إهداء: إلى روح سعد حلاوة وذكرى مصطفى حافظ وطريق محمود نور الدين

الإرهاب فطرة.. صارت صناعة؟

 فكر في تصرفك وأنت صغير عندما كنت تختبئ في “الحتة الضلمة” ثم تفاجئ أختك الصغيرة صارخا: بخ! “هل تصدق الآن أن هذا المقلب الضاحك يؤكد أنك “إرهابي”؟.

أصدق أنك كنت طفلا بريئا ولم تقصد ممارسة الإرهاب ضد صاحبك أو إخوتك. بل كنت تنشد المتعة وأنت ترى ضحيتك في حالة ذعر. لذلك يمكننا تعميم الصياغة ليصبح تصرفك دليلا على أن الإنسان “إرهابي بالفطرة”. كل الحكاية أننا نمارس الإرهاب بدرجات ونبرره بظروف وضرورات ونتحكم فيه بحسب جهدنا في تطوير أخلاقنا وثقافتنا واحترامنا لحقوق غيرنا وقدرتنا على كظم الغيظ والتحكم في الغضب.

قبل أن تغضب من اتهامك بالإرهاب أعترف لك أنني مثلك. فأنا لست ضد العنف في العموم ويمكنني ببعض التحفظات في المفاهيم أن أؤكد أنني لست ضد الإرهاب. فأنا أنتمي إلى عقيدة تدعوني إلى إعداد القوة لإرهاب أعدائي وأعداء الله. وإذا نحينا النص الديني من النقاش حاليا فإنني على مستوى الأفكار والتحيزات عشت زهرة عمري مشجعا للعنف الثوري. ولم أكن ضد استخدام القوة في كل مجالات الحياة بل كنت أردد فخورا: ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.

وبالمناسبة، هذا ما علمتني الدولة وما حفظته من مواعظها على غلاف كراسات الدرس. ولما كبرت واتخذت مسارا مستقلا عن الدول والزعماء لم أغير نظرتي لأهمية القوة في حياة الإنسان وفي صناعة الحضارات. فقط بدأت أراعي تطور مفهومها وأدواتها. وهذا يعني أن إدانتي للقوة الغاشمة مجرد إدانة لنوع من القوة انتهى زمنه. فلست أعيش في العصر الحجري لكي أتمسك بمفهومه عن القوة التي انتقلت من الحجر إلى الحصان إلى البخار إلى الذرة. ثم إلى قوة ناعمة تغرس الأفكار وتبدل النفوس وتحتل الأدمغة.

لنكن صرحاء أكثر. برغم الخطورة في مناقشة هذه القضية الحرجة. فأقول إنني كثيرا ما دعمت الإرهاب وفرحت بمقتل آخرين. حدث هذا في طفولتي وأنا أتابع أخبار الحرب مع إسرائيل بعد النكسة. هذا عادي وتبرره إذاعات الدولة لأنه “نصر” و”بطولة”. لكن الإذاعات تتحرج من تأييد مشاعر الفرح بقتل الأعداء في الداخل. لكنني فعلت هذا. لقد كنت مع الفرحين باغتيال الرئيس السادات. وكثيرا ما أسترجع المشهد في ذاكرتي. حيث كنت في ضيافة رفاق أعزاء من الشيوعيين في قرية العمار الكبرى. وعرفنا الخبر تحت أشجار المشمش. واختلطت الدهشة بالفرحة ونحن نتابع الأخبار ونتابع معها ردود فعل الناس التي وصلت ببعضهم إلى “بل الشربات” وتوزيعه على المارة!

(لا أقتل ولا أعترض على بعض القتل)

العبرة من استعادة هذا المشهد هي التأكيد أنني لست “ملاك سلام” ينبذ العنف في عمومه ويدين القتل أيا كانت أسبابه. بالعكس كنت من أنصار العمليات الفدائية والكفاح المسلح. وكنت مؤيدا بشدة لتنظيم “ثورة مصر” الذي استهدف عناصر مخابرات صهيونية على أرض مصر لمقاومة التطبيع “بإرهاب العدو”.

لقد كان جول جمال بطل طفولتي وكان حلمي الأكبر أن أعيش كفدائي وأموت كفدائي. وبكيت تعاطفا من أجل الشاب القاتل في فيلم “في بيتنا رجل”. هكذا كنت مع الدولة في صف ما تسميه “دولة أخرى” اليوم بالإرهاب. ومع كل ذلك هناك شيء ما حال بيني وبين أي مشاركة في العنف السياسي وغير السياسي. فما هذا الشيء الذي منعني من أن أكون إرهابيا؟. وما الأشياء التي تدفع البعض لممارسة الإرهاب أو تشجيعه ودعم المنفذين له؟

لا أحب الإجابات المباشرة على طريقة قول الليمبي: “الجريمة لا تفيد”. لأن الموضوع متشابك ومعقد. حتى إن من يحارب الإرهاب يمارس الإرهاب في الوقت نفسه وربما بعنف أشد. وهذا يذكرني بحكاية أفضل حكايتها قبل أن أسترسل في المقال.

