كتب: أشرف الصباغ
في الوقت الذي أعلنت فيه موسكو أن مصر هي ضيف الشرف للدورة الحالية لمنتدى سانت بطرسبورج الاقتصادي (من 15 إلى 18 يونيو 2022)، وأن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي سيلقي كلمة في المنتدى الذي ينعقد هذا العام في ظل ظروف سيئة، على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا من جهة والعقوبات الغربية على روسيا من جهة أخرى، نشرت السفارة الروسية في القاهرة بيانا “غريبا” و”عجيبا” تصف فيه مصر بالمستعمرة الغربية، وأن “فرنسا وبريطانيا وأمريكا حولت مصر إلى مستعمرة تابعة لها، ونهبت مواردها الطبيعية وثرواتها الثقافية والتاريخية وأرادت الاستيلاء على قناة السويس ودعمت العدوان الإسرائيلي”!
هذه فقط مقدمة البيان المثير للاستغراب، وكأن مصر يجب أن تتحول إلى سوريا، وأن يتحول السيسي إلى بشار الأسد لكي ترضى موسكو وتقتنع بأن مصر والسيسي يحاربان الإمبريالية والرأسمالية العالمية ويقفان إلى جانب قوى التحرر والتقدم الوحدوي، ويدافعان عن قناة السويس التي تكاد تقع في يد الاستعمار الفرنسي والبريطاني، ويقفان في وجه العدوان الإسرائيلي على مصر، ويقاومان العدوان الثلاثي على مقدرات الأمة في السويس وبور سعيد والإسماعيلية!
يبدو أن هناك ما يغضب موسكو الاشتراكية، وأن هناك ما يزعج موسكو الليبرالية، وما يثير شكوك موسكو القومية، ويقلق موسكو “العربية الفلسطينية الحوثية الحزب اللاهية الإيرانية الحماسية الأسدية”، ويبدو أيضا أن القاهرة “ساذجة ومخدوعة” ولا تعرف مصلحتها، ومن الممكن لأي عابر سبيل أن يغرر بها أو “يستفرد” بها، بعيدا عن عيون موسكو التي لا تعرف الدموع، تلك العيون الساهرة من أجل سعادة مصر وسعادة فلسطين وحزب الله والحوثيين ومادورو وفخامة الرئيس الأسد.
قد تكون هناك ملاحظات كثيرة على السياسات الداخلية للحكومة وللنظام السياسي في مصر وهذا أمر طبيعي وصحي للغاية وموجود في كل دول العالم العاقلة، وقد تكون هناك اعتراضات على هذه السياسات ومعارضات لها، ولكن أن تبدأ موسكو التي أصبحت نزقة وغاضبة وذات مشاعر وأحاسيس هشة للغاية.. أن تبدأ حوارات طرشان تكاد تتجاوز في غبائها وحماقتها نفس حوارات الاتحاد السوفيتي السابق المنافقة والانتهازية التي جربناها على أنفسنا في زمنها، فهذا أمر غريب ومريب ومثير للتساؤل والغثيان معا.
بيان السفارة الروسية، الذي لم ينشر بدون ضوء أخضر من الكرملين، يأتي في لحظة غريبة وعجيبة، إذ يواصل الرئيس التركي رجب أردوغان مناوراته السياسية والجيوسياسة لإحراج بوتين شخصيا، ولدفع روسيا إلى مرتبة تالية بعد تركيا، ويتلاعب بالكرملين وبالخارجية الروسية وبكل روسيا ويملي شروطه على الجميع هناك.. يأتي أيضا في ظل مرونة مصرية تسمح بعلاقات “دافئة” وجيدة وبراجماتية تراعي مصالح القاهرة وموسكو، حتى بعد أن دفعت موسكو بأكثر من “ساعي بريد” لنقل تهديدات وإنذارات وتحذيرات للقاهرة بعدم الانحياز إلى الغرب عموما، وفي الأزمة الأوكرانية على وجه الخصوص، وربما أيضا تطلب منها التنازل عن مصالحها من أجل الحب القديم الدافئ!
