الصليبيين والمغول التتار، ثم منذ انكسر المماليك أمام العثمانيين 1517، ثم منذ انكسر المماليك أمام الفرنسيين 1789، لم تعرف مصر التدخل الأجنبي ولا الوصاية الأجنبية ولا الاحتلال الأجنبي بمثلما حصل في عهود ما يسمى الدولة الحديثة، أكثف وأعنف وأخبث تدخل أجنبي – بكافة أشكاله – لم تعرفه مصر في غير الدولة الحديثة .
***
كان المؤرخ الفرنسي إدوارد جوان صاحب كتاب “مصر في القرن التاسع عشر” وأول من أطلق على محمد علي باشا لقب “نابليون مصر وبونابرت الشرق” يقول عن مصر في عهد محمد علي باشا إنها “ابنتنا المُتبناه” أي ابنة فرنسا بالتبني، أي فرنسا تعهدت محمد علي باشا ومشروعه بالرعاية، هذا التبني وهذه الرعاية كانت الحل البديل للفشل العسكري الذي منيت به حملة بونابرت في مصر، هذه الحملة التي يفخر بها الكاتب على أساس أنها انتقام فرنسي متأخر من المماليك الذين نجحوا في القرن الثالث عشر في صد الحملات الصليبية التي كان يقودها ملوك فرنسا المتدينين الأتقياء في ذلك الوقت، يقول: “ولما مالت شمس القرن الثامن عشر إلى المغيب، كان الجنود الفرنسيون يترنمون بنشيد المارسيليز -النشيد الوطني بعد الثورة الفرنسية- على سواحل مصر، مثلما كان أجدادهم -يقصد الحملات الصليبية- يترنمون فيها بأناشيد الصليب، قبل ذلك بخمسمائة عام”.
ثم يستدرك، ليشرح أن فرنسا في تبنيها لمشروع محمد علي باشا لم تكن تصدر عن عقلية صليبية ولا عن روح صراعية، ولكن كنوع من التصالح ثم التصافح بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، يقول: “فرنسا أعارت مصر خلاصة النجباء من علمائها وضباطها وصناعها وأطبائها ومهندسيها ليأخذوا بيدها فيما اعتزمت أن تقطعه من أشواط في هذا السبيل”.
ثم يقول: “عهدت مصر بشؤون الكثير من مصالحها كالجيش ودور الصناعة والصحة العامة إلى الأخصائيين الفرنسيين، وأنشأت المدارس في أمهات المدن المصرية لتدريس العلوم والفنون واللغة والأدب الفرنسي ضمن ما يُلقى بها من الدروس”.
ثم يقول: “أرسلت فرنسا إلى ضفاف النيل أشعة ساطعةً من نور عرفانها وتم للشرق والغرب بذلك ما كانا يرنوان إليه من التصافح ثم التصالح منذ زمن بعيد”.
***
كذلك يقدم المؤرخ البريطاني دونالد أندرياس كاميرون، في كتاب يحمل العنوان الرئيس ذاته “مصر في القرن التاسع عشر” الرؤية المكملة لما قدمه المؤرخ الفرنسي، يقول: “ربما تكون مصر بعد وفاة الباشا العظيم 1849 دخلت عالم النسيان، باستثناء مرور تجارة الترانزيت إلى الهند بأراضيها، كان محمد علي باشا بدأ إصلاحاته بداية خاطئة، كان يرضى -في أغلب الأحيان- بشيء سطحي من الحضارة الأوروبية، ومع ذلك، وأيا كانت عيوبه أو أخطاؤه الأوروبية، فقد كان رجلا قويا ومسلحا، كان قادرا على حماية أمن وسلامة بلده، ولم يكن يسمح بأي تدخل في شؤونه المحلية” ص 195 .
يشبه دونالد أندرياس كاميرون الانتقال من حضرة محمد علي باشا إلى حضرة خلفائه بالسقوط من هضبة عالية إلى منحدر سحيق، بالذات الأربعة الذين يقف عندهم الكتاب: عباس الأول، سعيد، إسماعيل، توفيق .
يقول: “هذه الفترة من وفاة الباشا 1849 إلى عزل إسماعيل، ثلاثين عاما، ليس فيها ما يثير الإعجاب، خالية من الأحداث السياسية والشجاعة الأميرية، وخالية من التضحية بالنفس، وباستثناء سعيد فإنها خالية من أي نزعة إنسانية يبديها الحاكم تجاه شعب من الفلاحين الذين يحكمهم”.
