الشأن الافريقي ارتبط دوما في الذاكرة الجماعية لمنطقتنا بتلازمه وعدم انفصامه عن الهوية العربية في مركب واحد يصعب فصله أو تمييز مكوناته بعضها عن بعض سواء صراعا أو تقاربا، هذا الامتزاج المتشابك جسده كتاب عميد الدراسات الإفريقية حلمي شعراوي “عن الشأن الأفريقي والعربي في حياتنا المعاصرة” وهو العنوان المعبر عن هذه المعادلة ذات الوجهين التي تغلف مسار تاريخنا الحديث على الأقل في مصر والدول العربية الأفريقية وجوارها وامتداها في أعماق القارة السمراء.
فشعرواي ذو الخبرة المديدة والتي تعود بجذورها لستينيات القرن الماضي في ظل وهج وتوهج السياسة المصرية في القارة من خلال عمله بمكتب الشؤون الأفريقية الذي ترأسه الوزير محمد فايق، يطرح في الكتاب- العديد من القضايا والأسئلة المحورية على أذهاننا ويصدرها بتساؤله : هل استطاعت أفريقيا تصفية الحالة الاستعمارية والعبور إلى مرحلة الحداثة؟.
ويقدم شعراوي، وهو رئيس ومؤسس مركز البحوث والدراسات الأفريقية، الذي تجاوز الثمانين ببضع سنوات من عمره، في كتابه أهم القضايا الخاصة بالقارة السمراء، بدايةً من التفكك والاستعمار، مرورًا بنضال المصري “محمد علي دوس”، وفكر ما بعد الاستعمار، وكيف أثر في أفريقيا وساهم في تكريس حالة الصراع على الهوية بها.
وقد عانت قارتنا إرثًا ثقيلًا من الاستعمار مازالت تشهد آثاره حتى الآن، تاركًا بصماته على البُنى الاجتماعية والأوعية المعرفية الثقافية والتعليم فيها. وهو ما يظهر حتى فى تكوين النخب التي قادت التحرر الوطني، من خلال التماهي مع العولمة. إذ استطاعت الرأسمالية الجديدة إقصاء الفقراء اقتصاديًا وثقافيًا لصالح التكتلات المهيمنة الحديثة.
في حسم ووضوح، يجيب على السؤال المحوري “هل استطاعت القارة تصفية الحالة الاستعمارية والعبور للحداثة”؟.بـ”لا”. وهو يكشف أن الاستعمار تجدد أو خرج فى صورة أخرى يسميها “بنية استعمارية جديدة للمجتمعات وقواها الاجتماعية”. ويؤكد أن التحرر كان مجرد تغيير نمط السلطة، وأننا نعيش وهم متخيل عن الاستقلالية.
وقد اعتبرت الدكتورة أماني الطويل، المتخصصة في الشؤون الأفريقية، كتاب شعراوي بمثابة تأصيلًا وتدشينًا لدور مصري في السياسة الأفريقية. بينما أشارت إلى أننا لا نزال بحاجة إلى تغيير الرسالة وبلورة حوار فاعل؛ للانتقال إلى واقع جديد في العلاقات المصرية الأفريقية.
استبدال الاستعمار بالعنف والفوضى
يعرض “شعراوي” في كتابه كيف أن دول غرب وجنوب القارة الأفريقية لم تستطع الانفصال عن “المستعمر” أمام إصرار الدول الرأسمالية على استخدام أدواتها في إبقاء استعمارها، بدفع المزاج الصراعي وثقافة العنف في نهاية الحرب الباردة إلى الحضور فى الاتجاه الإيديولوجي الإسلامي. وهو أمر صعب إنتاج حوار حقيقي حول بدائل مثل التنمية. فلم يعد مكان للاجتهاد أو صياغات دينية متقدمة أو تنويرية، وأصبح هناك جهاد وعنف يمثلان منطلقات الحداثة في تلك البلاد.
ويذهب الكاتب إلى أن بواعث الحالة الاستعمارية للقارة والانخراط في العولمة وقضايا ما بعد الحداثة باتت تخدم فكرة التفكيك ونشر الفوضى والتفكير الجهادي لتلغيم فضاءات القارة بالمزاج الصراعي فى المركز والجنوب خاصة.