بيان السفارة الروسية “الغرائبي”، يخلط الأمور إلى حد العودة إلى العدوان الإسرائيلي عام 1956، وإلى داعمي العدوان الإسرائيلي آنذاك، لكنه ينسى أو يتناسى ويتجاهل أن هذا العدوان الإسرائيلي على مصر كان بنتيجة قيام روسيا تحديدا وبمفردها بإجبار العالم كله، والقوى الكبرى آنذاك، على إقامة دولة إسرائيل في فلسطين. وكانت موسكو هي أول عاصمة في العالم تعترف بها أيضا!!! أي أن روسيا أسست إسرائيل واعترفت بها، ثم بدأت تدين وتطالب وتهمس وتغمز وتلمز، بل وتصرح وتعلن، وتطالب العالم كله بحل المشاكل التي سببتها وتسببت هي نفسها فيها! إن البيان يتجاهل ويتناسى أيضا أن الذي أوقف العدوان الثلاثي هو الولايات المتحدة وليس الاتحاد السوفيتي الذي أدلى بتصريحات نارية بعد أن قامت فرنسا وبريطانيا وإسرائيل بعمليات تدمير وتخريب واسعة النطاق في مصر. لم يوقف العدوان سوى الولايات المتحدة. وقامت ذيول موسكو وطوابيرها الخامسة بتسويق صورة ذهنية والترويج لها بأن نيكيتا خروشوف رفع الحذاء وهدد بالنووي. وهي أكذوبة تاريخية حقيرة ودنيئة وتنتقص من عقل الإنسان.
هذا البيان “العجائبي” يأتي في ظل ظروف سيئة يمر بها العالم كله، وعلى رأسه روسيا نفسها بسبب غزوها أراضي دولة مجاورة، كما فعلت مع المجر عام 1956، ومع تشيكوسلوفاكيا عام 1968، ومع أفغانستان عام 1979!! فما هو المطلوب من مصر تحديدا لإرضاء روسيا التي أسست إسرائيل وتركت الفلسطينيين والعالم العربي كله يستنزف نفسه وشعوبه عشرات السنين، وفي نهاية المطاف تم إخراجها من المعادلة، وتم توقيع معاهدات سلام منفردة وجماعية مع نفس إسرائيل. بل وقام الفلسطينيون أنفسهم بالتوقيع على معاهدة سلام مع الإسرائيليين. ولكن كل ذلك جرى بعد أن تم إخراج الاتحاد السوفيتي، وإخراج روسيا ما بعد السوفيتية، من المعادلة!! أو ربما بعد أن أخرجت روسيا نفسها من المعادلة بسياساتها الطفولية النزقة، والمتهورة والمتطرفة، والمغالية التي تتدلل فيها مثل شخص لا يعرف أحد ماذا يريد، لأنه هو نفسه لا يعرف ماذا يريد!
إنه بيان غريب وعجيب لا يقل غرابة وعجبا عن موقف روسيا من سد النهضة، ومن علاقات مصر بالدول الأخرى، ومن محاولاتها الحصول على قواعد عسكرية في مصر والسودان، وتحركاتها الغريبة مع أردوغان في ليبيا وأثيوبيا… مثل هذه البيانات الانفعالية النزقة التي تصدر عن مواقف غاضبة أو عن سيناريوهات يفكر فيها بعض الأفراد الذين لا يستطيعون النوم بسهولة، يجب أن تراعي مصالح الدول الأخرى وتوجهاتها، لأن روسيا هي التي حلت وفككت الاتحاد السوفيتي، وهي التي وقعت اتفاقيات مع أمريكا وحلف الناتو، وهي التي تقول شيئا لحلفائها الضعفاء، وتذهب لتقول أشياء وتتفق على أشياء مع أمريكا وأوروبا خلف الأبواب المغلقة..
الأمر الثاني والمهم أيضا في هذا السياق، هو أن “مغامرة” مشابهة جرت في نهاية أبريل الماضي، حيث سمعنا لأول مرة في حياتنا أن مصر طلبت من روسيا الاعتراف بأن “حلايب وشلاتين” أراضي مصرية! والمسألة هنا ليست في ملكية حلايب وشلاتين، ولكن في أن مصر طلبت من روسيا الاعتراف بمصرية حلايب وشلاتين!
لقد طرحت، إحدى وسائل الإعلام الروسية الناطقة بالعربية، والتابعة مباشرة للكرملين، “مقالا” يرى كاتبه أن “مصر لم تعترف أبدا بشبه جزيرة القرم كأراض روسية، على الرغم من مطالب مصرية لروسيا باعتبار مثلث حلايب أرضا مصرية. كذلك انضمت مصر إلى التصويت على القرار المناهض للجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، 2 مارس الماضي، والذي يطالب بإنهاء العملية العسكرية في أوكرانيا”!!
المقال غريب وعجيب، كونه يأتي عبر وسيلة إعلام حكومية متحدثة باسم الكرملين، وكونه يطرح مطالب محددة أمام القاهرة، وعليها أن تتصرف!!
