قبل نحو عقد من الزمان جرت في تونس عملية “حوار وطني” ساهمت في إنجاح عملية الانتقال الديمقراطي، بعد سلسلة من الاغتيالات والاضطرابات الاجتماعية، لتفوز 4 منظمات تونسية نسقت لهذا الحوار بجائزة نوبل للسلام 2015.
وبعد عقد من تلك اللحظة، يجرى الآن في تونس حوار آخر. لكنه هذه المرة حوار “ذرّ الرماد في العيون”، بتعبير نور الدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، إحدى المنظمات الفائزة بـ”نوبل”، بعدما أقنعت الخصوم السياسيين بالجلوس إلى طاولة الحوار والتفاهم على أرضية سياسية مشتركة.
خلال الأشهر الماضية، جرت الدعوة إلى “حوار وطني” من قبل عدة دول عربية هي مصر وتونس والجزائر والسودان وموريتانيا. تلك الدعوات رغم تزامنها إلا أنها جرت وفق سياقات داخلية مختلفة من دولة لأخرى. لكنها جميعًا توحدت تحت راية “التأزم” في إطار الخلافات السياسية الداخلية وانسداد أفق الحل السياسي، والضغوط الخارجية وتبعات التدهور الاقتصادي.
و”حوار تونس” كان أحد أكثر تلك الحوارات إثارةً للجدل بعدما اتفق جميع الفرقاء السياسيين على عدم جديته، وأنه مجرد رغبة من الرئيس قيس سعيّد لإضفاء غطاء من الشرعية على تحركاته السياسية الأخيرة التي يسعى فيها لاستعادة “الاستبداد الرئاسي” في إطار مشروعه السياسي، الذي سبق أن أخرجه في شكل استشارة إلكترونية في شهر مارس/آذار الماضي ولم يلق إقبالًا واسعًا مثلما كان يتوقع؛ حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة 0.4% تقريبا من عدد السكان.
اقرأ أيضًا: حوار الجزائر: “لم الشمل” أم “حوار الذئب مع ذيله”؟
اقرأ أيضا: “الحوار الوطني” من موريتانيا للسودان: تتعدد البلدان والتأزم واحد
سياق الدعوة للحوار
في ظل انتقادات سياسية وحقوقية ودولية مختلفة للرئيس التونسي منذ المسار الذي انتهجه بالانفراد بالسلطات والتضييق على خصومه السياسيين، وتحت شعار “الجمهورية الجديدة” أصدر الرئيس قيس سعيّد، في 20 مايو/أيار الماضي، مرسوما يُمهد للحوار بإنشاء “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة”.
وعيّن أستاذ القانون، العميد الصادق بلعيد رئيسا تنسيقيا لها (مقرب من سعيّد وانسحب ائتلاف “الصمود” الذي ينتمي له لاحقا من الحوار). وتتشكل الهيئة من ثلاث لجان استشارية هي: اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية – اللجنة الاستشارية القانونية – لجنة الحوار الوطني. وجميع رؤساء تلك اللجان يُعيّن بأمر رئاسي.
تكوّنت الأولى من خمس منظمات نقابية وصناعية ومهنية، بينما الثانية من مجموعة من أساتذة القانون لإعداد مشروع دستور (من المقرر أن يجرى استفتاء على مشروعه في 25 يوليو/تموز). أما الثالثة فهي لجنة مشتركة تتكون من أعضاء اللجنتين السابقتين وتقوم على “التأليف بين المقترحات التي تتقدم بها كل لجنة بهدف تأسيس جمهورية جديدة تجسيما للتطلعات الشعبية المشروعة التي عبر عنها الشعب التونسي في ثورة 17 ديسمبر 2010 وأكدها في الاستشارة الوطنية”، كما جاء في مرسوم الرئاسة التونسية.
ولكن دعوة سعيّد للحوار استبعدت أغلب الأحزاب السياسية التي بطبيعة الحال توحدت على انتقاده. ورفضت “جبهة الإنقاذ الوطني” التي تضم مجموعة من الأحزاب والنشطاء، من بينهم أحزاب النهضة، وقلب تونس، والكرامة، وائتلاف مواطنون ضد الانقلاب، مرسوم الرئيس التونسي.
كما اتهم حزب التيار الديمقراطي قيس سعيّد بنهج “مسار يقزم المجتمع ويلغي دور الأحزاب السياسية ويهمش منظمات المجتمع المدني ويجعلها شاهدة زور على صياغة دستور كتب في الغرف المغلقة بناء على استشارة إلكترونية فاشلة لم تعلن حتى نتائجها للرأي العام”. كذلك رفضت عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر، قرارات الرئيس التونسي. وقالت إن “ما يحدث هو استهزاء بالشعب وهو ديكتاتورية لكننا لن نترك تونس رهينة بيد سعيّد”.
