كتبت هنا على موقع “مصر 360” في الأول من مايو/أيار الماضي عن (مناخ الحوار وضماناته)، ذكرت فيه أن الغائب الحقيقي في مصر هو مناخ الحوار، وإن لم يتوفر المناخ الملائم لإجراء حوار جدي ومنتج ومفيد. أخشى أن تنتهي دعوة الحوار إلى ما يقال عنه في مثل هذه الأحوال بأن الجبل تمخض فولد فأرًا.

وعن الضمانات تحدثت عن ضرورة وأهمية بناء الثقة بين المعارضة والحكومة، وأن واحدة من الأسس التي تكفل بناء الثقة يتمثل في إتاحة الفرصة كاملة للتعبير عن الهواجس لدى كل طرف، وتبادل الآراء بصراحة من دون حجر أو تضييق.

ولست أشك في أن للسلطة هواجسها التي يؤمل أن تضعها على مائدة النقاش بصراحة وبكل وضوح، والمنتظر منها أن تستمع بكل تفهم لهواجس المعارضة، وأن تطلع بكل انفتاح على شكوك قوى المجتمع المدني.

**

بعد مرور أكثر من شهر ونصف الشهر على مقالي المذكور أجدني أمام قضية أخرى لا تقل أهمية عن تهيئة مناخ الحوار وتوفير ضمانات نجاحه، وتتبدى أهميتها بمرور الوقت، ومع المستجدات التي طرأت على الدعوة إلى الحوار، وهي قضية ناشئة عن استحياء البعض وإنكار آخرين لوجود أزمة مركبة تواجهها مصر، وأن تلك الأزمة هي التي دفعتنا ودفعت بنا إلى محاولة التمسك بآخر فرص التغلب عليها.

أي حوار جاد ومثمر يتطلب البدء من نقطة الاعتراف بوجود أزمة كبيرة ومركبة في مصر، والشروع على هذا الأساس في الحوار حول تعريف وتشخيص تلك الأزمة، ومن ثمَّ تنطلق فاعليات الحوار الذي يجب أن يكون هدفه الوحيد هو الوصول إلى محطة جديدة في العمل الوطني، تتوافق حولها قوى المجتمع المدني، ويضع الحوار أجندتها وطرائق الانطلاق منها إلى مسار آمن، يحفظ للوطن استقراره، ويحقق آمال مواطنيه في الحرية والعدالة والكرامة والأمن.

**

بند أول في جدول أعمال الحوار يجب أن يكون تحت عنوان التوصيف.

ذلك أننا سنجد أنفسنا مع بدء الحوار أمام اختلاف كبير حول تشخيص الأزمة، قبل أن نكون أمام اختلافات كثيرة وعميقة حول طرق التعامل مع الأزمة.

لا ريب في أن توحيد النظرة إلى طبيعة الأزمات التي تواجه مصر داخليًا وخارجيًا يسهل أو على الأقل يقرب وجهات النظر حول مناهج وطرق تجاوزها.

**

يجب أن تمتلك الحكومة شجاعة الاعتراف بثقل الأزمة، وفي المقابل يجب أن تمتلك المعارضة حكمة التعامل مع مفردات الأزمة.

البدء من الاعتراف بأننا نواجه معَا أزمة خانقة متعددة الأبعاد، متشابكة الخطوط، متداخلة العوامل، وأن تلك المواجهة أشرس من أن تقدر عليها الحكومة وحدها، وأكبر من أن تترك للمعارضة حتى لو اجتمعت لها.

الأمر الذي يتطلب -بالضرورة- أن نأخذ قضية الحوار الوطني بكل جدية من المعارضة، وبكل انفتاح من الحكومة، حوار وطني يشخص الأزمة ويعالج أسبابها، لا يقف عند شطآنها بل يغوص في العمق، ويتعمق في البحث عن طرق الخروج منها.

**

نحن بالفعل نواجه حزمة أزمات متداخلة وتأثيراتها السلبية (حتى لا أقول الكارثية) على الاستقرار في مصر، وهو الإنجاز الأهم للسلطة الحالية الذي حققته ودفعت الملايين من المواطنين إلى تأييد النظام ومؤازرته، هذا الاستقرار مهددٌ بتداعي كل هذه الأزمات، ومعرَّضٌ للانقضاض تحت وقع هذه الأزمات.

لهذا فإن حاجتنا ماسة وملحة (في ظل هذه الأزمة المركبة) إلى حوار متعدد الموضوعات والاهتمامات للعبور منها جميعًا بأكبر المكاسب وأقل الخسائر، وهو أمر يجب أن تُجمع له كل الكفاءات والعقول والخبرات والتخصصات، وأن تشارك جميعها على قدم وساق بعيدًا عن كونها ضمن صفوف الموالين أم من بين صفوف المعارضين.

**

هي أزمة مزدوجة، أزمة نظام كما هي أزمة معارضة.