أفريقيا في مكتبتنا العربية
وفي تعليقه، ذهب الدكتور نبيل عبد الفتاح، مستشار مركز الأهرام للدراسات الاستراتجية، إلى أن المكتبة العربية تعاني فراغًا بحثيًا وتوصيفيًا فيما يخص الشأن الأفريقي. وقال -خلال الندوة التي أقيمت بدار “العين” لمناقشة الكتاب- إن أطروحات شعراوي أدركت هذا النقص، وحاولت استيفائه ببراعة التناول وجدية الموضوعات.
ويعتبر “عبد الفتاح” هذا النقص الموضوعي في تناول الشأن الأفريقي بحثيًا جزءًا من غيابها داخل العقل السلطوي والأجهزة البيروقراطية والسياسة التراكمية عن أفريقيا وهو يشير إلى وجود مشكلة في العقل السياسي واللاسياسي المصري عن أفريقيا وتناول قضاياها منذ عصري السادات ومبارك. حيث تتسم نظرة الطبقة الحاكمة الدبلوماسية بـ”البساطة” -على حد تعبيره- وهي نظرة سياحية متمركزة حول الذات المولعة بأنها مركز العالم وأفريقيا والمنطقة العربية.
سؤال الهوية وسطوة المستعمر
يصف “عبد الفتاح” الصراع على الهوية في مصر بأنه “عبثي” بين النخبة، خلق جدلًا وسجالًا عنيفًا بين التيارات السياسية القومية والإسلامية. بينما الأمر لا يتعدى قراءات غير تاريخية لمسألة الهوية. وقد غلبت على معظم الكتابات عن الهوية البلاغة المفرطة التي صرفتها إلى استنتاجات غير دقيقة.
هنا، يرصد الكتاب صورة الأفريقي في المخطط العربي من كتابات الرحالة العرب عن أفريقيا وحتى أجواء التحرر الوطني بين العام والخاص. ويظهر أن مخطوطات اللغات الأفريقية بالخط العربي تبرز منظورًا خاصًا لعلاقة الثقافة العربية بالخطوط الأفريقية من الأندلس إلى جنوب الصحراء. ويوضح كيف استخدم المستعمرون الفرنسيون والبرتغال والبريطانيون هذه العلاقة بين الثقافات العربية واللغات الأفريقية في رسم صورة خاصة لدى المثقف العربي وتحليله للأفريقي.
يبين “عبد الفتاح” -في تعليقه على الكتاب- كيف كانت تتمثل الفكرة الاستعمارية في الرؤى والوعى السلطوي الحاكم في أفريقيا. وكيف أدى ذلك إلى الفشل في نزع الاستعمار، نظرًا لطبيعة الحكم الذي تسيد دول القارة.
ويدلل على تغلغل الكولونيالية بهيمنة لغتها التي تسربت إلى المجتمع والإدارات وأنتجت عقلًا أفريقيًا مستلبًا. فقد سعى الاستعمار إلى تهميش وتدمير اللغات الأهلية والوطنية المحلية. كما استبدل النخب القديمة بأخرى “عَميلة” في الإدارة والمكونات والقوانين واللوائح. ما أنتج نظرة تعتمد على كتابات المستعمر ورؤى مؤرخيه. حتى أن نخب التحرر الأفريقي نفسها كانت تخاطبُ بالفرنسية، مستخدمة أوصاف المستعمر في نضالها ضده.
المستعمر واستخدام الإسلام السياسي
في الفصل السادس من الكتاب ينتقل “شعراوي” للحديث عن الإسلام السياسي وكيف استخدمه الاستعمار في إعادة تفكيك وحدة الدول الوطنية قديمًا وحديثًا. بينما يشير إلى ما عانته الصحوة الإسلامية منذ بدايتها من حرج التطرق إلى التاريخ الاستبدادي الإسلامي، الأمر الذي دفعها إلى برجماتية إغفاله والتمسك بفترة السلف كمرجعية دينية، حتى لا تدخل في جدل سياسي حول شكل الحكم الموروث ومضمونه.
وهو يرى أن تجاوز التاريخ السياسي والاجتماعي من جانب حركات الصحوة إنما نشأ عنه عجز عن استهداف السلطة الحديثة مباشرة، وادعاء الاكتفاء بالإسلام كقوة دعوية وأداة اجتماعية إصلاحية. ما ساعد الغرب في استخدامها وإعادة ترتيبها خدمة لأهدافه.
