هناك جدل عميق حول مستقبل الثقافة، ففي كل دولة يبدأ الحوار من دور المثقفين إلى مناقشة هل هم فئة مهمة أم لا، إلى تناول دور الثقافة في بناء خصوصية المجتمع والدولة. لكن دعونا نحدد من هو المثقف، المثقف: هو من يعمل في أي مجال من مجالات إنتاج المعرفة أو نشرها، لقد كانت المشكلة إلى سنوات ليست ببعيدة هي الحصول على المعلومات، فأصبح من يختزن في ذاكرته كمية كبيرة من المعلومات ويستطيع أن يربطها ليقدم رؤية تقوم على المعلومات المتراصّة في صورة متتابعة، هو المثقف. لكن بعد انفجار المعلومات في عصر الإنترنت، بات إنتاج المعرفة والعاملين عليها هم الأهم، فالمقولة الشهيرة “المعرفة قوة” تدل على إنتاج المعرفة وليس فقط حيازة المعلومات هي الوسيلة الوحيدة لضمان البقاء والاستمرار.

من هنا، نستطيع أن نفهم ظهور مصطلح “Digital Gap” الفجوة الرقمية، هذه الفجوة التي تتزايد يومًا بعد يوم في وقت يثير فيه منتجو المعرفة الرقمية مشكلات مستمرة، مثل إخضاع الشبكات الرقمية لرقابة صارمة، وإثارة عقبات مثل حقوق الملكية الفكرية، وفرض أسعار مبالغ فيها على البرمجيات مما يحرم من لا يملك المال من امتلاك المعرفة العصرية.

هذا مؤشر إلى أن العاملين في مجالات إنتاج المعرفة يجب أن يحوزوا مستوى عاليًا من المعرفة، وتخزين المعلومات في بنوك لاستدعائها حسب الطلب. إن تحول الحكومات والمؤسسات إلى حكومات إلكترونية، يستدعي إنشاء مراكز هدفها تفسير التغيرات التي تحدث في المجتمعات نتيجة لهذه التحولات، وهنا تبرز طبقة المثقفين التي تحاول أن تفسر أو تستنتج التحولات الحادثة في المجتمعات بدءًا من إدماج كل الأجهزة والأدوات الخاصة بالاتصال في جهاز واحد من “الهواتف الذكية” مثل (التليفزيون-  الراديو –الصحيفة- الكتاب- خدمات الإنترنت) إلى توحد الأفراد مع هذا الجهاز، وقيام مجتمعات افتراضية بعيدة عن الواقع. إن تفسير تحولات التكنولوجيا وتحولات المجتمع هي فلسفة مذهب جديد ينقذ البشرية من الغرق في العالم الرقمي بل واعتباره الحقيقة الوحيدة في الحياة.

لذا لن نتحدث هنا عن دور مؤسسات أو وزارة الثقافة في صناعة مستقبل الثقافة المصرية، إذ إن هذه المؤسسات مازالت أبعد ما تكون عن هذه الصناعة، فالمثقفون دأبوا على أن يلتحقوا بمؤسسات ثقافية ليعملوا من خلالها فتعطيهم الشهرة، أو يرأسوا مجلات ثقافية أو دوريات علمية.

لذا لدينا هنا عدة محددات هي:

– قوة المعرفة

– صناعة المعرفة

– صناع المعرفة

فقوة المعرفة هي التي تحدد اليوم قوة أية دولة أو مجتمع، وصناعة المعرفة هي أداة الدولة لذلك الهدف، وهو حيازة المعرفة. وصناع المعرفة لم يعودوا هؤلاء المثقفين التقليديين بل إن صناع المعرفة اليوم ينقسمون إلى ما يلي:

  • الأفراد المبدعين.
  • المؤسسات الحكومية كوزارات الثقافة والهيئات الثقافية التي لعبت خلال الخمسين عامًا الماضية الدور الرئيسي في صناعة المعرفة وتحول صناعها إلى موظفين لديها. 
  • المجتمع المدني: سواء في شكل مؤسسات أو جمعيات أو أفراد، وهؤلاء سيتزايد دورهم بوتيرة تجعلهم فاعل موازي للمؤسسات الرسمية.

