ما الثمن؟ ومن خضع لمن؟ أسئلة كثيرة تحيط بالإعلان الرسمي عن الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المملكة العربية السعودية. حيث يلتقي ولي العهد محمد بن سلمان، منتصف يوليو/تموز المقبل.

عادة، أي اجتماع من هذا النوع كان سيصبح روتينيا بين بلدين حليفين مثل السعودية وأمريكا. إلا أنه يمثل الآن تحولا كبيرا، بسبب التوتر الأخير في العلاقة، ومن المحتمل أيضا أن يثير ذلك بعض الجدل في الداخل بالنسبة إلى بايدن. في إشارة إلى انتقاداته السابقة للسعودية، على خلفية الحرب في اليمن، ومقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي. وسط تحريض من تيار اليسار في الحزب الديمقراطي، المستحوذ على الغالبية في الكونجرس.

في حوار سابق مع مجلة “ذا أتلانتك” الأمريكية، رد الأمير محمد بن سلمان بحدة على سؤال، حول ما إذا كان الرئيس جو بايدن “أساء فهم شيء ما عنه”. قال: “ببساطة لا أهتم. الأمر يرجع له بالتفكير في مصالح أمريكا. ليس لدينا الحق في تلقينكم محاضرات في أمريكا والعكس، ليس لديكم الحق بالتدخل في شؤوننا الداخلية”.

عودة العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة هي بمثابة لجوء لخيارات غير مريحة لكلا الطرفين. فولي العهد السعودي عليه أن يتجرع إساءة بايدن للمملكة خلال حملته الانتخابية، عندما تعهد بـ”جعل المملكة منبوذة”. في المقابل، انتقد بايدن بشكل متكرر سلفه، دونالد ترمب، لعلاقاته القوية مع رجال مثل محمد بن سلمان. متعهدا خلال حملته الانتخابية بإعادة القيم الديمقراطية إلى السياسة الخارجية للولايات المتحدة والسعي إلى إعادة ضبط العلاقات مع الرياض. كما أنه لم يتواصل مباشرة مع الأمير الشاب، واختار بدلا من ذلك التحدث مباشرة مع الملك سلمان.

اقرأ أيضا: “السلطة المطلقة”.. محمد بن سلمان: لا يحق لأحد التدخل في شؤون المملكة

كل ذلك دفع الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السعودية السابق -وأحد أهم أمراء المملكة- للقول بأن “الشعبية المتدهورة للرئيس بايدن بين الأمريكان هي التي جعلته يأتي إلى السعودية مهرولا. فهو يأمل في تعزيز شرعيته من خلال لقائه مع ولي عهدنا، الذي شكك في شرعيته سابقا”.

معادلة الأمن مقابل الطاقة

يجد بايدن نفسه مضطرا -ولا يمكنه- تجاهل السعودية، كونه يجد صعوبة حاليا في خفض أسعار البنزين المرتفعة في الولايات المتحدة. قبيل انتخابات الكونجرس المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. حيث بلغ متوسط أسعار الوقود الآن خمسة دولارات للجالون الواحد، أي أعلى بثلاثة دولارات من سعر العام الماضي.

فيما انعكس ارتفاع هذه الأسعار على الاقتصاد بجميع جوانبه، ما أدى إلى انخفاض معدل التأييد لسياسة بايدن و”الديموقراطيين” إلى أقل من 40%. وفقا لأحداث قياسات الرأي العام الأمريكي، ما دفعه لتوجيه رسالة شديدة اللهجة إلى شركات النفط، يطالبها بالتعاون مع إدارته لخفض أسعار الوقود. في ظلّ التضخّم الذي بلغ أعلى مستوى له خلال 40 عاما، محذرا من إجراءات طوارئ، لم يحددها.

وتأتي تحركات بايدن في وقت يسعى فيه الديمقراطيون للدفاع عن أغلبيتهم المحدودة في مجلس النواب الأمريكي. حيث تشهد الولايات المتحدة، في الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، وفيها يعاد انتخاب كافة أعضاء مجلس النواب البالغ عددهم 435 عضوا. مقابل ثلث أعضاء مجلس الشيوخ، أي 35 مقعدا من أصل 100. كما تشمل الانتخابات الاقتراع على مناصب 39 حاكم ولاية.

