كتبت: سهاد الخضري

إنه مرض البلعمة الأخطر من الإصابة السرطانية. كان يختبئ في جسد الطفلة التي لم تلتفت أمها إليه. انقلب حياة الأسرة في يوم وليلة. مجرد “حباية ورا الودن”. لكن الوضع تفاقم شيئا فشيئا. لم تترك السيدة الثلاثينية طبيبا هي وزوجها إلا وترددا عليه بمكان إقامتهما بصعيد مصر وتجوالهما على أطباء القاهرة. ثلاث سنوات ونصف السنة يهرولون وراء أمل الشفاء دون جدوى.

تشخيص خاطئ

“اتجوزت واحد قريبي وربنا رزقنا بسلمى. فوجئت بيها لما بقت في سن سنتين و7 أشهر بظهور حبّاية ورا ودنا. اختفت بعد فترة لكن شوية وظهرت لها حبوب جديدة. روحنا لدكتور أمراض دم فشخّص حالتها غلط وقالنا دا التهابات فص دهني. وأكد انه هيختفي بعد العلاج لكن ماحصلش. فضلنا في الدوامة الطويلة. وروحنا لدكاترة كتير اللي منهم قال دا ورم في الخلايا الليمفاوية وأن البنت محتاجة علاج كيماوي 6 أشهر. لكن شكيت في التشخيص فروحنا ببنتنا القاهرة”. هكذا روت إسراء عبده والدة الطفلة “سلمى” تفاصيل معاناتها لـ”مصر 360″.

أطباء من الصعيد إلى القاهرة

في مارس 2017 تم إجراء فحوصات جديدة لسلمى شخصها طبيب بإصابتها بفيروس في الجو سبب ظهور هذه الحبوب. إلا أن حالتها ظلت تتدهور دون استجابة  لأي علاج. عقب ذلك توجهت الأم لمستشفى شهير متخصص في علاج الأورام. ظلت الطفلة محجزة به 6 أشهر. وبمرور الوقت ظهرت أعراض جديدة عليها كـ”تضخم الغدد الليمفاوية-سخونية مستمرة- طفح جلدي بمختلف أجزاء جسمها وعدم قدرة على المشي ثم تضخم الطحال.

وعليه تم إجراء بزل نخاع لمرات عدة ليتم تشخيص حالة الطفلة بـ”مرض مناعي”. وفي هذه الأثناء حملت الأم بطفل ثان -آدم- فتقترح الأم على طبيبها زراعة نخاع لـ”سلمى” من شقيقها المولود: “قال لنا مش هتحتاج زرع نخاع لحد ما اتدهورت حالتها ودخلت غيبوبة تامة استمرت شهرين و8 أيام  واتوفت سنة 2019 في سن 5 سنين وشهر و3 أيام”.

“ملبوسة بالجن”

لم تتمالك الأم نفسها وهي تحكي بصوت مختنق مملوء بالبكاء لـ”مصر 360″: “بنتي ماحدش شخصها بداء البلعمة إلا قبل شهرين من وفاتها. فضلنا 3 سنين ونص وماحدش عارف حاجة لدرجة أن دكتور قالنا مرة (بنتك بتدلع) وواحد تاني قال (روحوا بيها لمشايخ أكيد ملبوسة بالجن. مفيش فيها حاجة. ودلوقتي من كتر اللي شوفته خايفة أعمل فحوصات لابني لايكون مصاب بنفس المرض. ومرعوبة كمان عالبنت اللي لسة مخلفاها قريب يكون عندها البلعمة”.

“البلعمة” تقضي على “فريدة” وشقيقتها

نور قبل البلعمة
نور قبل البلعمة

الدكتورة شيماء أبو خطوة مدرس بكلية صيدلة جامعة طنطا تروي لـ”مصر 360 حكاية وفاة ابنتي أختها بـ”البلعمة”: “ماتوا الاتنين في سن مبكر. الأولى فريدة أحمد توفيت في سن 7 سنوات بعد تأخر تشخيصها 5 أشهر. وعجز الأطباء على التعرف على طبيعة مرضها. وبعد أن تعاطت الكيماوي توفيت خلال شهر. وذلك قبل 6 سنوات. وتكررت مأساتها مع شقيقتها (نور) التي توفيت قبل عامين في سن 8 سنوات بعد معاناة مع ذات المرض. بدأت الأعراض معها  بسخونية وعدوى متكررة وانتفاخ في البطن نتيجة تضخم الكبد وتراجع معدلات كريات الدم والصفائح الدموية”.

اكتشفت الأسرة حالة “نور” –الابنة الثانية- مبكرت عن شقيقتها الكبرى. ورغم بدء العلاج الكيماوي والكورتيزون واستجابتها له على مدار 6 أشهر فإن أعراض المرض عادت إليها بصورة أكثر شراسة.