ثم يقول: “هذا يعني أن قصة مصر الحديثة، حتى عصر توفيق، أصبحت قصة كئيبة بعد وفاة محمد علي باشا، فلم تكن الدولة الحديثة غير سجل تاريخي من الأحوال المالية السيئة، والنصب الأجنبي، والخبث واللؤم الأجنبي، والحاشية الفاسدة، والبلاط المسرف المبذر، مع إهمال حياة ومعاناة الناس”.
ثم يوجه اللوم والنقد لقومه الأوروبيين فيقول: “ليس أمامنا من شيء غير الإحساس بالعار والخجل، عندما نعلم أن المغامرين المسيحيين – يقصد المغامرين الأوروبيين – على امتداد هذه السنوات الثلاثين من وفاة محمد علي باشا حتى عزل إسماعيل كانوا يجعلون من مسلمي مصر ضحايا لهم، لا عن طريق إذلالهم في واقع الأمر، لكن عن طريق الإساءة إليهم وإساءة استعمال الامتيازات الأجنبية الممنوحة لهم، وكذلك بإساءة استعمال النصوص القانونية الأوروبية الغامضة التي لا يعرف عنها الشرقيون شيئا ولم يعتادوا عليها”.
من بين من حكموا مصر من سلالة محمد علي باشا، يظل الباشا نفسه ثم حفيده إسماعيل هما الأبرز، خاصة أن إبراهيم باشا -النجل الأكبر ووالد إسماعيل- لم يحكم غير ستة أشهر وهو يعاني من الأمراض ما قضى به نحبه والباشا على قيد الحياة .
***
يقول دونالد أندرياس كاميرون عن حصاد ما يقرب من نصف قرن من حكم محمد علي باشا: “خلاصة القول إن مصر في العام 1849 -عند وفاة الباشا- كانت أفقر منها قبل خمسين عاما 1799، فقد بارت الأرض، وهرب الفلاحون، وأخذ عدد السكان يتلاشى بصورة تدريجية” (ص 185 من طبعة المركز القومي للترجمة).
وفي تقييمه لحصاد إسماعيل 1863- 1879 يقول: “إلى هنا نكون قد وصلنا إلى ذروة الأسرة المالكة، حيث تحول واحد من أبناء القائد المحارب إبراهيم باشا -يقصد إسماعيل- إلى سمسار للأوراق المالية، فبعد خمسة عشر عاما من رحيل الباشا العظيم، نرى حفيده إسماعيل يشرع في تسليم البلاد وإخضاعها للاستلاف غير المسؤول من أسواق المال الأوروبية كلها، ويفتح الأبواب للمضاربات المالية، ويغرق المصالح الوطنية في بحر التدافع الأجنبي على الغنائم”.
ومثلما أشاد المؤرخ الفرنسي إدوارد جوان في كتابه “تاريخ مصر في القرن التاسع عشر” بغناء جنود بونابرت بأناشيد الثورة الفرنسية على السواحل المصرية، فإن المؤرخ الانجليزي دونالد أندرياس كاميرون في كتابه “مصر في القرن التاسع عشر” لم يتردد في التباهي بالذكاء الانجليزي الذي لم يوافق على حفر قناة السويس ثم لم يدخل في صدام مع فرنسا بسببها ثم التقط الفرصة واشترى أسهم المفلس حاكم مصر ثم كان أول من استخدم القناة -أول سفينة تجارية عبرت القناة كانت بريطانية- ثم تمهل اثني عشر عاما فقط واحتل مصر كلها وليس قناة السويس فقط وبدعوة رسمية من حاكمها توفيق -نجل إسماعيل- الذي استغاث بالانجليز ضد الثورة العرابية، فكل ما زرعه الفرنسيون في ثلاثة أرباع قرن حصده الانجليز في شهرين من قصف الإسكندرية في يوليو إلى هزيمة العرابيين في التل الكبير في سبتمبر/أيلول حيث انفتح الطريق أمامهم إلى القاهرة .
يقول دونالد أندرياس كاميرون: “لو قدر لمحمد علي باشا أن ينهض من قبره، فإن روحه سوف تصاب بالدهشة، عندما يرى مناظر الجنود الانجليز في القلعة التي حكم منها مصر وكان يطيل منها النظر إلى القاهرة المدينة المحببة إلى قلبه”.
***
الدولة الحديثة – في جوهرها – إعادة تغليف للاستعمار .
وهذا هو مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله .