في دراسته المهمة “فخ العولمة” التي نشرها في تسعينيات القرن الماضي، حذر الباحث الألماني هارولد شومان، من أن تتحول وسائل الإعلام الغربية إلى صوت واحد يردد “قيم الديمقراطية الغربية”، ويبشر بها، وينشرها كجزء من فرض العولمة على العالم، ليتحول كله إلى نفس الأفكار ونفس المفاهيم.

الباحث الألماني الشهير فعل هذا، وهو يرفض نشر القيم الليبرالية كالحرية والتنوع والشفافية واحترام حقوق الإنسان، رغم ما في هذه القيم من فوائد جمة على المجتمعات والشعوب. فعل ذلك لأنه كان يدرك خطورة أن يتحول الإعلام إلى “مانشيت موحد”، حتى لو كانت هذه القيم التي ينشرها ويبشر بها مقبولة ومفيدة.

هذه مقدمة كاشفة لسبب رئيسي من أسباب تراجع تأثير الإعلام المصري خلال السنوات الأخيرة. هذا التراجع الذي يمكن رده لعدة أسباب على رأسها تحوله لـ”سكريبت”، يصدر من جهات لا علاقة لها بالإعلام. ثم توحيد وتسييد هذا “الاسكريبت” على جميع الصحف والقنوات والمواقع ليردده مذيعون وصحفيون يتشابهون في مساحات هائلة من الجهل والضعف والفشل، كشفهم المتابعون فهجروا الصحف والشاشات غير نادمين ولا آسفين.

لماذا إذًا تراجع تأثير الإعلام وفقد جمهوره إلى هذه الدرجة التي لم تحدث في تاريخنا الحديث على الإطلاق؟ في تقديري هناك ثلاثة أسباب وراء هذا التراجع الكبير.

أولًا- تحول الإعلام لصوت واحد:

ما حذر منه الباحث الألماني الشهير في دراسته حدث بالضبط في مصر. لكنه حدث بشكل أسوأ بكثير مما توقع شومان الذي حذر من توحيد الصوت الإعلامي، حتى لو كان لصالح قيم الحرية والتنوع، ما حدث في مصر كان شيئًا غير مسبوق. فقد غرق الإعلام في مدح وتمجيد السلطة بدرجة غير معهودة ولا منطقية. ثم أنه غيّب الصوت الآخر والرأي الآخر تمامًا، كأن المجتمع قد افتقد لكل الأصوات والعقول باستثناء هؤلاء الذين يرددون خطاب السلطة وأفكارها.

كانت المفارقة تصل لأن تصدر عدة صحف بنفس العناوين والمانشيتات وبلا اختلاف في نقطة واحدة. ثم تحول مذيعو القنوات إلى ببغاوات ليس لديهم سوى المدح والتهليل و”التكبير”. في نفس الوقت الذي حدث هذا “التأميم” الناعم للإعلام كان الجمهور ينصرف شيئًا فشيئًا باحثًا عن مصادر أخرى للمعرفة، وعن محتوى إعلامي يحترم عقله بشكل أكبر، ويشبع رغبته في الوصول لرؤى مختلفة وأفكار جديدة غابت بفعل فاعل عن الشاشات والمنصات المصرية. في تجاهل تام لقاعدة أن أحدًا لا يمكن أن يخفي المعلومات أو يحجب الآراء عن المتلقي في عصر المعلومات وشبكات التواصل الاجتماعي والسماوات المفتوحة.

ثانيًا- القيود والقوانين التي تنظم عمل الإعلام:

مع كل القيود التي أحاطت بالمنصات الإعلامية المصرية وفرضت عليها حصارًا قاسيًا طوال السنوات الماضية، ومع سقف النشر الذي تدنى لأقل مستوى منذ سنوات بعيدة، كان مشهد هذا الحصار يكتمل بتشريعات تزيد من القيود المفروض على الإعلام. فعلى سبيل المثال جاء قانون تنظيم الصحافة والمجلس الأعلى للإعلام رقم 180 لسنة 2018 ليزيد من مساحة الخوف من العمل الصحفي، ويتعدى فرض القيود على الصحفي ليصل إلى فرض القيود على الوسيلة الإعلامية ذاتها. يحدث هذا بنصوص قانونية شاذة وعجيبة وغير مفهومة. وكأن المقصود أن تبقى الصحافة والعاملون بالمهنة تحت وطأة الخوف من الحبس والإغلاق.

