رغم أن الصراع بين روسيا وأوكرانيا يمكن أن يُنظر إليه، في المقام الأول، على أنه أزمة أوروبية ذات أبعاد إقليمية. إلا أنه بالفعل أثار العديد من التداعيات العالمية. وبطبيعة الحال، ستتحمل كلتا الدولتين المتحاربتين أكبر تكاليف هذا الصراع. تشير أحدث تقديرات البنك الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا سينكمش بنسبة 45.1% في عام 2022، بينما سينكمش الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 11.2%.

مع ذلك، فإن التأثير السلبي على الاقتصاد موجود بالفعل، ويمتد إلى ما هو أبعد من المشاركين المباشرين في الصراع. وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي، تبين أن التطورات الأخيرة في أوكرانيا. كانت من بين العوامل الرئيسية التي تبطئ تعافي الاقتصاد العالمي، من الأزمة التي أحدثها جائحة فيروس كورونا.

اضطر صندوق النقد إلى خفض توقعاته للنمو الاقتصادي للعام الحالي لـ 143 دولة. والتي تمثل مجتمعة 86% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. أيضًا، يقوم الاقتصاديون بتعديل توقعاتهم الإجمالية للتنمية الاقتصادية على مستوى العالم. مخفضين توقعاتهم من نمو بنسبة 3.6% إلى نمو بنسبة 2.6%. تمتد التعديلات حتى عام 2023 المقبل، مع انخفاض بنسبة 0.2% في مؤشرات النمو المتوقعة مسبقًا.

قد تكلف الزيادة الحادة في أسعار الهيدروكربونات والأغذية والأسمدة المعدنية. إلى جانب إعادة هيكلة سلاسل النقل واللوجستيات الدولية، بالإضافة إلى مواطن الخلل الناشئة في أنظمة الدفع العالمية. الاقتصاد العالمي ما يقرب من 1 تريليون دولار أمريكي في عام 2022. أي حوالي 1. 0% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

اقرأ أيضا: بفضل روسيا وإسرائيل: تسارع خطوات القاهرة كلاعب طاقة إقليمي

تداعيات عالمية لصراع أوروبي

في ورقة عمل بعنوان “استعادة أم إصلاح أم ثورة؟ مخططات النظام العالمي بعد الصراع بين روسيا وأوكرانيا”. أشار أستاذ التاريخ أندريه كورتونوف، مدير عام مجلس الشؤون الدولية الروسي RIAC.  إلى أن تزايد عجز الميزانية -بما في ذلك تلك الناجمة عن الإنفاق الدفاعي المتزايد- سيؤدي إلى زيادة الديون السيادية في العديد من الدول.

أيضا، من المرجح أن يتضاعف التضخم العالمي، الذي تصاعد بالفعل في العامين ونصف العام الماضيين. بنسبة 2-3% أخرى في عام 2022. تصل إلى 5.7% للاقتصادات المتقدمة وحتى 8.7% للدول النامية، يليها 1.5- 2% في عام 2023.

يقول كورتونوف: إذا امتدت المرحلة النشطة من المواجهة بين روسيا وأوكرانيا لبضعة أشهر أخرى. فسيتعين تعديل هذه الأرقام صعودًا مرة أخرى، وسيتحول تصاعد التضخم -غير المسبوق في قرننا- إلى تضخم مزمن. يفترض بعض الاقتصاديين في الغرب أن ركودًا عالميًا جديدًا من المرجح أن يحدث في وقت مبكر من عام 2023. والواقع أن الصراع بين روسيا وأوكرانيا ليس السبب الوحيد للركود الاقتصادي العالمي. ومع ذلك، فإن أهميتها كمحفز لاتجاهات الاقتصاد الكلي السلبية أكثر من واضحة.

بالفعل، تضررت بعض الأجزاء المكونة للاقتصاد العالمي بشدة من الأزمة. مما تسبب في حدوث مواطن خلل كبرى في التجارة العالمية. وربما أدى إلى عواقب اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، غير متوقعة، لمجموعات كاملة من الدول الواقعة في مناطق مختلفة.

بالحديث عن الحرب، يضرب كورتونوف مثالا “تتجاوز حصة روسيا وأوكرانيا مجتمعة في صادرات القمح نصف إجمالي واردات القمح لـ 36 دولة. نظرًا لأن أسعار القمح مرتبطة بشدة بأسعار الأرز والذرة وما إلى ذلك. ليس من المستغرب أن تكون أسعار الغذاء العالمية الإجمالية في مارس 2022 أعلى بمقدار الثلث عما كانت عليه قبل عام. تمثل روسيا وبيلاروسيا حوالي 20% من الصادرات العالمية من الأسمدة المعدنية، مع وجود أي خلل في مثل هذه الصادرات. تتأثر حتماً دول أفريقيا والشرق الأوسط، وحتى في أمريكا اللاتينية”.