حكيت هذه الحكاية على شاشة التليفزيون: صار معروفا أنني لا أعارض حاكما واحدا في بلدي. لكنني أعارض 22 حاكما عربيا. وأثناء انعقاد مؤتمر للقمة العربية دخلت دورة المياه وفوجئت بألد الحكام إلى جواري فاتحا عروة بنطلونه بلا حرس ولا إعلام ولا هيلمان. مجرد رجل أعزل “مزنوق” يقضي حاجته. بينما كان سلاحي الشخصي معي جاهز للإطلاق.

سألت المشاهدين: هل أرفع السلاح وأطلق الرصاص؟

وأجبت على الفور: لا. لن أفعل

– لكنه خائن وعميل وإشي وإشي..

هذا موضوع آخر. لكنني لن أطلق الرصاص على أحد

ثم أضفت موضحا: بالمناسبة ليس لدي مانع أن يفعلها أحد غيري. قد أدين العنف في الخطاب العام. لكنني لا أستطيع أن أمنع قلبي حينها من الفرح.

هذه طبعا حكاية افتراضية لكنها توضح “الحوسة” التي نقع فيها عند الحديث في موضوع الإرهاب. لأن المفهوم نفسه يتضمن مغالطات وتعريفات وتحريفات. خلطت الإرهاب بالدفاع عن الحق أو الأرض أو الشرف. فلم تعد الحدود واضحة بين الجهاد والإرهاب. وكذلك بين إرهاب الأفراد وإرهاب الدول.

وقبل أن أهرب من هذه الفقرة أوضح أن حالة مثل “منظمة ثورة مصر” التي ذكرتها أو مثل حالة سليمان خاطر التي أتذكرها ولم أذكرها ستظل حية وغير قابلة للإدانة التامة. حتى لو أدانتها محاكم وأنظمة حكم في أوقات معينة. وهناك أمثلة على ذلك في التاريخ. حيث يجرم القانون شخصا أو حادثا ثم يتم إعادة الاعتبار له وتكريمه في مرحلة لاحقة. لأنه (برغم مخالفة القانون والاتفاقات السياسية) يظل الأقرب للحق الوطني والأخلاقي. بل ربما يمثل ضمير الدولة التي اضطرت لإدانته ومحاكمته.

ولهذا كنت أقول إن رجل المخابرات المصري محمود نور الدين لم يخرج عن الدور الذي نشأ عليه. ولم يخالف عقيدة الدولة والجهاز الذي يعمل من داخله. بالعكس. كانت مشكلته أنه أخلص لعقيدة الجهاز وواصل العمل من خارجه بالمنوال القديم نفسه. دون أن يراعي “الأبديت” أو “التنسيق” أو الالتزام بالتعليمات العليا. وبطبيعة الأمر الواقع والقوانين والظروف السياسية فإن مخالفته للتعليمات تعطي حق محاسبته للجهاز وللدولة. لكن حق الوطن وحق الفكرة وحق الانتماء يبقى قائما لرد الاعتبار والتقدير مع الأيام. فالتاريخ يقول كلمته أيضا إلى جانب كلمة القضاء والأجهزة السياسية.

ومن هنا يأتي التعقيد والخلط لأن المحاكمات قد تنصرف إلى الإجراءات والنصوص. وتعاقب فعل الخروج على القواعد والتعليمات. حتى لو تعارض مع فكرة الحق الوطني أو الإنساني. لهذا نتفهم محاسبة جندي أطلق النار على الأعداء لأنه خرق هدنة أو خالف أمر قائده. مع أنه أطلق رصاصاته في الجهة الصحيحة في المعركة الصحيحة. ومن هنا تأتي المشكلات التي تحتاج إلى جراحة دقيقة للفصل بينها.

(إرهاب محمود وممدوح!)

اعترافي بتاريخي الإرهابي (هذه سخرية طبعا) لا يعني أنني أعترف بجريمة فردية نكراء. لكنني فقط أضرب المثل بنفسي وأطالب كل قارئ بالعصف الذهني والتعامل الصادق مع نفسه عندما يتذكر إعجابه بالعنف وفرحته بمقتل أو اغتيال إنسان ما. وأذكركم بحالة مثقف من مثقفي الدولة المسالمين. كان لطيفا في مواقفه المؤيدة للسلطة ومعارضا ثوريا في أشعاره. ولما حدث أن ضابطا اغتال رئيس الجمهورية كتب فيه قصيدة مديح طويلة اختتمها ببيت يقول فيه “كل القضاة زايلين والمتهم (خالد)”.