أولًا هي أزمة نظام مضى منذ سنوات بكل عنفوانه وعافيته في مسار لم يعد واثقًا في قدرته على حفظ الاستقرار. الأزمات التي خلفها وراءه هذا المسار مضافًا إليها أزمات تحيط به من الخارج كلها دفعت بالتأكيد إلى التفكير في عدم خسارة الإنجاز الأهم الذي حققه النظام على صعيد حفظ الاستقرار في البلاد.

الاستقرار هو الهاجس الأهم لدى النظام، والمتابع لمداخلاته التي يقوم بها الرئيس السيسي (صاحب الدعوة إلى الحوار) في كافة المؤتمرات وكل الافتتاحات للمشاريع الجديدة، يجده يركز في تلك المداخلات على قضيتين مركزيتين، ومحورتين في حديث الرئيس لا يكاد يخلو منها الكلام الرئاسي طوال السنوات السبع الماضية، الأولى قضية الاستقرار والأمن، والثانية قضية ضعف الموارد وقلة المتاح منها بالنظر إلى المطلوب، وفي آخر مداخلة له قالها بوضوح: (المطلوب مش موجود).

**

ثانيًا هي أزمة معارضة تكلست أطرافها، وهي في حاجة ماسة إلى إحياء وفتح المجال العام الذي كان قد أغلق بالضبة والمفتاح منذ السنوات الست الماضية في أعقاب المظاهرات والاحتجاجات على التنازل عن تيران وصنافير.

كانت تويته يمكن أن تدخل كاتبها السجن، كتابة بوست، وفي بعض الحالات التعليق على بوست كان كفيلًا بأن يزج بصاحبه خلف جدران الزنازين، ومجرد المشاركة في حوار علني أمام الشاشات يمكن أن يدفع صاحبة سنوات غالية من عمره ثمنًا له.

**

وبالطبع نحن أمام أزمة حوار انسدت كل الطرق أمامه بضع سنوات من عمر الوطن، لدينا هياكل نقابية مفرغة من أي قدرة على التفاعل مع قضايا الوطن تسمى نقابات مهنية، وأخرى تسمى نقابات عمالية، وكلها كيانات منزوعة القدرة على أن تمارس أدوارها التي تأسست ونشأت من أجل القيام بها والسهر عليها.

جففنا منابع السياسة حتى صارت السياسة كلمة معيبة، وحتى فقدنا إمكانية تجديد الحياة السياسية ومدها بماء المحاياة المتمثلة في خلق كوادر سياسية جديدة تسمح بتشكيل نخبة حديثة أو بالأحرى طبعة حديثة من السياسة في مصر التي أحوج ما تكون إلى تلك النخبة الجديدة في الحكم وفي المعارضة.

عادينا طلائع الجيل الذي ولد من مخاض ثورتين شعبيتين كبيرتين، وزرعنا اليأس فيهم، واعتبرناهم هم المشكلة بينما كان يمكن أن يكونوا هم الحل للكثير من مشاكلنا.

**

الخطورة التي تتبدى من لحظة إطلاق الدعوة إلى الحوار وتزداد وضوحًا كل يوم أننا إزاء حوار الفرص المحدودة، ليس مضمونًا نجاحه، وليس قابلًا للتكرار إذا ما فشل، في حالة النجاح يعطي البلد فرصة لتعديل المسار وتصحيح السياسة، وتماسك الأوضاع الداخلية وتعظيم القدرة على مواجهة تقلبات الإقليم وتداعيات الترتيبات التي تحاك لمنطقتنا في إطار تفاعلات الحرب الناشبة بين القوى العظمى.

الفشل هو النتيجة الأسوأ التي لا تُحتمل توابعها، لأنه بكل بساطة يضعنا في فوهة انفجار الأوضاع وضرب الاستقرار ويفتح أبواب المجهول.

المكابرة في التعاطي مع الأزمات وسيادة الحالة التبريرية وعدم الاعتراف بالمسئولية كل ذلك يضع عقبات كبيرة أمام أن يكون الحوار حلًا، ويحوله إلى مشكلة تضاف إلى تراكم المشاكل الذي يتزايد باطراد الوقت.

**

أزمة الحوار الحقيقية أنه يواجه معضلة انسداد في الحالة السياسية في مصر، ولذلك مفترض أن ينصب الحوار السياسي حول الكيفية التي يتوفر بها إحياء السياسة في مصر، ويجب أن يركز على إيجاد المناخ والقوانين التي تطلق حرية العمل السياسي وتضمن تناميه وتتيح له فرض المشاركة الفعالية في القرار الوطني.

الحال أننا أمام حزب الفرد، وأحزاب متفرقة محكوم عليها بالعزلة والانعزال، خطوط التواصل بين الأحزاب وجماهيرها كلها مقطوعة بفعل القوانين والإجراءات المتبعة بشأن المعارضة، وكلها سواء القوانين أم الإجراءات تحبس الأحزاب في مقارها وتمنع تفاعلها بأي صورة مع جمهورها.