تفاقم الأزمات في مناطق أخرى

في معرض حديثه عن التأثيرات العالمية للحرب الروسية- الأوكرانية. أوضح مدير مجلس الشؤون الدولية الروسي، أن الحرب أثارت علامة استفهام في أسواق الطاقة العالمية. حول الخطط المعتمدة سابقًا لـ “تحول الطاقة” العالمي. حيث يمكن أن تؤدي أسعار الهيدروكربونات المتزايدة، إلى استثمار واسع النطاق وطويل الأجل في مصادر الطاقة التقليدية. ليس فقط النفط والغاز، ولكن حتى الفحم.

في أوائل مارس/ أذار، وصلت أسعار النفط العالمية إلى 130 دولارًا أمريكيًا للبرميل. في غضون ذلك، فإن أي زيادة في هذه الأسعار بمقدار عشرة دولارات تستلزم -وفق مزاعم صندوق النقد الدولي- انخفاضًا سنويًا بنسبة 0.5% في النمو الاقتصادي على مستوى العالم.

يشير كورتونوف كذلك إلى أن الصراع الذي اندلع في أوروبا كان عاملاً مساعدًا في تفاقم الأزمات في مناطق أخرى. يرى أنه “ربما يكون هذا قد أثر على قرار تركيا إطلاق عمليتها العسكرية الخاصة في شمال العراق. أو يكون قد أدى إلى تعقيد الوضع في ناجورنو كاراباخ -وإن كان بشكل غير مباشر- وربما حفز قيادة كوريا الشمالية على استئناف تجارب الصواريخ، وما إلى ذلك”.

يؤكد أن تداعيات الصراع في أوروبا هي “مقلقة بشكل خاص للمناطق الغارقة في عدم الاستقرار والوجود العسكري والسياسي الكبير لروسيا”. حسب زعمه. مثل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو الدول الهشة للغاية في القارة الأفريقية. معربًا عن أن “هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأننا سنشهد تصعيدًا جديدًا في الأشهر المقبلة، في كل من الأزمات السياسية الإقليمية والمحلية”.

من وجهة النظر الروسية التي شملتها ورقة كورتونوف، فقد كان للصراع تأثير سلبي واضح على المحادثات متعددة الأطراف بشأن برنامج إيران النووي. وعلى المشاورات حول الأسلحة الهجومية الاستراتيجية بين روسيا والولايات المتحدة. يقول: هناك الآن مخاوف بشأن الامتثال لاتفاقية الأسلحة البيولوجية. واتفاقية جنيف بشأن أسرى الحرب، واتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. وغيرها من الصكوك القانونية الدولية المتعلقة بالحروب.

اقرأ أيضا: هل حان الوقت لـ “سد” طريق أوكرانيا أمام بوتين؟

انحراف مزعج للتاريخ

وبينما تتراوح تقييمات الخبراء للتداعيات الدولية طويلة المدى للأزمة. من التفاؤل الحذر، إلى التطبيق العلني المروع -وفق تعبير كورتونوف- يتساءل مدير مجلس الشؤون الدولية الروسي “القضية المركزية هي: هل يمكن اعتبار الأزمة انحرافًا مزعجًا للتاريخ؟ استثناء مؤسف للقواعد الراسخة التي يقوم عليها نظام عالمي مستقر في الغالب. وميض عرضي على شاشة الكمبيوتر؟

أكمل: أم أننا نشهد توضيحًا للاتجاهات التي ستحدد بشكل متزايد المسار العام للتنمية العالمية في المستقبل المنظور؟ بمعنى آخر: هل سيعود العالم إلى حالته الطبيعية إلى حد ما بمجرد انتهاء المرحلة الحادة من الصراع الروسي- الأوكراني؟ أم أن النظام الدولي تجاوز نقطة اللا عودة مما يعني أن حياتنا لن تكون كما كانت من قبل؟

يعود كورتونوف ليشير إلى أنه رغم كل المناقشات، فإننا لا نرى سوى المرحلة الأولى من الأزمة التي أثارها الصراع في أوروبا. لذلك فإن تقييمات مراحلها التالية متباينة بشدة، حول المستقبل المحتمل والمطلوب لجميع أبعاد النظام الدولي. بما في ذلك الأمن، والاقتصاد، والتمويل، والقانون الدولي، والتفاعلات الاجتماعية والإنسانية عبر الحدود. والتعاون بين الدول في مواجهة التحديات العالمية.