ووصل الأمر إلى انتقاد القاهرة في عدم اعترافها بروسية شبه جزيرة القرم وعدم تأييدها الغزو الروسي لأوكرانيا. ويقول المقال الغريب: “لا يزال من الصعب الحكم على ما إذا كانت هذه الأحداث علامة على تخلي مصر فعليا عن سياستها في تعدد المحاور، لكني أعتقد أنه سيتعين عليها على الأرجح اتخاذ هذا الخيار في المستقبل القريب”.
ويذهب أيضا إلى الحديث باسم الصين قائلا: “بالنسبة لمصر، فإن الوضع سيكون أكثر تعقيدا في حقيقة أنه سيتعين عليها اتخاذ نفس القرار بالضبط فيما يتعلق بالصين، بعد فترة وجيزة. وسيكون ثمن ذلك القرار حينها أعلى بكثير”!!
أما الأخطر الذي ورد في هذه الرسالة، فهو تهديدات مبطنة وإشارات خطيرة بالفعل تدور حول قلاقل اجتماعية داخلية في مصر، وتخيير القاهرة بين القمح الروسي وبين القمح الهندي، وتلميحات بتهديد الاستقرار السياسي بمعناه الاجتماعي الداخلي. وهذا ما ورد في هذا “المقال!!”: “مصر كانت مشتريا رئيسيا للأسلحة والقمح الروسيين، ما ضمن أمنها العسكري والغذائي. ورفض القمح الروسي الرخيص سيكون له عواقب اجتماعية بالغة الخطورة.
وكان تبني مصر لسياسة تعدد المحاور في هذه الظروف اختيارا معقولا وسهلا وضمانا للحفاظ على الاستقرار السياسي الداخلي في البلاد.
إلا أن تقارير أخيرة وردت حول استعداد مصر لشراء القمح الهندي، على الرغم من رداءته وشوائبه الخطيرة”.
هناك تخبط حقيقي من جانب موسكو في التعامل مع الدول الأخرى، ويبدو أن الصواريخ “فرط الصوتية” و”العصا النووية” و”الإحساس بالعظمة” بدأت تدير رؤوس البعض وتشعرهم بالنشوة وبالقوة!
ما ورد في هذا “المقال!!” هو تنطعات القوميين الروس المتطرفين الذين يتحدثون عمليا باسم الأجنحة القومية المتطرفة في داخل الكرملين والأجهزة الأمنية الروسية. وهم المعلمون الذين يأتون في المرتبة الثانية، بعد النازيين الألمان، للبعثيين والقوميين العرب الفاشيين في المشرق العربي وفي بعض الدول العربية الأخرى…
إن تخيير مصر بهذه الطريقة الوقحة بين التخلي عن سياسة الحياد وتعدد المصالح والعلاقات، وبين تهديدها المبطن بوقف أو تعطل مشروعات مثل محطة الضبعة والمنطقة الصناعية، ومن ثم ضرورة انحيازها للقوميين المتطرفين في روسيا، أمر بالغ الخطورة. ويبدو أن ما ورد في هذا “المقال!!” هو رسالة عبر مؤسسة حكومية روسية تتحدث مباشرة باسم الكرملين. وهي رسالة غريبة وغير لبقة ولا تتوخى مصالح الدول الأخرى، بل تتجاوز حدود الممكن والمتاح وترسم للقاهرة الرسمية سياساتها الخارجية ونطاقات مصالحها. والأَوْلَى، ألا تبدد الكتل القومية الروسية المتطرفة جهودها وطاقاتها في تهديد الدول الأخرى أو رسم سياساتها، بل عليها أن تركز جهودها وقدراتها لمواجهة أعدائها، بدلا من دق الأسافين وممارسة ألعاب صبيانية وغزو الدول الأخرى، وطرح نمط جديد من البلطجة المسنودة بالعصا النووية…
من جهة أخرى، يبدو أن موسكو بدأت تضغط على القاهرة بملفات سياسية واقتصادية، وتوجه تهديدات مبطنة بشأن الاستقرار السياسي والاجتماعي. وأعتقد أنها أمور وخطوات غير موفقة إطلاقا في ظل الغزو الروسي لأوكرانيا، والعقوبات والحصار الغربيين لروسيا.
الأمر الآخر، وهذا مجرد تخمين أو توقع، هو أن خطوة القيادة المصرية الأخيرة بشأن إطلاق الحوار السياسي والاجتماعي في البلاد، جاء ليس كما يظن البعض بنتيجة ضغوط أمريكية وأوروبية، لأن هذه الضغوط موجودة من أيام الرئيس الراحل حسني مبارك أصلا، بل لاحتياجات داخلية ملحة وعاجلة، وأيضا لمواجهة مثل هذه التهديدات والتنطعات الغريبة عموما، وتلك التي فاجأتنا أيضا من جانب روسيا.