ينص التقرير الأخير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ الذي نشر في إبريل/نيسان الماضي على أن السياسة وقوة الشركات هي العقبات الحقيقية أمام العمل المناخي، وليس نقص الأدلة العلمية، أو تخلف التكنولوجيا، أو حتى نقص الأموال. لكن ملخص السياسات يخلو تماما من هذه الحقيقة. أعادت الشركات والدول النفطية والصناعات الملوثة كتابة التقرير و ملخص السياسات بما يخدم مصالحهم، وحذفوا أقوى الاستنتاجات التي توصل إليها العلماء.

وفقا للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، “إنهم يكذبون، هم لا ينكرون العلم الموجود في التقرير ككل، لكنهم يستبعدونه ويقللون من أهميته في ملخص السياسات”. ويوضح جوتيريش أن “نشطاء المناخ يصورون أحيانا على أنهم متطرفين خطرين، لكن المتطرفين الخطرين حقا، هم البلدان التي تزيد إنتاج الوقود الأحفوري”.

في أغسطس/آب الماضي، وبفضل مجموعة من العلماء (تمرد العلماء)، نشر تسريب للمسودة الأولى من تقرير الفريق الثالث للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، وكان التأثير فوريا، فرددت وسائل الإعلام في العالم رسالة التحذير الحمراء التي وثقتها المسودة، واختارت الصحف عبارات من المسودة كعناوين لتغطيتها الصحفية، من هذه العناوين أنه يجب إغلاق  جميع محطات الغاز والفحم الموجودة في غضون عقد تقريبًا.

لكن هذه العبارة اختفت تمامًا من الملخص. ليس هذا فقط، فالمقارنة بين المسودة المسربة والنسخة النهائية المنشورة مؤخرا تكشف بجلاء عن الدور الذي تلعبه الشركات الكبرى ودول النفط ومنظمة أوبك في عرقلة العمل المناخي في العالم وحرفه عن مساره الصحيح. استغرقت مراجعة التقرير فترة أطول مما كان متوقعا، وتأخر نشره بسبب الضغوط التي مارستها الشركات والدول أصحاب المصالح من أجل تعديله، ونشرت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي نيوز” تقريرا، عرضت فيه لـ 32000 وثيقة مسربة تضمنت تعديلات الدول والشركات والمنظمات فوق الحكومية على ملخص السياسات في التقرير الأخير.

تظهر الوثائق المسربة أن عددا من البلدان تجادل بأن العالم ليس في حاجة إلى تقليل استخدام الوقود الأحفوري بالسرعة التي توصي بها مسودة التقرير، وأن المملكة العربية السعودية واليابان وأستراليا من بين الدول التي طلبت من الأمم المتحدة التقليل من أهمية الحاجة إلى التحول السريع بعيدا عن الوقود الأحفوري، وأن المملكة العربية السعودية طالبت بحذف التوصية بالتحول السريع بعيدا عن الوقود الأحفوري، وأن مستشار وزارة النفط السعودية طالب بحذف عبارة “الحاجة إلى إجراءات تخفيف عاجلة على جميع المستويات”.

وتكشف الوثائق أن استراليا ترفض الاستنتاج القائل بأن إغلاق محطات الطاقة التي تعمل بالفحم أمر ضروري، وكذلك، ترفض الهند وقف استخدام الفحم، لأنها ترى أنه الدعامة الأساسية لإنتاج الطاقة بأسعار معقولة، على الرغم من أن وقف استخدام الفحم هو أحد الأهداف المعلنة لمؤتمر الأطراف السادس والعشرين. المملكة العربية السعودية هي واحدة من أكبر منتجي النفط في العالم، واستراليا مصدر رئيسي للفحم، والهند ثاني أكبر مستهلك للفحم في العالم.

ويظهر التسريب أن المملكة العربية السعودية والصين واستراليا واليابان والنرويج والأرجنتين- وجميع كبار المنتجين أو المستخدمين للوقود الأحفوري- وعلى رأسهم منظمة الدول المنتجة للنفط-أوبك- يدعمون تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه، ويزعمون أن هذه التقنيات-التي لم توجد بعد- يمكن أن تقلل بشكل كبير من انبعاثات محطات الطاقة والقطاعات الصناعية. وطلبت المملكة العربية السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم، من علماء الأمم المتحدة حذف استنتاجهم بأن “جهود إزالة الكربون في قطاع الطاقة يجب أن تركز على التحول السريع إلى مصادر خالية من الكربون والتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري”.