إن كل ما سبق يقودنا إلى أن السياسات الثقافية التي جرى اتباعها في الماضي لم تعد تصلح للسنوات القادمة، ففكرة المصادر المفتوحة للمعرفة باتت حيوية، ولذا فإن سياسات الحجب التي ما زالت متبعة هي سياسات ستؤدي إلى تراجع دور مصر الثقافي على الصعيد الوطني والعربي والدولي.

هذا ما أدركته إسرائيل وبدأت في توظيفه بصورة ممتازة فصارت المكتبة الوطنية الإسرائيلية تقدم خدمات متزايدة باللغة العربية، عبر فهرسة ممتازة للمصادر والكتب العربية وإتاحة مئات الصور النادرة ومع الوقت تزيد من خدماتها، ظللنا لسنوات نرى أن المقاطعة الثقافية لكل ما هو إسرائيلي واجب وطني، لكن ماذا عن هذا الاختراق عن طريق تقديم خدمات غير متوفرة بجودة وقدرة بحثية إلا عبر موقع المكتبة الوطنية الإسرائيلية، الأمر هنا يتجاوز هذا بكثير، فإسرائيل لا تمثل الكثير في مجال الاستلاب الثقافي للشباب والأجيال الجديدة والأطفال.

لنتحدث بصورة أعمق حول ألعاب الأطفال والكارتون المسلي لهم، لذا سعت السعودية إلى تعريب “المانجا” وهي أداة يابانية لصياغة قصص كرتون عالي الجودة للأطفال، وهذا التعريب تضمن صياغة ما يناسب المجتمع السعودي، فما هو إذا نصيب مصر من ألعاب الأطفال وكارتون الأطفال، لا توجد إجابة محددة لأن هذه صناعة تحتاج إلى رغبة من مؤسسات ترى أن صياغة الهوية والانتماء الوطني لها مستويات متعددة، فمادة التربية الوطنية في المدارس المصرية مادة عقيمة لا تدرس بل يجري تجاهلها من إدارات المدارس فضلا عن كره الأطفال والأجيال الناشئة  لمادة التاريخ، لذا فالتكوين الثقافي له طرق عديدة ومختلفة تؤدي إلى بناء الشخصية وتجعلها متماسكة، https://www.facebook.com/CultureAndBooks، لذا لجأت دول لصياغة ما يرسخ الهوية والشخصية الوطنية لطرق وأساليب عديدة.

أما في مصر فإن الاستلاب الثقافي بلغ ذروته مع تعدد نظم التعليم وارتباط معظمها بدول غير مصر، فعلاقة من يدرسون في هذه المدارس بالوطن والتاريخ الوطني محدودة، إذا أضفنا لهذا ضعف المحتوي الرقمي الوطني على شبكة الإنترنت، فهذا معناه أنه إذا أراد الطفل البحث عن مصر، سيجد أفضل الإجابات باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، فإذا تجول في الشوارع سيجد إعلانات ضخمة باللغة الإنجليزية، وتجمعات سكنية فاخرة تسمي بأسماء إنجليزية، فماذا سيكون الانطباع لديه؟

سيقوم عبر الإنترنت بالبحث عن إجابة، سيقارن بين مصر وبريطانيا، مصر والولايات المتحدة الأمريكية، فهل ستكون النتيجة لمصلحة مصر!، بل سيجد مكتبة المجلس الثقافي البريطاني الرقمية في مصر لها شعبية، فعبر الإنترنت يمكن الاطلاع على آلاف الصحف والمجلات والقصص المصورة، والكتب، والأعمال المسرحية، والكتب الصوتية، فما هو المقابل المصري لها؟ وهي مكتبة تمثل مركزا ثقافيا خارج وطنها لها تأثير قوي وفق سياسة ثقافية وطنية بريطانية تبحث بصورة مستمرة حول الثغرات في الهوية البريطانية لسدها وفق مناقشات صريحة على الصعيد الوطني البريطاني تقر بالتراجع.