ما كتبه الأبنودي عن خالد الإسلامبولي مر باعتباره شعرا لكن عندما أطلقت إيران اسم القاتل على أحد شوارعها صارت أزمة سياسية.

والمغزى هنا هو بيان مدى الاختلاف في تقدير حوادث العنف السياسي ونظرة الأفراد والدول لها. بل أواصل فأقول نظرة الشعوب أيضا وليس أفرادا فقط.

وفي قصة إبراهيم الورداني مساحة هائلة للنقاش والدهشة من مفارقة الإرهاب المحمود أو الممدوح: صيدلي شاب ينتمي للحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل (المقرب من الخديو والشعب معا) يغتال رئيس الوزراء بطرس غالي. فتنبري الصحافة والمحامون للدفاع عنه. وعندما يحكم عليه القضاء بالإعدام يرفض المفتي (الشيخ بكري الصدفي) الموافقة على الحكم ويطلب إحالته إلى لجنة طبية. لكن المحكمة لم تأخذ برأيه وتم تنفيذ الحكم الذي شارك في التمهيد له عبد الخالق ثروت كنائب عام. وهو الرجل الذي يزين اسمه الشارع الذي يضم نادي القضاة ونقابة المحامين وكذلك الصحفيين. ومع أجواء تنفيذ الحكم في مثل هذه الأيام من صيف يونيو الحار كان الشارع المصري يفور تعاطفا ودعما مع القاتل دون أن يتذكر اسم ثروت باشا الذي اتخذ مساره مع السلطة وصار رئيسا للوزراء بينما حفظ التاريخ الشعبي اسم الورداني في أغنية الوداع الحزين: “قولوا لعين الشمس ما تحماشي أحسن غزال البر صابح ماشي”.

(هل من حدود فاصلة؟)

في حالة الورداني قال القضاء الرسمي كلمته وقال الشارع كلمته. كانت الناس تتعاطف وتجمع التوقيعات وتوزع صور القاتل في المقاهي والمحال. وكانت السلطة تطاردهم وتصدر قرارا بتجريم تعليق الصور والتعاطف مع قاتل أول مسؤول سياسي مصري في العصر الحديث. ومن هذه الثنائية تنفجر الأسئلة العابرة للزمان والمكان. حيث لا توجد قواعد محددة تخبرنا:

هل سليمان الحلبي مجرم أم بطل؟

هل أفراد كتيبة آزوف الأوكرانية إرهابيون نازيون كما يقول بوتين أم أبطال كما يقول زيلينسكي؟

هل المقاوم الفلسطيني بطل كما نراه أم إرهابي كما تراه إسرائيل والغرب الداعم لمشروع الشوكة الصهيونية؟

القصة طويلة وقديمة والمقارنات كثيرة: جيش أحمر وخمير حمر وألوية حمراء وقمصان سوداء وزرقاء وحركات مسلحة اختلفت فيها الآراء. والخلاف ليس بين صليبيين ومسلمين فقط كما غلب الاتجاه على مفاهيم الإرهاب بعد 11 سبتمبر. لكنه خلاف بين المركز والهامش. خلاف بين مركز الهيمنة الذي يصنع المعايير ويفرضها. وبين جماعات تسعى للتمرد على هذه الهيمنة بأسلوب القوة المسلحة. وبالتالي فإن جوهر الخلاف لا تحكمه قواعد ثابتة ولا أخلاقيات متفق عليها. لأن الطرف الذي يدين تنظيم داعش لا يدينه كمبدأ وشكل خارج عن النظام الدولي الحديث لكنه يدينه فيما يتعلق باتجاه بندقيته. لذلك لا مانع عنده في استخدامه سرا إذا تم الاتفاق على الاتجاه. كذلك يسمح ذلك الطرف بتأسيس جماعات عنف مثيلة لداعش. لكنه يسميها “شركات أمن” أو “كتائب النضال من أجل الحرية”.

وفي كل الأحوال يبقى الموقف من هذه التشكيلات المسلحة مقيدا بطبيعة توظيفها وعلاقتها بأجهزة الاستخبارات التي تحركها. مع أن الأذرع المسلحة للفصائل الفلسطينية مثل القسام وسرايا القدس وكذلك جماعات وأحزاب مثل “أنصار الله” و”حزب الله” ومنظمة فارك (قبل دمجها في نظام الدولة) والمنظمات التي أشرنا إليها سلفا كحركات معارضة مسلحة كلها تتبنى قضية سياسية وفكرية ما. يمكن النقاش فيها والخلاف حولها. بعكس شركات قتال وتشكيلات عسكرية دولية خارج الميثاق الأممي مثل “بلاك ووتر” و”فاجنر” و”آزوف” وما خفي. لكن الغرب بإدارته السياسية ومستودعاته الفكرية وإعلامه يصاب بعماء التحيز عندما ينظر إلى هذه التنظيمات.