تقر مسودة التقرير بأنه يمكن لتقنيات احتجاز الكربون وتخزينه أن تلعب دورًا في المستقبل، لكنه يرى أن هناك شكوكًا في جدواها، وأن “هناك غموضا كبيرا في مدى توافق استمرار الاعتماد على الوقود الأحفوري مع تقنيات احتجاز ثاني أكسيد الكربون وتخزينه، مع الحفاظ على درجة حرارة أقل من درجتين مئويتين على النحو المنصوص عليه في اتفاقية باريس. ناضلت المملكة العربية السعودية، مع دول أخرى منها المملكة المتحدة، للتأكيد على هذه التقنيات المثيرة للجدل، والتي تسمح لها بأن تواصل العمل كالمعتاد.

هذا التفاؤل الساذج بالحلول التقنية مبني على اعتقاد مفاده أن التكنولوجيا ستنقذنا، وأن هذه التقنيات، التي لم يتم تطويرها بعد، سوف تأتي بطريقة سحرية، وفي الوقت المناسب، لتسمح باستمرار استخدام الوقود الأحفوري إلى الأبد. في هذا السياق أيضا، كثير من الألفاظ الرنانة والبلاغية لتبرير فكرة صافي الانبعاثات الصفرية، على الرغم من افتقادها لأي أساس علمي.

طلبت استراليا من علماء الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ حذف الإشارة إلى الدور الذي تلعبه جماعات الضغط في مجال الوقود الأحفوري في عرقلة الإجراءات المتعلقة بالمناخ خصوصا في استراليا والولايات المتحدة. كما طالبت أوبك اللجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ “بحذف عبارات مثل” نشاط جماعات الضغط”.

اختفت جميع الإشارات إلى الانبعاثات الناتجة عن الطيران وصناعة السيارات واستهلاك اللحوم من الملخص، وفعليا، اختفت كلمة “لحم” من النسخة النهائية المنشورة. وتكشف تسريبات بي بي سي أن البرازيل والأرجنتين، وهما من أكبر منتجي لحوم الأبقار ومحاصيل الأعلاف في العالم رفضتا بقوة الأدلة الواردة في مسودة التقرير على أن تقليل استهلاك اللحوم ضروري لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. مع أن مسودة التقرير تنص على أن “الأنظمة الغذائية النباتية يمكن أن تقلل من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة تصل إلى 50% مقارنة بمتوسط ​​النظام الغذائي الغربي المكثف للانبعاثات”.

لكن البرازيل تقول إن هذا غير صحيح. ودعت البرازيل والأرجنتين إلى حذف أو تغيير بعض الفقرات التي تشير إلى أن “النظم الغذائية النباتية” تلعب دورًا في معالجة تغير المناخ، أو التي تصف لحم البقر بأنه غذاء “عالي الكربون”. كما طالبت الأرجنتين بإزالة الإشارات إلى الضرائب على اللحوم الحمراء وحملة “اثنين بلا لحوم” الدولية، التي تحث الناس على التخلي عن اللحوم ليوم واحد، من التقرير.

في موضوع تمويل المناخ، كان قد تم الاتفاق في مؤتمر المناخ في كوبنهاجن عام 2009 على أن تقدم الدول الغنية والمتقدمة 100 مليار دولار سنويًا لتمويل المناخ للبلدان النامية بحلول عام 2020، وهو هدف لم يتحقق بعد. تكشف الوثائق أن سويسرا واستراليا وجهتا عددا كبيرا من الانتقادات والتعليقات على موضوع تمويل مشروعات التكيف والتخفيف في الدول النامية، وطالبتا بتعديل أجزاء من التقرير تتناول موضوع التمويل.

قالت استراليا إن تعهدات البلدان النامية بشأن المناخ لا يجب أن تعتمد على تلقي دعم مالي خارجي. وقال المكتب الفيدرالي السويسري للبيئة لبي بي سي” “إن تمويل المناخ أداة هامة لزيادة الطموح المناخي، إلا أنه ليس الأداة الوحيدة ذات الصلة”. وترى سويسرا أن جميع الدول الأطراف في اتفاقية باريس يجب أن تقدم الدعم لأولئك الذيين يحتاجون إليه.

وتكشف الوثائق أن عددا من دول أوربا الشرقية انتقدت التقليل من أهمية الدور الإيجابي الذي يمكن أن تلعبه الطاقة النووية في تحقيق أهداف الأمم المتحدة المناخية. وذهبت الهند إلى أبعد من ذلك، وترى أن جميع فصول التقرير تقريبا متحيزة ضد الطاقة النووية، مع أنها تقنية راسخة وتتمتع بدعم سياسي جيد إلا في عدد قليل من الدول.