**

لا شك أن أهم حسنات الدعوة الرئاسية للحوار تمثلت في الإفراج عن عددٍ (ما زال محدودًا وأقل من المأمول) من سجناء الرأي، سواء المحبوسين احتياطيًا أو المحكومين قضائيًا، وهي الحسنة التي ما تزال في حاجة إلى تكريسها كسياسة ثابتة، وتأكيدها بدون حاجة إلى تدخل من هنا أو رجاء من هناك، والعمل على توسيعها لتشمل جميع المنضوين تحت مسمى سجناء الرأي، بغض النظر عن التهمة الموجهة ولا التكييف العقابي المستخدم.

ثاني أهم حسنات الدعوة إلى الحوار أنه جاء خطوة مهمة على طريق فتح المجال العام، وعودة السياسة إلى الحياة، واستعادة القدرة على الحديث فيها وحولها.

حسنة أخرى من حسنات تلك الدعوة أنها أقرَّت أن الصمت المفروض قد طال مداه، وأفل زمانه، ولم يعد ممكنًا الاستمرار فيه أكثر من ذلك، فضلًا عن أنه لم يعد هو صمام الأمان وضمان الاستقرار.

**

نحن في حاجة ماسة إلى معززات الثقة بين الحكم والمعارضة، بل بين الحكم والشعب، وتهيئة المناخ السياسي لحوار مفتوح في وسط إعلامي مهني تتوفر له الحرية ويأمن فيه الجميع مغبة التصريح بآرائهم. لا يتوقف الأمر عند إطلاق سراح سجناء الرأي، بل يجب يكون المواطن آمنًا من أن السجن بانتظاره في أي وقت بسبب رأيه.

الحوار لن يحقق النتائج المرجوة منه إلا إذا توفرت له الضمانات والقوة الكافية لتنفيذ ما يسفر عنه مفاعيل الحوار.

ليس مطلوب الحوار بين أي سلطة وأي معارضة هو أن تتبنى السلطة برنامج المعارضة لتطبقه، المفروض أن نمضي قدمًا إلى ترتيبات مستقرة ومتفق عليها، ومضمون تطبيقها تكرس آلية محددة تحكم السياسة في مصر.

**

لا تملك مصر ترف أن تضيع الفرصة التي تتيحها دعوة الحوار، لأن الأحوال لم تعد تحتمل بقاء الأوضاع على ما هي عليه.

مهمة الحوار الرئيسية هي توسيع مساحة الفرص المتاحة أمام خروج مصر من أزماتها وتعظيم قدرتها على مواجهة رشيدة لتفاقم الأزمات التي تأتيها من الخارج أو تفرض عليها بحكم تطورات الوضعين الإقليمي والدولي.

هو على الحقيقة حوار الفرص المحدودة، ليس له إلا أن ينجح في تحقيق تعديل المسار، لأن فشله يعني التفريط في فرصة سنحت، فرضتها الظروف، أم جاءت نتيجة سياسة جديدة، أيًا كان الأمر، فليس هناك مجال لفشل جديد، لن تكون عاقبته مخيبة للآمال فقط، لكنها ربما لا تسنح مجددًا بحكم ضغط الأزمات وتفاقمها وتدافعها الذي يهدد مصير الجمهورية ويضعه في خطر حقيقي.

**

ملاحظة واجبة التسجيل هنا أنه يجب أن يكون مستقرًا في الوعي العام لدى أهل الحكم وأهل المعارضة أننا لسنا بصدد حوار لإنقاذ النظام القائم، لأننا على الحقيقة أمام مهمة إنقاذ الجمهورية.

الجمهورية التي قامت من أجلها ثورتان في ثلاث سنوات، واحدة من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والأخرى من أجل الدولة المدنية الدستورية.

هذه هي الجمهورية الجديدة التي طال انتظارها وزادت أشواق الناس إليها، جمهورية سيادة القانون ومحاربة الفساد، جمهورية المنتجين والمصنعين والفلاحين وعموم المواطنين بدون تمييز، ولا قهر، وبدون أي ادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

الحوار غير السجال، لأن أطراف المساجلات تنطلق من امتلاك كل طرف الحقيقة المطلقة، وهذه الآفة تقتل إمكانيات إجراء حوار حقيقي، وحين يسود هذا الاتجاه يلغي عمليا الحوار، لأنه -بحسب تعريفه- يعني من بين ما يعنيه إمكانية قبول نقد الآخر، والاستعداد للوصول إلى حل وسط.

**

أزمة هذا الحوار الكبيرة تكمن في أن يعتبره البعض بديلًا عن احياء السياسة وحصره في لقاءات تقطع الوقت، أو إذا نظر إليه باعتباره تسكينًا لأوضاع متفجرة، أو تبريدًا لحالةٍ قابلة للانفجار في أي وقت.

لضمان جدية المعارضة من جانب، وشفافية الحكومة على الجانب الآخر يجب أن تتم وقائع الحوار تحت الضوء، ما يعني أن يكون تحت سمع وبصر ومتابعة ومشاركة الرأي العام المصري فهو أولًا واخيرًا صاحب السيادة التي لا تعلوها سيادة، وهو الأصيل، والباقي كلهم إما وكلاء عنه أو معبرين عن طموحاته وتطلعاته.

**