أعتقد أن معظمنا يعرف جيفارا. إرهابي يساري طاردته الاستخبارات المركزية بمساعدة عملاء محليين في أمريكا اللاتينية حتى تمكنت من تصفيته وعرض جثته كعبرة لمن يحمل سلاح الثورة في وجه الهيمنة الأمريكية. لكن صورة القتيل انتقمت من القتلة وتحولت إلى أيقونة لم يمانع الغرب في تسويقها وطبعها على السترات والشارات والتربح من بيعها. وبعد 11 سبتمبر انتقل جيفارا من اليسار إلى اليمين وظهر في صورة “بن لادن”. وأيضا تمت شيطنته وتصفيته لكنه لم يتحول في الغرب إلى أيقونة كسلفه الإرهابي اليساري!

لماذا؟

هذه واحدة من مفارقات الغرب ومن تجليات الهيمنة. ففي حالة جيفارا كانت هناك ثنائية ساعد الطرف الاشتراكي فيها على تنظيف صورة جيفارا وتقديمه كبطل. ولم يمانع قطاع التربح في المعسكر الرأسمالي من استثمار بيع الأيقونة ما دامت انتهت فاعليتها في الواقع وصارت سلعة. بينما ظهر “بن لادن” في زمن القطب الواحد. وبالتالي راح ضحية التنميط الذي فرضه أسياد الصوت الواحد. وذلك على الرغم من أن بن لادن كان جنديا بارزا إلى جانب الأمريكان في “الحرب الباردة” تحت غطاء محاربة الشيوعية. وهي “الحرب العالمية الثالثة” بتوصيف المفكر الفرنسي جان بودريارد. فالصراع لم يكن في أفغانستان فقط لكنه شمل العالم كله من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا إلى آسيا. فلم تكن أفغانستان هي الجبهة الوحيدة فقد سبقتها كوريا وفيتنام وكمبوديا وغيرها.

 

(القرصان والإمبراطور.. لص يحاكم لصا)

الحديث عن الإرهاب يتشعب ويتفرع وينساب بقوة الاندفاع مثل نهر يسقط من جبل. وأنا أرغب في تحديد للمفاهيم. وليس في عرض قضية أو سرد وقائع أو إثبات فصام وازدواجية. فهذا كله مطروح ومتفق عليه بين كثير من الباحثين في العالم كله. ولعل قصة “القرصان والإسكندر” التي أوردها نعوم تشومسكي في مستهل كتابه “قراصنة وأباطرة” تلخص ازدواج النظرة للإرهاب. وتكشف أن لا فرق بين القرصان والإمبراطور في الفعل. الفرق في أن الأكبر يستطيع محاكمة الأصغر. ويستطيع أن يغير صفته من “إرهابي” إلى “قائد” أو “ملك” أو “رئيس”.

وهذا “التعريف بالقوة” يتماشى ظاهريا مع المقولة الأمريكية “القوة تصنع الحق”. فالقوي يستطيع إقناع العالم بأن الكرة لها أضلاع. ومن الطريف الذي يساير هذه المقولة أن الكرة في أشهر لعبة شعبية في أمريكا ليست كروية بل بيضاوية!

حتى لا أطيل أكثر. سأحاول في مقالات عدة قادمة أن أناقش معكم أمثلة إرهابية تساعدنا في تفكيك المفهوم الغائم للإرهاب. وإعادة ترتيبه وتركيبه دون أيديولوجيا سياسية مسبقة أو انحيازات دينية أو عنصرية. لذلك سنميز بين الإرهاب كعنف سياسي مؤدلج وموجه. وبين العنف الاجتماعي أو جرائم الترويع مثل حادث الإسماعيلية الذي قطع فيه القاتل رأس القتيل وتجول بها في الشارع. أو حادث سلفادور راموس الذي قتل قرابة العشرين تلميذا في مدرسة أمريكية. لكن هناك حالات من العنف الاجتماعي يصعب فصلها عن السياسة ويصعب وصفها بالإرهاب من غير أن ندرس أسبابها ونكتشف الدوافع الأكثر إرهابا التي أدت إليها. وهو ما يذكرني بسؤال: “لماذا تقتل يا زيد؟” الذي اختاره الكاتب والسياسي الألماني “يورجين تودينهوفر” عنوانا لكتابه الكاشف عن تحول إنسان مسالم إلى (إرهابي) في صفوف المقاومة العراقية ضد الأمريكان.

وللحديث بقية

 

 

[email protected]