وبحثت الأسرة وقتها عن متبرع متطابق لزراعة نخاع. لكن كل محاولاتها باءت بالفشل. حيث تدهورت حالة “نور” لدرجة وصل تأثير المرض على أعصاب الجسم.  حيث باتت غير قادرة على الحركة وتأثر بصرها أيضا. كانت شبه فاقدة للبصر في إحدى عينيها. إلى جانب آلام مستمرة ببطنها.

وترى “أبو خطوة” أن التشخيص المتأخر لعب دورا سلبيا في حالة طفلتهم الأولى لنقص الأطباء المتخصصين في هذا المجال. مطالبة بافتتاح بنوك متخصصة لحفظ الخلايا الجذعية والحبل السري.

وعد بعد المرض
وعد بعد المرض

أشد خطورة من السرطان

تقول الدكتورة ليلى شريف -أستاذ طب الأطفال وأمراض الدم وأورام الأطفال بكلية الطب جامعة الزقازيق- لـ”مصر 360″: “مرض البلعمة أحد الأمراض النادرة. وأعراضه أشد خطورة من السرطان. وأبرزها ارتفاع درجة الحرارة وتضخم الطحال والكبد والغدد الليمفاوية. إلى جانب تأثر النخاع ومعاناة المريض من الأنيميا ونقص في كريات الدم البيضاء والصفائح الدموية. ما يعرضه للنزف”. مشيرة لتأثير المرض على النخاع.

ووفقا لإحصائيات حصلت عليها “مصر 360″ فإن نسبة الإصابة بهذا المرض من 1 لـ2 من كل مليون شخص في أوروبا واليابان. وقد يكون ذلك بسبب صعوبة التشخيص. بينما تقدر نسبة الإصابة بالبلعمة في السويد نحو 12 لكل 100 ألف طفل تحت سن 15 عاما. وذلك وفقا لإحصائية تم إجراؤه عام 2018.

ويتم تقدير نسبة الإصابة بالبلعمة في تركيا بـ7.5 لكل 100000. وترجع معدلات الإصابة المرتفعة به لزواج الأقارب. بينما في مصر فلا توجد إحصائيات دقيقة حول عدد الإصابات وذلك وفقا لمسئول بوزارة الصحة المصرية لـ”مصر 360”.

ووفق “شريف” فإن البلعمة نوعان. الأول وراثي يولد به الطفل. والثاني مكتسب نتيجة الإصابة بعدوى فيروسية أو بكتيرية أو نتيجة للإصابة بالروماتويد الذي يعد أحد الأمراض المناعية أو بعض أنواع الأورام.

وشددت على أن الـHLH -الاسم العلمي للبلعمة- أحد الأمراض شديدة الخطورة. فإذا كان المرض وراثيا ولم يتم تشخيصه وتلقي العلاج اللازم فإن المريض به سيموت خلال شهور قليلة. وتابعت: “استجابة المريض للعلاج ليست قوية والحل الأخير هو زراعة النخاع. وقد نعالج مصاب البلعمة بالكيماوي وزرع النخاع ولا يتحسن”.

حملة لإنشاء بنوك للخلايا الجذعية

لم تتحمل مروة عبد المنعم -ابنة الإسكندرية- آلام فقد ابنتها الكبرى بداء البلعمة بعد رحلة علاج فاشلة. وبعد أن أصاب المرض شقيقتها الأخرى. فقررت الأم تدشين حملة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تطالب الجهات المعنية في مصر بإنشاء بنوك لحفظ الخلايا الجذعية من الحبل السري للمواليد. لعلها تكون أمل المصابين بمرض طفلتيها وغيرهم ممن بحاجة إلى زرع خلايا جذعية.

وعد ورغد قبل الإصابة بالبلعمة
وعد ورغد قبل الإصابة بالبلعمة

“قبل عامين فقدت طفلتي الكبرى بعد إصابتها بالبلعمة. وبنتي التانية جت بعدها اتصابت برضه”. تحكي “مروة”: “بنتي وعد عملنا لها عملية زرع نخاع وهي فس سن 9 سنين. ودا كان أملها الأخير. أما رغد بنتي التانية فعندها 5 سنين وتعيش المعاناة نفسها حاليا. وللأسف مش لاقية متبرع عشان أعمل لها زراعة نخاع”.

وتضيف الأم: “ماكنتش أعرف بأن المرض دا وراثي وجاي من عائلة طليقي. فشلت مع البلعمة كل جلسات الكيماوي لمدة 6 أشهر. وزرع الأطباء نخاع نصف متطابق من والدها لتأتي النتيجة مخيبة للآمال لتعيش أيامها الأخيرة على نقل الدم يوميا بعد أن وصلت نسب الصفائح الدموية والهيموجلوبين عندها للحدود الدنيا. ودا خلى فيه فشل في عضلة القلب وقصور وظائف التنفس دون استجابة لجلسات الإنعاش”.