وقد بدأت القوى الدينية تثبت جدواها للقوى الإمبريالية كمفكك لكتل كبرى تواجه استعمارها. وقد تم استخدام هذه القوى الدينية في حالات كثيرة. مثل إقامة دولة باكستان كدولة دينية تصدر قواعد الغرب في قلب آسيا، في مواجهة السوفيت والصين.
وفي أفريقيا، تم استخدام الأصول العرقية بأيديولوجيا شبه دينية ضد حركات التحرر.
كذلك، استخدمت هذه الحركات من قبل بعض الحكام مثل السادات، بحجة معاداة الشيوعية. لكنه تصادم مع أجنحتها الجهادية التي خططت ونفذت لاحقًا عملية اغتياله. وهذا النموذج على وجه التحديد بين نماذج استخدام الإسلام السياسي أثبت فشل تصور أي تعاون بين الإسلاميين والدولة الوطنية، في رأي المؤلف.
محمد علي دوس والتحرر الوطني في أفريقيا
في استعراضه لحركة التحرر الوطني في أفريقيا، يتطرق الكاتب إلى نموذج الناشط المصري محمد علي دوس في أوائل القرن التاسع عشر. والمولود لأحد ضباط الثورة العرابية للدراسة في لندن، والذي اهتم في مطلع حياته بالأدب والفن والمسرح وأتاحت له مجادلة شخصيات عديدة من الانجليز “مثل برنارد شو”.
ولد دوس بمدينة الإسكندرية 1866 وتوفي سنة 1945 من أب مصري وأم سودانية.
اشتغل مع قيادات حركة الجامعة الأفريقية خلال حياته بين لندن ونيويورك، وتفاعل مع العديد من الجنسيات والملونين والزنوج الأفارقة والأسيويين أثناء اقتسام المستعمرات بين القوى الكبرى. وكان شديد السخط من سياسة الدول الأوربية تجاه الملونين.
ولم يعرف فى أوروبا على أنه يعمل من أجل استقلال بلده مصر وفقط. بل مناهض لكل حركات الاستعمار. وكان من مؤسسي المؤتمر الأول للأجناس عام 1911 ومؤتمر جمعية مناهضة الرق 1913. وانتشرت مقالاته في إنجلترا وأمريكا، فأصبح من ألد أعداء الشخصيات الاستعمارية مثل اللورد “كرومر” و”كتشنر” و”جلادستون” ممثلي إنجلترا في مصر.
ودفعت أعماله المناهضة للاستعمار الإنجليزي إلى شطب جنسيته المصرية من جواز السفر واعتباره مواطنًا من رعايا تركيا.
توفي دوس فى نيجيريا سنة 1945 بعد انتقاله للعيش فيها. وكان ذلك بعد تعمق علاقته بالزنوج الأمريكيين والمسلمين الهنود. ثم اشتغل بتجارة الكاكاو، واشتهر فى أمريكا باحتجاجاته على تصريح الرئيس الأمريكي ويلسون المؤيد لموقف بريطانيا من مصر، ورده على الرئيس “روزفلت” الذي أهان مصر وشعبها بحديثه عن عدم استعدادهم بعد للحكم الذاتي، خلال زيارته مصر في 1910.
تنوع نشاط دوس خلال إقامته في نيجريا -وفقًا لشعراوي- بين كتابة المقالات والتجارة. حيث وجد ترحيبًا من الناس هناك. على أساس أنه داعية إسلامي مقرب من الزنوج، يشارك في أنشطة عدة منها إنشاء صحف نيجرية وأحزابًا سياسية هناك.
ولد عام 1935 بمدينة الجيزة المصرية، وتخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة – قسم الاجتماع عام 1958. ثم عُيِّن باحثًا بمركز الفنون الشعبية. وشغل العديدَ من الوظائف، آخرها رئاسة مجلس إدارة مركز البحوث العربية والأفريقية عام 2019. وقد شارك في عضوية العديد من الوفود الممثلة لمصر دوليًّا. ومن بينها وفد مصر في احتفالات استقلال تنجانيقا 1961 – زنجبار 1963 – أنجولا – موزمبيق 1975. وهو كذلك عضو بالعديد من اللجان والمجالس على المستويين المحلي والإقل.
له العديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية. ومن بينها: “الثورة الأفريقية في أنجولا 1978″، و”قراءة جديدة لوقائع العلاقات بين حركتَي التحرر العربية والأفريقية”.