ويرى منتقدو قيس سعيّد أن الرجل نجح في توحيد الأحزاب السياسية بالرغم من اختلافاتها الجوهرية على انتقاده والدعوة إلى تنحيته، بحسب ما ورد في تقرير “بي بي سي“.
الباحث في علم الاجتماع هشام الحاجي، يقول “في نهاية الأمر الحوار لا يكون إلا بين أطراف بينها اختلافات. الشروط المسبقة وللأسف موقف الرئيس من الأحزاب أثر كثيرا على نوعية المشاركين”. وأوضح أن المشاركة في الحوار تحولت “إلى الاقتصار على بعض المنظمات وبعض الجمعيات التي كان لها وزن في الماضي. ولكن حاليا لا يمكنها بمفردها أن تعبر عن توجهات الرأي العام”.
أما الرئيس السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (تابع لرئاسة الجمهورية) طارق الكحلاوي، فقد قلل من قيمة الحوار الوطني، قائلا “الوضع كما هو يعطي انطباعا أن الرئيس سارع في تنزيل نص قانوني حول الحوار حدد فيه الأطراف المشاركة دون الاستئناس برأيها وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل”.
اقرأ أيضًا: عن الحوار في مصر من زوايا متعددة
“اتحاد الشغل” يرفض ثم يُصعّد
كان من المفترض أن يكون “الاتحاد العام للشغل” -وهو أكبر المنظمات النقابية وأهمها ويحظى باحترام تاريخي واسع- أحد أطراف الحوار بعدما شملهم “مرسوم سعيّد” ضمن لجنة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية. لكن النقابة رفضت المشاركة معتبرةً أنه “شكلي تحدد فيه الأدوار من جانب واحد وتقصى فيه القوى المدنية”. فضلا عن كونه “استشاريا ولا يفضي إلى نتائج”.
ولم يكتف “الاتحاد” بذلك بل أعلن مُضيه في إضراب وطني (في 16 يونيو/حزيران الجاري) في الوظائف العامة والشركات العامة للدفاع عن الحقوق الاقتصادية للموظفين واحتجاجا على رفض الحكومة زيادة الأجور.
في الرابع من الشهر الجاري بدأت أولى جلسات الحوار التي ضمت مجموعة من المنظمات والأحزاب الموالية للرئيس وسط مقاطعة سياسية ومدنية واسعة؛ ليواصل اتحاد الشغل انتقاداته ويصف الأمين العام نور الدين الطبوبي الحوار بأنه “ذرّ الرماد على العيون” ومجرد حوار صوري كل مخرجاته حول النظام السياسي جاهزة مسبقا.
واعتبر الطبوبي أن منظمته أصبحت مستهدفة بشكل كبير من السلطة بعد رفضها المشاركة في الحوار. وعلّق “الاتحاد لن يذهب في الخيارات التي تعمق أزمة الشعب التونسي ولن يشارك في رسم الخيارات التي وضعتها الحكومة ولن يكون شاهد زور”.
وحذر الطبوبي من خطورة المسّ بالأمن القومي للبلاد، قائلا: “لسنا انقلابيين”. وأوضح أنه “لا صحة لما راج من تصريحات حول اتصال الجيش بنا، ولا وجود لإقامات جبرية لقياداتنا، وليس لدينا اتصال بالجيش، ولدينا ثقة بالجيش الذي يقوم بدوره الوطني”.
وبيّن أن “حوار 2013 كان حواراً وطنياً شارك فيه الاتحاد، ولا أحد يمكنه المسّ بمنظمة الشغالين. نحن دعاة حوار، ودعاة مشروع وطني بالحكمة والعقل والهدوء، وليس بالاتهامات الجزاف”. مستنكرا الاتهامات التي طالت رجال الأعمال والنقابيين “أصبح الجميع فاسدا، رجال الأعمال والنقابيون والمؤسسات. الجميع حسب قوله (يقصد سعيّد) فاسد”.
ووفق عادل معيز، عضو هيئة الحقيقة والكرامة (هيئة حكومية تونسية مستقلة تشرف على مسار العدالة الانتقالية في إطار الانتقال الديمقراطي في تونس بعد الثورة) فإن الحوار “لا أمل له بالنجاح”. ويشير معيز إلى أن “الحوار مبدئيا يتم من أجل إيجاد حلول لمشاكل تونس السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن ذلك لا يمكن من دون أحزاب”.
وبالنسبة للمحل السياسي التونسي، فيصل بن خليفة، فإن الحوار هو “حوار موجه لنتائج منتظرة. ما يجعله حوارا من أجل الحوار فقط”، بحسب تعبيره. ويضيف أن الحوار من دون الاتحاد التونسي للشغل هو “حوار منقوص”.