نسبة التعافي من البلعمة لا تتخطى 60%

الدكتورة ليلى شريف -أستاذ طب الأطفال وأمراض الدم وأورام الأطفال بكلية الطب جامعة الزقازيق- تقول إنه رغم زراعة النخاع فإن نسبة التعافي بين مرضى البلعمة لا تتخطى 60%. وكلما كان التطابق في النخاع كاملا كانت النتائج أفضل. موضحة أن المستشفيات الجامعية ومعهد الأورام ومستشفى 57357 هي المخصصة فحسب لعلاج واستقبال مرضى البلعمة في مصر. لافتة إلى ضرورة وجود توعية بهذا المرض المميت نظرًا لندرة الكوادر الطبية المتعاملة معه.

الدكتور مجدي بدران -عضو الجمعية المصرية للحساسية والمناعة- يرى أن البلعمة هي متلازمة عدوانية ومهددة للحياة من النشاط المناعي المفرط. حيث يعد أحد الأمراض النادرة التي تصيب الجهاز المناعي. ما يجعل بعض خلايا الدم البيضاء تهاجم خلايا الدم الأخرى مسببة تضخم الطحال والكبد.

البلعمة واستهداف الأطفال

الدكتور مجدي بدران
الدكتور مجدي بدران

يقول “بدران” لـ”مصر 360″ إن هذا المرض غالبًا ما يصيب الأطفال الرضّع منذ الولادة حتى سن 18 شهرًا. ولكن من الملاحظ أن المرض أيضًا عند الأطفال والبالغين من جميع الأعمار كما قد يحدث كاضطراب عائلي أو بسبب مجموعة متنوعة من الأسباب التي تعطل التوازن المناعي.

الوراثة وزواج الأقارب

وحدد “بدران” العدوى كسبب شائع لكل من لديهم استعداد وراثي. وأكد أن النوع الوراثي من البلعمة يمثل نحو 25٪ من الحالات. فيما تنقل العائلات البلعمة لأطفالها.

الالتهابات الفيروسية بداية الخطر

توجد حالات مصابة بالنوع المكتسب من البلعمة نتيجة الإصابة بالالتهابات الفيروسية –حسب “بدران”. وخاصة فيروس إبشتاين بار أو الخلل في الجهاز المناعى أو الإصابة بالسرطان. كما قد يكون سبب كثرة اللمفاويات البلعمية العائلي هو حدوث طفرات في جينات متعددة توفر تعليمات لصنع بروتينات تساعد في تدمير أو تعطيل الخلايا الليمفاوية. تلك التي لم تعد هناك حاجة إليها. وذلك عبر التحكم في عدد الخلايا الليمفاوية المنشطة التى تساعد هذه الجينات في تنظيم وظيفة الطفرات الجينية. فيما يكون السبب الجيني للاضطراب غير معروف في كثير من الحالات.

تشكيل بأهم أعراض البلعمة

أعراض البلعمة
أعراض البلعمة

يؤكد “بدران” أن الحمى وتضخم الطحال من أكثر الأعراض شيوعا لدى مصابي البلعمة. إلى جانب تضخم الغدد الليمفاوية والأنيميا وانخفاض عدد الصفائح الدموية وانخفاض خلايا الدم البيضاء واليرقان والتهاب الكبد وتليفه ومشكلات الجهاز التنفسي (سعال وضيق تنفس). فضلا عن التشنجات والطفح الجلدي واصفرار لون الجلد والعين. فضلا عن آلام المعدة والقيء والإسهال ومشكلات الجهاز العصبي  كالصداع وصعوبة المشي واضطرابات الرؤية. وقد يعاني الأطفال الصغار والرضّع  أعراضا إضافية كـ”التهيج وفشل النمو”.

ويرى الدكتور “بدران” أن هناك طرقا مختلفة لعلاج مصابي البلعمة مثل “العلاج الكيميائي والعلاج المناعي والمنشطات والمضادات الحيوية والأدوية المضادة للفيروسات”. كما أن عمليات زرع الخلايا الجذعية يمكن أن تعالج معظم الحالات إذا لم تنجح العلاجات الدوائية الشائعة. ويؤكد أن معظم الأطفال الذين تم علاجهم يعيشون حياة طبيعية. لافتا إلى أهمية سرعة تشخيص المرض بسبب خطورة ندرة هذه المتلازمة وتعدد أعراضها واختلاطها بأعراض أخرى.