بعد تنحي مبارك وظهور مؤشرات نجاح ثورة يناير مع البدء في تأسيس نظام جديد، فتح الإعلام نوافذه وأبوابه لما أطلق عليه وقتها “شباب ثورة يناير”، انطلق الشباب إلى الجماهير المتلهفة للسياسة والتغيير عبر شاشات وصفحات الإعلام، خلال أسابيع قليلة تكون لدى الإعلام محتوى جديد ونجوم جدد، ظن النجوم وقتها أن مجرد حديثهم عن الثورة وباسم الثورة كافيا، ولكن المتابعين انتظروا أكبر من ذلك بكثير، كانوا في انتظار مشروع بديل وسياسات جديدة وتنظيمات قوية، لم يفطن النجوم الجدد إلا متأخرا أن ظهورهم الإعلامي كان خطرا عليهم وعلى الثورة، تراجعت شريحة مؤيدي الثورة مع كل ظهور إعلامي لنجوم الحراك.
خلال عام حكم جماعة “الإخوان المسلمون” لمصر، كان أخطر ما واجههم هو الانفتاح الإعلامي بعد أن وجه إليهم الإعلام أسئلة كانت أكثر خطورة من كل الانتقادات، في أغلب الأوقات تم اصطياد كوادر الجماعة عند الإجابة عن أسئلة مثل “ماذا تريد الجماعة من حكم مصر؟” وسؤال “كيف تنتوي الجماعة تنفيذ رؤيتها في الحكم؟”، كانت هذه الأسئلة أكثر صعوبة وإرباكا من كل ما واجهته الجماعة من انتقادات، وربما كان التغير الكبير الذي طرأ على الرأي العام خلال سنة من يونيو 2012 وحتى نفس الشهر من 2013، كان سببه هو التأثير السلبي لظهور كوادر الجماعة وداعميها من التيار الإسلامي عبر منصات الإعلام، فكان أكثر خطورة على التنظيم من أحاديث منتقديهم.
خلال سنوات مضت، تراجع فيها التأثير الإعلامي على الرأي العام بشكل كبير، نفذ الإعلام ما طُلب منه بالتحديد، نشر الإيجابيات والحديث عن الإنجازات وفضح خطط أهل الشر، صنع الإعلام نجومه الجدد كالعادة، تبارت وسائل الإعلام في المدح والدعم وهجاء المعارضين، وهو ما تكرر لمدة سنوات حتى عزف المتابعون عن الإعلام السياسي، وعادوا الى اهتمامات الرياضة والفن.
منذ أسابيع وتحديدا بعد أن أطلق الرئيس دعوته لـ”الحوار الوطني”، بدأت وسائل إعلامية عديدة سواء مستقلة أو تابعة للدولة، بالتسابق لتنفيذ رغبة الرئيس، وفي سبيل ذلك تغيرت نبرة عدد من الإعلاميين في الحديث عن رموز المعارضة، بل تطور الأمر إلى استضافة أشخاص كان لا يذكر اسمهم إلى متبوعا بسيل من الاتهامات والافتراءات، ليصبحوا نجوما محتملين لموسم “الحوار الوطني” القادم.
تحدث الرئيس في عدة مناسبات خلال الأيام الماضية عن المعارضة، دعاهم إلى تقديم آرائهم وانتقاداتهم بكل وضوح، كما وعد بأن يستمع إليهم بنفسه، وهو ما بدأ الإعلام يقوم به على استحياء وأتوقع أن تتسع دائرته مع بدء جلسات الحوار المنتظر، كما أعلن الرئيس عزمه على مناقشة ما تطرحه المعارضة من انتقادات والرد عليها، وبالطبع تلقفه عدد من الإعلاميين المقربين من النظام وبدأوا الإعداد له بذكاء.
