وكأنها بداية النهاية لقصة “أسانج” التي شغلت العالم منذ ما يزيد على عقد من الزمان. إذ أمرت الحكومة البريطانية بتسليم مؤسس موقع ويكيليكس المثير للجدل -جوليان أسانج- للولايات المتحدة. ليواجه اتهامات بالتجسس في الوقت الذي أكدت ويكيليكس فيه أنها بصدد الاستئناف ضد القرار.

ماذا حدث؟

في تصريحات مفاجئة قالت وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل إنها وقعت أمرا يوم الجمعة الماضي بتسليم أسانج احتراما لحكم محكمة بريطانية في أبريل يقضي بإرساله إلى الولايات المتحدة. وذلك بسبب نشر ويكيليكس مجموعة ضخمة من الوثائق السرية منذ عقد من الزمان.

وجوليان أسانج صحفي وناشط ومبرمج أسترالي أسس موقع ويكيليكس ويرأس تحريره. وقد حصل على العديد من الجوائز الصحافية والحقوقية منها جائزة من منظمة العفو الدولية في 2009 ورشح لجائزة نوبل للسلام عام 2019.

زاد صيت أسانج وويكيليكس منذ عام 2010 عندما بدأ نشر وثائق عسكرية ودبلوماسية عن الولايات المتحدة. وذلك بمساعدة من شركائها في وسائل الإعلام. وجرى اعتقال شريكته تشيلسي مانينج للاشتباه في توريدها الكابلات إلى ويكيليكس.

جوليان أسانج مؤسس ويكيليكس
جوليان أسانج مؤسس ويكيليكس

كما صعد سلاح الجو الأمريكي ضد العسكريين الذين يجرون اتصالات مع ويكيليكس. واعتبرهم يتواصلون مع “العدو” وهددهم باتهامات محسوبة على التجسس. كما اعتبرت وزارة العدل في الولايات المتحدة أسانج مدانا بجرائم على رأسها سرقة ونشر وثائق عسكرية ودبلوماسية. كما صدر بحق “أسانج” أمر اعتقال أوروبي في استجابة لطلب الشرطة السويدية بتهمة اعتداء جنسي نفاه “أسانج” وأكد أنها اتهامات “مُسيّسة للتخلص منه”.

صفقة سياسية أم امتثال للقانون؟

بحسب وزارة الداخلية -التي ردت على اتهامات دعم التعسف في استخدام القانون- فإن محاكم المملكة المتحدة لم تجد أن تسليم أسانج سيكون قمعيًا أو غير عادل أو إساءة استخدام للإجراءات. كما أنها لم تجد أن التسليم يتعارض مع حقوق الإنسان بما في ذلك حقه في محاكمة عادلة وحرية التعبير. وأنه أثناء وجوده في الولايات المتحدة سوف تتم معاملته بشكل مناسب بما في ذلك ما يتعلق بصحته -بحسب الوزارة البريطانية.

ولم تشأ الداخلية الإنجليزية غلق الباب أمام الأمل في بقاء أسانج. خاصة مع حملات دعمه على مواقع التواصل ومن النشطاء. إذ يتبقى أمام أسانج 14 يومًا للاستئناف  على القرار. لكن استمراره من عدمه بيد القضاء وليس الحكومة الإنجليزية.

قائمة اتهامات أمام المحاكم الأمريكية.. ما هي؟

طلبت الولايات المتحدة الأمريكية من السلطات البريطانية مرارا وتكرارا تسليم أسانج حتى يمكن محاكمته في 17 تهمة بالتجسس. إذ يرى المدعون الأمريكيون أن أسانج “ساعد بشكل غير قانوني في سرقة البرقيات الدبلوماسية السرية والملفات العسكرية التي نشرتها ويكيليكس لاحقًا”. ما عرض الأرواح والمصالح الأمريكية للخطر.

في المقابل يجادل مؤيدو ومحامو أسانج –50 عامًا- أنه كان يعمل كصحفي ويحق له الحصول على حماية التعديل الأول لحرية التعبير لنشره. ويؤكدون أخلاقية حصوله على الوثائق بعد أن كشفت أخطاء الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان. ويجادلون بأن قضيته لها دوافع سياسية.

ويرفض محامو أسانج تسليمه إلى أمريكا. إذ يواجه عقوبة تصل إلى 175 سنة في السجن حال إدانته. رغم أن السلطات الأمريكية ردت على هذه المزاعم وقالت إن أي حكم من المرجح أن يكون أقل من ذلك بكثير.

أين أسانج الآن؟

قد يتصور البعض أن أسانج مع هذه الضجة يعيش بحريته في بريطانيا. لكن الحقيقة أنه محتجز في سجن بلمارش البريطاني شديد الحراسة في لندن منذ عام 2019 حين تم إلقاء القبض عليه بتهمة تخطي الكفالة خلال معركة قانونية منفصلة.

وقبل ذلك أمضى سبع سنوات داخل السفارة الإكوادورية في لندن لتجنب تسليمه إلى السويد لمواجهة مزاعم اغتصاب واعتداء جنسي أيضا. لكن مؤخرا أسقطت السويد تحقيقات الجرائم الجنسية في نوفمبر 2019 بسبب مرور وقت طويل على التقاضي.

موقف بايدن.. هل يتدخل لإسقاط التهم؟

لا تزال معرفة موقف الرئيس الأمريكي والجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي الحاكم مبكرا. لكن هناك تحالف من جماعات الحريات المدنية وحقوق الإنسان في أمريكا بدأ يضغط على إدارة بايدن للتخلي عن الضغط السياسي والقانوني على بريطانيا لتسليم مؤسس موقع ويكيليكس جوليان أسانج ومقاضاته. ويعتبرون القضية المرفوعة ضده في عهد ترامب “تهديدا خطيرا لحرية الصحافة”.