إضافة إلى ذلك يرغب بايدن في تحقيق هدف استراتيجي متعلق بضمان استمرار السعودية في تقوية علاقاتها مع الولايات المتحدة. بدلا من الاتجاه نحو روسيا والصين.

معادلة الأمن السعودية

في المقابل تبدو الرياض مستعدة لتقديم أية تنازلات، طالما حصلت على تعهدات واضحة وصريحة من واشنطن. بشأن ما يمكن تسميته بـ”معادلة الأمن السعودية”، التي تتمثل في 3 محاور رئيسية. أولها ضمان الدفاع عنها ضد أية تهديدات إيرانية، خاصة مع اقتراب توقيع الاتفاق النووي. فهذه القضية ترتبط ارتباطا وثيقا برغبة المملكة، في أن تثق بأن الولايات المتحدة ملتزمة بوقف تطوير إيران للأسلحة النووية. وأن واشنطن تحتفظ بالتزام استراتيجي تجاه الشرق الأوسط وشركائها الإقليميين. ووفقا لذلك، سيكون على واشنطن التعهد بمنع إيران من إنتاج أسلحة نووية. إذا ما أرادت عودة العلاقات مع المملكة إلى سابق عهدها.

ثاني محاور معادلة الأمن السعودية، التي سيكون على الإدارة الأمريكية إبداء التزامات واضحة بشأنها. هو إنقاذ المملكة من المستنقع اليمني، ولعب دور رئيسي في إنهاء الأزمة، وفرض قيود على وكلاء إيران في المنطقة. ولاسيما الحوثيين في اليمن، الذين أطلقوا-بدعم وتدريب وسلاح إيران- عشرات الصواريخ ضد أهداف مدنية وحيوية في المملكة بالفترة الأخيرة.

أما بالنسبة لثالث المحاور، والتي تأتي في مقدمة أولويات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فهو مستقبل العرش. حيث يرهن بن سلمان التنازلات التي ستقدمها المملكة، بالضوء الأخضر الأمريكي لتأمين اعتلائه عرش المملكة دون أية قلاقل أو اعتراضات. من من مراكز القوى داخل العائلة الحاكمة.

اقرأ أيضا: حقبة جيوسياسية جديدة.. تضاؤل ​​ثقة الشرق الأوسط في واشنطن

السعي لتحقيق “الجائزة الكبرى”

ما بين الشد والجذب والزيارات المتبادلة لمسؤولين رفيعي المستوى في البلدين، بدأت خريطة التنازلات تتضح شيئا فشيئا. فرغم تمسك المملكة مع بداية اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، بالاستجابة لنداءات بادين لزيادة إنتاج النفط للسيطرة على أسواق الطاق. جاء شهر يونيو/  حزيران الجاري، حاملا معه بدايات التراجع في الموقف السعودي. والذي تمثل في إقرار تحالف “أوبك+” -الذي يضم كبار منتجي النفط- زيادة الإنتاج 648 ألف برميل في يوليو/تموز، ومثلها في أغسطس/ آب المقبل. وذلك خلال اجتماع لم يستغرق سوى 11 دقيقة فقط لاتخاذ القرار، بعدما أعلن الاتحاد الأوروبي عن حظر كبير على الإمدادات من الخام الروسي.

في المقابل، رغم التأكيدات السعودية بعدم الانخراط في اتفاق إبراهيم مع إسرائيل لتطبيع العلاقات. قبل الحديث عن حل للقضية الفلسطينية، أو الالتزام الإسرائيلي بمبادرة السلام العربي. إلا أنه مؤخرا -ومع الحديث عن قرب زيارة بايدن للمملكة- تزايد الحديث في الأوساط الإسرائيلية بشأن “الجائزة الكبرى”، بحسب ما وصفها الإعلام الإسرائيلي. حيث توقعت صحيفة “هآرتس” أن يحقق رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، أمل توقيع اتفاق لتطبيع العلاقات مع السعودية برعاية أمريكية.