وانتقدت جمهورية التشيك وبولندا وسلوفاكيا ما توصل إليه التقرير بأن الطاقة النووية لها دور إيجابي في تحقيق هدف واحد فقط من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر للأمم المتحدة، ويرون بأنها يمكن أن تلعب دورًا إيجابيًا في تنفيذ معظم أهداف التنمية للأمم المتحدة.

حذرت المسودة الأولى من التقرير من أن الشركات وأصحاب المصالح المكتسبة، باعتبارها العوامل الرئيسية التي تعوق التقدم في إجراءات التحول في مجال الطاقة، إلا أن هذه الإشارة، التي تظهر في التقرير، تم حذفها من الملخص. ولم يرد أي ذكر في الملخص لمشكلات التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، مع أنها كانت حاضرة في المسودة الأولى.

اختفت تماما فكرة أن التغييرات الفردية والتدريجية ليست كافية لتحقيق الأهداف المناخية، وحذفت عبارة “أن أهداف التخفيف والتنمية الطموحة لا يمكن تحقيقها من خلال التغييرات التدريجية”. كما اختفي أيضا ذكر “الديموقراطية التشاركية” كإحدى الأدوات والوسائل الرئيسية لتسريع انتقال آمن ومضمون لمنظومة الطاقة في العالم خلال فترة زمنية معقولة.

العلم واضح، لكن ملخص صانعي السياسات، وهو الجزء الوحيد من صفحات التقرير البالغ عددها 2900 صفحة الذي ستقرأه الغالبية العظمى من صانعي السياسات وقادة الأعمال، لا يرقى إلى مستوى العلم الذي يقف وراءه، ولا إلى مستوى التحديات المتمثلة في أزمة البيئة والطاقة وتغير المناخ. الملخص، هو الجزء الوحيد من التقرير، الذي لا يعتبر علميا بحتا، حيث يسمح نظام الأمم المتحدة للدول أن تشارك في تحريره، وأن تتفاوض على كل عبارة وكل كلمة فيه. هنا، وهنا بالضبط، يتقاطع العلم مع السياسة، ويتجلى التداخل بين العلم والسياسة والمصالح الاقتصادية في أوضح صوره.

لحسن الحظ، وعلى عكس الملخص، لا يخضع التقرير النهائي للتنقيح من قبل الدول والشركات القوية، وبالتالي، فهو يمثل وجهة النظر العلمية الخالية من الضغوط. للمرة الأولى، يحذر التقرير، في الفصلين الرابع عشر والخامس عشر، من العقبات التي تطرحها معاهدة ميثاق الطاقة (ECT) وآلية تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول (ISDS)، على سياسات التخفيف في دول العالم. تحمي هذه الاتفاقيات والمعاهدات الاستثمارات في مجال الوقود الأحفوري، وتسمح للمستثمرين والشركات متعددة الجنسيات- أولئك الذين أوصلونا إلى مفترق الطرق هذا- بمقاضاة الدول عندما تعتبر أنها سنت تشريعات قد تضر بمصالحها الاقتصادية الحالية أو المستقبلية.

يمكننا أن نعثر في التقرير على حلول  ومسارات ممكنة لمعالجة الوضع الراهن، يقترح العلماء ثورة في مجال الطاقة وخفض النمو وتغيير النموذج الاقتصادي الاجتماعي وبسرعة. ورد ذكر كلمة “خفض النمو” 28 مرة في التقرير الكامل، مقارنة بصفر في الملخص. هذه هي الطريقة التي يقترحها علماء المناخ، والتي تحاول الشركات والدول النفطية التعمية عليها.

بعد أيام من نشر النسخة النهائية من التقرير،  كشفت ورقة بحثية نشرت في دورية “السياسات البيئية” أن الحركة المضادة للمناخ قديمة، ولا تزال تعمل بكفاءة وفعالية، وتشرح كيف تتحرك الشركات والصناعات الملوثة ودول النفط لمنع العمل المناخي وتعطيله وحرفه عن مساره، وأكدت الوثائق التي اعتمدت عليها الورقة أن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ كانت- منذ تأسيسها في عام 1988- هدفا لعرقلة الشركات والحركة المضادة للمناخ، وهذا ما سنناقشه في الجزء الثاني من المقال.