هذه النصوص التي تحكم المهنة حتى هذه اللحظة ساهمت في تدني سقف النشر، وصنعت مناخًا من القلق لدى الصحفيين ولدى المؤسسات على السواء. حدث هذا فتراجعت كل رغبة في المنافسة والإبداع عند شباب المهنة، وظل العمل الصحفي والإعلامي بمعناه “الروتيني” هو السائد حتى أضحى المنتج النهائي الذي تصدره المؤسسات الإعلامية أقرب إلى “النشرات” منه إلى الصحافة. وتحولت المهنة بمجملها إلى “صحافة دولة”، لا تهتم إلا بجولات المسئولين والمشروعات الإنشائية والحوارات مع السلطة التنفيذية وغيرها من صور هي أقرب “للعلاقات العامة”.

يكفي القول في وصف هذا القانون أنه يحاسب على ألفاظ وجمل مثل “الكراهية والإباحية ومعاداة الديمقراطية ومقتضيات الدفاع عن الوطن”. كل هذه العبارات لم يضع لها القانون تعريفًا واضحًا ومحددًا ليظل التعريف في يد “الرقيب” فقط.

ومع ذلك، فإن هناك قوانين بها ضمانات جيدة للمهنة. لكنها أصبحت قديمة ومتهالكة رغم ما لها من تأثير على الصحافة. فعلى سبيل المثال، قانون نقابة الصحفيين صدر عام 1970، ورغم المستجدات الهائلة في عالم الصحافة، ورغم أنه لا يعترف مثلًا بالصحافة الإلكترونية ولا بحق العاملين فيها في الحصول على عضوية النقابة، ورغم أنه أصبح لا يواكب العصر الحديث، فإنه لم يتغير حتى الآن، مع ملاحظة أن هناك مخاوف مشروعة من أن تعديل القانون قد ينتج عنه قانون أسوأ مع البرلمان الحالي الذي يبدو وكأنه لا يحب الصحافة أصلًا. ثم أن أي تعديل مطلوب يجب أن يكون عبر حوار تشارك فيه الجمعية العمومية للنقابة قبل أن يدخل القانون إلى البرلمان.

ثالثًا- هزيمة الصحافة التقليدية أمام السوشيال ميديا:

ظهرت شبكات التواصل الاجتماعي، فأجبرت الصحافة في العالم على أن تفكر بشكل مختلف، فقد وضعت الميديا الاجتماعية كلمة النهاية لأشكال تقليدية من الصحافة، وفتحت الباب أمام أشكال أخرى لتصبح هي التعبير الحقيقي عن الصحافة الحديثة. مع ذلك ما زلنا في مصر نفكر بنفس الطريقة القديمة، وننتظر أن يكون هناك تأثير لإعلام فقد سطوته في مواجهة فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرهم.

ظهور شبكات التواصل كان المؤشر الأول والضربة الأقوى للصحافة الورقية، فقد انتهت تمامًا الطريقة القديمة للقراءة في شكلها -أي الجورنال المطبوع- وفي مضمونها أي صحافة الخبر بمعناه القديم، وفتحت الباب لصحافة ما وراء الخبر والتحقيق الاستقصائي والحوار وصحافة البيانات والقصة المعمقة فضلا عن صحافة الفيديو التي اجتذبت شرائح واسعة ومهمة من المتابعين.

حتى هذه اللحظة لم تصل الصحافة ولا الإعلام لرؤية جامعة وموحدة حول كيفية التعامل مع عصر “السوشيال ميديا”. فما زالت الصحافة الورقية تنشر الأخبار بنفس الصيغ القديمة، وما زالت المواقع في غالبيتها لا تستطيع أن تجاري السرعة الطبيعية لمواقع التواصل، ولا يزال الإعلام يفقد جمهوره لصالح منصات أخرى ومحتوى أكثر حرية.

ثلاث أزمات في تقديري هم الأهم والأبرز في كل العثرات التي يتعرض لها الإعلام، وفي وصوله إلى مرحلة متدنية على صعيد الحضور والتأثير، والأقرب أن هذا الغياب سيستمر ما دامت الأزمات الثلاثة حاضرة تحاصره وتمنعه عن الوصول الجاد لجمهوره الحقيقي.