وكجزء من مساعيهم التصالحية مع الرياض، يسوق الأمريكيون لتقارب أمني بين إسرائيل ودول الخليج. من خلال تعزيز الاتفاقيات والأنظمة المشتركة للدفاع الجوي الإقليمي لدول الشرق الأوسط. في مواجهة الصواريخ والطائرات بدون طيار الإيرانية، تحت قيادة الجيش الأمريكي وقوات الجيش الإسرائيلي. وفقا للصحيفة الإسرائيلية.

نقل تيران وصنافير للسيادة السعودية

فيما يرى المسؤولون في واشنطن أن الأنظمة المشتركة للدفاع الجوي الإقليمي هي خطوة. قد تمهد الطريق أمام المزيد من اتفاقيات التطبيع بين تل أبيب وعدد من الدول العربية في المنطقة. في الوقت ذاته تتخذ واشنطن خطوة أخرى، تتمثل في بدء مفاوضات حول نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير -الواقعتين في مضيق تيران- من مصر إلى المملكة العربية السعودية. حيث يتطلب نقل السيادة على الجزيرتين موافقة تل أبيب، وتعديل معاهدة السلام الموقعة بينها وبين مصر في عام 1979.

التقارير الصحفية الإسرائيلية في هذا الصدد تدعمها تصريحات رسمية. وهو ما عبرت عنه وزيرة النقل الإسرائيلية، ميراف ميخائيلي. بشأن ما وصفته بـ”العمل الجاري” مع السعودية نحو تطبيع العلاقات بين البلدين. قالت: “العمل جار مع المملكة العربية السعودية فيما يتعلق بالرحلات الجوية فوق أراضيها التي يمكن أن تقصر أوقات الرحلات، كجزء من عملية التطبيع”.

كما شهدت الأيام القليلة الماضية سماح الرياض لعدد كبير من رجال الأعمال الإسرائيليين بالسفر إلى السعودية. بهدف تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.

اقرأ أيضا: “اتفاقيات إبراهيم”.. ورقة إسرائيل الرابحة للسيطرة على إدارة بايدن

تنازلات الإدارة الأمريكية

تحت ضغط شديد من أجل ردع روسيا، والتعامل مع أسعار الطاقة. لم يجد بايدن مفرا من تجاوز قضية مقتل الإعلامي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول عام 2018. لينحي جانبا منظوره الأخلاقي، والغضب الناجم عن العملية، لإعادة بناء علاقات أكثر دفئا مع المملكة.

في هذا السياق، قال مسؤول أمريكي رفيع المستوى في تصريحات لـ”وول ستريت جورنال”: اتفقت الدولتان على تجاوز الأمر -مقتل خاشقجي- في سبيل إحلال السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.

لم يكن ملف خاشقجي فقط هو ضحية التقارب الأمريكي- السعودي؟ بل أيضا ولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف، الذي يقبع رهن الاحتجاز بأحد القصور الملكية. والذي كان إطلاق سراحه، والسماح لمسئولين أمريكيين بلقائه، مطلبا أمريكيا رئيسيا خلال الفترة الماضية. للضغط على ولي العهد الحالي، محمد بن سلمان.

ولم يتوقف الأمر عند التنازلات عن الجوانب الأخلاقية في سياسة بايدن. بل اضطرت الإدارة الأمريكية لغض الطرف عن كثير من الملاحظات المتعلقة بأوضاع حقوق الإنسان. واتجهت لتوسيع التعاون مع المملكة، عبر إطلاق خطة عمل للشراكة التجارية بين الدولتين. بحسب بيان لوزارة التجارة الأمريكية، أوضحت فيه أن الخطة تركز على التعاون في 4 مجالات، هي: الاقتصاد الأخضر، وتعزيز دور المرأة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع الابتكار، وزيادة الاستثمار ثنائي الاتجاه.

ختاما، يمكن القول إن الضغوط المفروضة على كلا الرجلين (بايدن – بن سلمان). جعلتهما مجبرين على اللجوء إلى خيارات غير مريحة لهما، ودفعت كلا منهما لتجرع الآخر، على أمل تحقيق استقرار نسبي للأوضاع الداخلية في كلا البلدين. وتمكنهما من تفادي منعطفات حادة وشديدة الخطورة على مستقبلهما السياسي.