اقرأ أيضا – الأزمة في تونس.. “من كان منكم بلا خطيئة”
القضاة ينضمون لقائمة معارضة موسعة
في ظل هذا المناخ السياسي والديمقراطي المضطرب وسّع سعيّد من دائرة منتقديه الذي انضم إليهم القضاة بعدما أعفى 57 قاضيا من وظائفهم بتهم “فساد وتواطؤ مع الإرهاب” دون محاكمتهم أو سماع أقوالهم. ووجه اتهاما ضد إحدى القاضيات بارتكابها الزنا وهو ما دعاه -حسبما قال- لإقالتها.
وقد أصدرت أكثر من 30 منظمة حقوقية تونسية بيانا مشتركا عبرت فيه عن رفضها لـ”إقحام الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية للنساء في المعارك المتعلقة بالقضاء وبالشأن العام”.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي يتخذ فيها سعيّد إجراءات “تأديبية” ضد القضاة إذ سبق أن حلّ المجلس الأعلى للقضاء (أعلى هيكل للعدالة في البلاد) وعيّن مجلس جديد من قضاة متقاعدين في أغلبهم وموالين له، مما أثار غضب مجموعة واسعة من القضاة.
الناشط السياسي، محمد عبو يرى أن “قائمة الإعفاءات كانت تهدف لكسب شعبية بدأت تضمحل وللسيطرة على القضاة بتخويفهم وتحميلهم أمام الشعب مسؤولية عدم فتح ملفات الفساد الكبرى بعد بقاء الحال على ما هو عليه بعد حل مجلس القضاء الشرعي وتعويضه بمجلس معين، خلافاً لما كان يدعيه قيس سعيد”.
وتابع في منشور على صفحته بموقع “فيسبوك”: “يوجد في القائمة جزء من كبار الفاسدين في القضاء، ولكن هذا لا يبرر الإهانة لمنتمين لسلطة القضاء بالجملة والخلط بين الفاسد والشريف ومنع الحق في الطعن، ولا يجب أن يصدق الناس أن الأسلوب المتبع يمكن أن تكون غايته الإصلاح”.
وقد دخلت نقابة الصحفيين على الخط بعد أن اقتصرت مواقفها على التنديد بقمع حرية الصحافة والتعبير. ورفضت النقابة “أي محاولة احتكار لتصوّرات الحوار الوطني ومشروع الدستور الجديد وأحادية الخيارات المستقبلية”. ودعت في بيان إلى “ضرورة تشريك كل القوى الوطنية المدنية في الحوار الوطني وتوسيع دائرة التشاور والقرار من أجل الخروج بالبلاد من الأزمة”.
عوامل تشجع سعيّد على المضي في “مشروعه”
في سياق العوامل التي تشجع الرئيس على الذهاب في “مشروعه “، يقول الباحث في علم الاجتماع، هشام الحاجي: “تقدير سعيد أن المعارضة تعاني من أمرين، أولا هي ضعيفة وفقدت قدرتها على الاستقطاب، وثانيا أن المعارضة مشتتة ولها خلافات داخلية”.
وتابع: “طالما بقيت المعارضة ضعيفة ومشتتة وغير قادرة على استقطاب شرائح أوسع من الرأي العام لصالحها لن تؤثر في المدى القريب على الرئيس. خاصة وأنه من الناحية الواقعية والقانونية والدستورية له متسع من الوقت لأن عهدته تنتهي في أكتوبر/تشرين الأول 2024”.
بينما ذكّر الكحلاوي الرئيس السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية أن “اتفاق النخبة من عدمه لا يغير شيئا، لأن قيس سعيد له أجهزة الدولة، والنخبة في وضعية تشتت وعدم امتلاك رؤية واضحة، وقدرتها على التعبئة ضعيفة”.
وهو ما شدد عليه الحاجي بأن “الأزمة مظاهرها متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية ولأن الأطراف التي يمكن أن تساهم في حلها موجودة خارج الحوار سواء وقع استبعادها بشكل مسبق من قبل رئيس الجمهورية أو اختارت عدم المشاركة مثل اتحاد الشغل”.
ويعتقد معيز، عضو هيئة الحقيقة والكرامة، أن الحل في إخراج تونس من المأزق الحالي يتمثل في “أن تنتظم قوى جديدة، قوى شبابية، وقوى من النساء من مشارب مختلفة وبتصورات جديدة وبخطاب جديد تنخرط وتنتظم في أحزاب جديدة تحترم القانون وتعتقد مؤتمراتها، وتقوم على الشفافية في التصرف المالي والإداري، وأحزاب واضحة وشفافة على مستوى تمويلها المالي والتي يمكن أن تكون بديلا للمجتمع السياسي الحالي”.