يرى المحللون المتفائلون، أنه في حين أن للأزمة بصمة مدمرة فورية وكبيرة، على أسواق الطاقة والغذاء العالمية. وكذلك على التمويل الدولي. لا يزال هيكل التجارة والاستثمار والتمويل العالمي اليوم يتمتع بهامش استقرار كبير “ويجب أن يمنع العالم من الانزلاق إلى ركود جديد. أو نقص مزمن في الغذاء، أو تخلي مسعور عن الدولار، باعتباره العملة الاحتياطية الدولية الرئيسية”.

على العكس من ذلك، يعتقد المتشائمون أن أحدث مواطن الخلل في العلاقات الاقتصادية لا رجوع فيها. حيث تعمل الأزمة فقط على تسريع الاتجاه الحالي، لتراجع العولمة، وتفكك الاقتصاد العالمي.

عندما يتعلق الأمر بقضايا الأمن الدولي، يعترف المتفائلون بأن الأزمة سيكون لها تأثير سلبي. على الحد من الأسلحة، وعدم الانتشار النووي، ومكافحة الإرهاب الدولي، وما إلى ذلك. ومع ذلك، فإنهم وفق -كورتونوف- بطيؤون في التخلي عن الأمل.

دروس من أجل المستقبل

يزعم المحلل الروسي أن الأمن الدولي لن يستمر فقط. في شكله الحالي، لكنه سيظهر -إلى حد ما- أكثر استقرارًا بعد الأزمة “حيث ينبغي للإنسانية أن تتعلم -بطريقة ما- دروس الأحداث الجارية. لإنشاء نظام ضمانات يستبعد إمكانية تكرار مثل هذه المواقف في المستقبل، في كل من أوروبا وأماكن أخرى”. بينما يشك المتشائمون في أنه لن يتم استعادة السيطرة على الأسلحة بشكل كامل، وسيعطى انتشار أسلحة الدمار الشامل وانتشار الشبكات الإرهابية الدولية زخمًا كبيرًا. وسيكون للصراع في أوكرانيا تأثير سلبي طويل الأمد على الأزمات والحروب الإقليمية الأخرى.

يتساءل مرة أخرى: في الوقت الحالي، لا يوجد إجماع على مستقبل المؤسسات الدولية والقانون العام الدولي. هل انسحاب روسيا من مجلس أوروبا ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حدث -وإن كان مؤسفاً- فردي؟ أم سنشهد تراجعا متسارعا في التعددية في المستقبل القريب؟

وتابع: ماذا يمكن أن يحدث للمنظمات الإقليمية والعالمية، بما في ذلك الأمم المتحدة؟ عندما تنتهي الأزمة، هل سنرى قواعد ومعايير مقبولة بشكل عام في النظام الدولي؟ أم -على العكس من ذلك- سيبدأ عددهم في التقلص بشكل لا رجعة فيه؟ هل سيستمر النظام الدولي على هذا النحو؟ أم أنها ستنهار، مما يؤدي إلى مزيد من الفوضى وعدم القدرة على التنبؤ غير المسبوق في السياسة العالمية؟

العواقب المحتملة للنزاع

عند تحليل العواقب المحتملة للنزاع الروسي- الأوكراني على الهيكل الدولي بأكمله. أشار مدير مجلس الشؤون الدولية الروسي إلى نحتاج إلى تقديم مؤهلين هامين. أولاً، الصراع نفسه لا يزال بعيدًا عن نهايته، حسب قوله. ويتحدث الخبراء في الغرب ويكتبون عن هذا الصراع المستمر، بشكل أو آخر، لعدة أشهر أو حتى سنوات. وبناءً عليه، سوف تتراكم العواقب الدولية بمرور الوقت.

ثانيًا، يتكشف الصراع بين موسكو وكييف على خلفية أزمات واضطرابات أخرى لا تقل أهمية. مثل جائحة الفيروس التاجي المستمر، مما أدى إلى تفاقم التوترات في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين. وتغيير النظام السياسي في أفغانستان، وعدم الاستقرار في منطقة الساحل، والحرب الأهلية المستمرة في اليمن. والبرنامج نووي المكثف في كوريا الشمالية، وغير ذلك.