ويعتبر هؤلاء أن مجرد توجيه الاتهام إلى أسانج يهدد حرية الصحافة لأن الكثير من الجرائم الموصوفة في لائحة الاتهام ينخرط فيها الصحفيون بشكل روتيني. ويجب تحفيزهم دائما على الانخراط في القيام بالعمل الذي يحتاج إليه الجمهور للقيام به. فالإعلام أحد أدواره نشر المعلومات السرية من أجل إعلام الجمهور بالمسائل ذات الأهمية العامة العميقة.

ويتم الضغط حاليا بهذه الردود على المنظومة السياسية والقضائية الأمريكية من قبل تحالف على رأسه مؤسسة حرية الصحافة ومنظمة العفو الدولية ومركز الحقوق الدستورية وهيومن رايتس ووتش. إذ تعتبر أن معظم التهم الموجهة إلى أسانج تتعلق بأنشطة لا تختلف عن تلك التي يستخدمها الصحفيون الاستقصائيون في جميع أنحاء العالم يوميا. مطالبين بايدن تجنب وضع سابقة مروعة عبر تجريم الأدوات الرئيسية للصحافة المستقلة. والتي تعتبر من الأسلحة الضرورية لاستمرار الديمقراطية الصحية في أكبر ديمقراطية بالعالم.

أسلحة الغرب لعدم تسليم أسانج

ردود الفعل على القرار الذي اتخذته وزارة الداخلية البريطانية لتسليم أسانج لم يجد صدى عند مؤسسات صنع القرار في الأجهزة الأمنية التي يسيطر على بعضها رجال ترامب. إذ بعد تصريحات الداخلية البريطانية خرج مارك رايموندي -متحدث الأمن القومي الأمريكي- ليؤكد أن وزارة العدل لا تزال ملتزمة حاليا بالطعن إذا تم رفض طلبها بتسليم أسانج.

ما يقوله رايموندي يؤكد أن تسليم أسانج قضية معقدة للغاية تمثل معضلة سياسية وقانونية موروثة منذ سنوات. لكن القاسم المشترك أن كل الإدارات تلجأ للفعل السياسي حسب قناعاتها الأخلاقية والسياسية. باعتبارها مسألة ذات واقع سياسي وبيروقراطي. وبالتالي يمكنها أن تنغلق على نفسها بشكل فعال من هذه الزوايا.

ورغم تصلب أجهزة الأمن فإن إدارة بايدن قد تلجأ لمسارات إدارة أوباما عام 2010. حيث لجأ أوباما بذكائه السياسي إلى تعويم القضية في المداولات المستفيضة مع المدعي العام آنذاك لكسب الوقت في معرفة إذا كانت مقاضاة أسانج يمكن اعتبارها داخل أطر المحاسبة على جرائم وليست تقويضا الصحافة أو حرية الرأي والتعبير.

لم يكتف أوباما بذلك بل خفف الحكم على محللة استخباراتية بالجيش قامت بتنزيل أرشيفات الوثائق وإرسالها إلى ويكيليكس. وذلك بعد أن تم تقديمها لمحاكمة عسكرية عام 2013 بتهمة تسريب الوثائق وتم الحكم عليها بالسجن 35 عامًا. وخفف أوباما معظم ما تبقى من عقوبتها عام 2017.

وامتنع مسئولو إنفاذ القانون في عهد أوباما عن توجيه اتهامات إلى أسانج. فيما استخدموا كل الحيل الممكنة لإيجاد طريقة ذات مغزى قانوني للتمييز بين لائحة الاتهام ضده ومهام صحافة الأمن القومي الاستقصائية التقليدية كما تمارسها المؤسسات الإخبارية.

المسؤول الأول عن تعقيد موقف أسانج

الأمر تغير كليا منذ عام 2018. إذ لجأت إدارة ترامب إلى اتهامه مباشرة بالمشاركة في مؤامرة إجرامية متعلقة بالقرصنة. وتخلت عن مسارات إدارة أوباما التسامحية التي كانت تبتعد كليا عن ترويج مثل هذه الاتهامات.

ربما هذا الموقف التصعيدي من إدارة ترامب كان السبب في سحب السويد مذكرة التوقيف ضده. بعد أن جرى سحبه من السفارة الإكوادورية في لندن واعتقاله. لكن ترامب لم يرتدع ووجه ضده اتهامات أخرى تتوسع في اعتباره جاسوسا وقرصانا ضد مصالح الولايات المتحدة.

حتى الآن ورغم الجهود الكبرى لتجميد القضية لوقت آخر أكثر ما يخيف النشطاء ومؤسسات حقوق الإنسان والصحافة أن جون سي ديميرز، كبير مسئولي الأمن القومي بوزارة العدل لإدارة ترامب يمارس صلاحيات منصبه. إذ طلب منه الانتقال إلى بايدن لأغراض الاستمرارية في العمل حتى تعيين إدارة أخرى بعد استقالة معظم المعينين السياسيين الآخرين من قبل ترامب.

أسانج وحرية الصحافة
أسانج وحرية الصحافة

وقد يكون الأمر أفضل لأسانج خلال السنوات القادمة حال إعادة تعيين مسئولي إدارة إوباما في مناصب الأمن القومي والادعاء العام. إذ كان هؤلاء يرفضون التصعيد في القضية والضغط على إنجلترا لتسليمه باعتبار لائحة الاتهام بحقه تشوش على حرية الصحافة وتهدد مستقبلها في البلاد. بعكس إدارة ترامب التي لم تعبأ مطلقا بأن توصم بأنها خصم لمؤسسة صحافية حرة وغير مقيدة.