بعد سنوات من حياة الظل والعزل الإجباري الذي عاشته المعارضة، لدى المعارضة كل ما تحتاجه من حديث عن انتهاكات السنوات الماضية، وكل ما ساد فيها من سياسات تسببت في تفاقم الدين وتراجع الاقتصاد والإضرار بسمعة مصر الخارجية، بالإضافة طبعا لما تسببت فيه سياسات التضييق الأمني من تراجع الحريات المدنية والسياسية، يمكن أن تتكلم المعارضة لسنوات قادمة في كل هذا، ولكن هل ستتم إتاحة الفرصة لذلك؟
في تعليق للإعلامي “عمرو أديب” على اللقاء التلفزيوني الذي أجراه المعارض البارز “حمدين صباحي”، تركزت تعليقات أديب حول جملة “نحن ننتظر من المعارضة أن تطرح حلولها للمشكلات”، وهو ما يجب أن تتوقف المعارضة عنده، خاصة من يحتمل أن تتم دعوتهم لحضور جلسات “الحوار الوطني” وبالطبع الظهور الإعلامي المرافق لها.
حتى لا يتحول الإعلام الى “مصيدة” للمعارضين، يجب أن تكون هناك استراتيجية واضحة حول ما سوف تقوم به المعارضة في جلسات الحوار، مراجعة السياسات السابقة وتقديم مطالب عامة وترك مسئولية تنفيذها للدولة، أم الانزلاق إلى خانة المشاركة في صنع سياسات الدولة، فاذا كانت النية الانتقال من خانة النقد إلى المشاركة فيجب تجهيز إجابات لأسئلة سيتم طرحها خلال الحوار، حول رؤية المعارضة لـ”أولويات العمل الوطني” خلال الفترة القادمة، وخطط فعلية لعلاج المشكلات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها المجتمع، كما يفترض أن تكون الإجابات عملية وواقعية وتحمل الجميع مسئوليته، مع رفض فكرة “دعونا من الماضي ولنتحدث عن الواقع والمستقبل”، فلا يمكن الحديث عن “روشتة” اقتصادية دون المرور بقضية الديون وأسباب تفاقمها.
الحديث حول الرؤية العامة والأحلام والأمنيات، سوف يتم الرد عليه بـ”اسكريبتات” جاهزة بما سوف تواجهه من تحديات وطرق التعامل معها، الإجابة عن أسئلة “كيف توازن بين احتياجات الطبقات الأكثر فقرا وطموح أصحاب المال؟”، ” كيف يمكن تمرير قوانين تعلي من شأن الحقوق المدنية دون الاصطدام بالمؤسسات الدينية والجمهور المتدين؟”، “كيف يمكن الموائمة بين التحديات الأمنية والحقوق السياسية؟”، “كيف نحمي حقوقنا الوطنية من أطماع أطراف إقليمية ودولية لديها نفوذ لا يمكن مجابهته؟”
ينظر جانب كبير من المعارضة إلى “الحوار الوطني” باعتباره فرصة لإعادة المعارضة إلى المسرح السياسي، واجتذاب الجمهور غير الراضي عن الأوضاع الحالية، ولكن ما يغفله البعض، أن النظام أيضا قد يرى في نفس الحوار فرصة، فمن خلال ظهور المعارضة في الواجهة وطرح التحديات التي يواجهها الوطن على الطاولة وأمام الإعلام، قد يثبت للمتابع أنه “لم يكن في الإمكان أفضل مما كان”، وأن المعارضة ليس لديها حلول يمكن تطبيقها، ونعود إلى مقارنة “رجال الأفعال” بـ”رجال الأقوال”.
الإعلام -المؤيد للدولة- أيضا يرى في الحوار فرصة، فمن خلال تغطية الحوار يمكن للإعلاميين إعادة تقديم أنفسهم، للجماهير وكانه “إعلام مهني” يناقش المحتوى بعيدا عن الأشخاص، وأيضا إثبات أحقيتهم في الدعم –المادي والمعنوي – الذي يتلقونه من الدولة، بإظهار قدرتهم على التأثير وبأن الإعلام لازال أداة فاعلة، قادرة على دعم النظام ومواجهة معارضيه، سواء بالتشنيع والتشويه والافتراء، وهو ما كان يتم منذ سنوات، أو باستجواب المعارضة حول ما تطرحه من سياسات، وتغيير دفة الحوار بدلا من أن يقوم النظام بالاعتراف بأخطاء الماضي والنقاش بشفافية حول المستقبل، أن يكون النقاش لتبرير ماسبق وعلى المتضرر أن يقدم بدائل مرضية للدولة والإعلام قبل أن ترضي الجماهير.