على جانب آخر، فإن تراجع اللغة الوطنية في مصر (اللغة العربية) له أبعاد متعددة خطورتها في فقدان اللغة معانيها ودلالاتها ونشأت لغة بمستويات أخرى، تتداخل فيها الكلمات الأجنبية مع العربية مع العامية الموروثة، حتى صار المذيعون والفنانون على الشاشات يتحدثون هذه اللغة، في الوقت الذي ترى فيه شرائح مجتمعية أن إدخال كلمات أجنبية هو أحد تعابير الارتقاء الاجتماعي، وهذا ما يحتاج إلى معالجات تتجاوز البعد المكون للهوية والشخصية الوطنية إلى البحث عن الأمراض الاجتماعية التي تسربت ورسخت في المجتمع المصري، إلى درجة أصبحت العربية غريبة في دار غدت هي معقل هذه اللغة، فأبناؤنا اليوم يكتبون رسائلهم على الهاتف المحمول بالحروف اللاتينية، بكلمات نطقها ممزوج بعدة لغات، فهل نتحدث الآن عن شخصية وطنية متماسكة تري الوطن بعين الافتخار.

الفخر بالوطن هو أقوى تعبير عن ارتباط المواطن بالوطن، لكن التعبير عن عكس ذلك يمثل إشكالية تحتاج إلى معالجات جادة، لذا فإن النظر إلى بناء الشخصية المصرية ثقافيا ومعرفيا ليس ترفا، بل هو أساس لضمان الأمن الثقافي، لذا فقناعات الإنسان بوطنه باتت محل تساؤلات.. ليس في مصر وحدها، بل في العديد من الدول، لذا فمن المهم التساؤل حول ما هو الوطن؟ ولماذا نؤمن به؟ وكيف نرسخ الانتماء له؟ وكيف نتفاعل معه؟

هذه التساؤلات ليست قابلة للتأجيل، بل هي التحدي الحالي والمستقبلي، والإجابة عليها عبر برامج تعزز الوطن وقيمته لدى الأجيال الحالية والقادمة، هي الحل الأمثل لتصاعد العنف بكافة أشكاله داخل الشارع المصري، بدءا من الانتحار إلى التعامل الخشن عند احتكاك المواطنين ببعضهم في أتفه المشكلات، وهي ظواهر لم تكن موجودة في المجتمع المصري حتى سنوات قريبة.

من معايير الافتخار بالانتماء للوطن القدوة في كافة المجالات، والإشكالية هنا أن القدوة صارت تتمثل في النجاح خارج حدود الوطن، لذا حين ينجح مصري في الإنجاز وهو داخل الوطن نرى التجاهل يحاصره، بل إن غياب معايير الكفاءة كمعايير حاكمة أدت لصعود أنصاف الموهوبين ومفتقدي الموهبة، ولعل أبرز مثل يمكن ضربه في هذا السياق هو صعود لاعب الكرة الموهوب محمد صلاح خارج الوطن، وهو الذي أتى من قرية مصرية ليكافح ويجتهد إلى أن يصبح قدوة.. لكن قدوة في الصعود خارج الوطن، لأن التراجع الذي طال أصعدة متعددة بما فيها كرة القدم أدى لوأد الكفاءات مبكرا، فمحمود الخطيب أسطورة كرة القدم المصرية أدت موهبته والمساحة التي كانت متاحة أمامه إلى بروزه.. في السنوات الأخيرة غابت المواهب أمام التحيز لأسباب لا علاقة لها بالموهبة.

على صعيد آخر، نرى التحيزات العاطفية بعيدا عن الكفاءة والجدارة تتحكم في مجتمعنا وحياتنا الثقافية، وأكبر مثل على ذلك هو فوز المحامي القدير رجائي عطية بجائزة النيل في العلوم الاجتماعية هذا العام.. هو مثقف نعم، له كتب نعم.. لكن السؤال ما هو إنتاجه الفكري المتميز الذي يعطيه الحق في جائزة النيل أمام أساتذة ومفكرين مصريين لم يحصلوا حتى على جائزة الدولة التشجيعية، وكذلك الحال مع المستشارة الجليلة تهاني الجبالي شخصية عامة مرموقة تعاطف مع رحيلها الكثيرون، لكن حصولها علي جائزة الدولة للتفوق في العلوم الاجتماعية جاء من باب التعاطف، فليس لها إنتاج علمي وفكري يمكن من خلاله أن نقول إن الجائزة تأخرت عنها، وفي الوقت عينه، هناك شاب مصري قدم دراسات في العلوم الاجتماعية لم يجر حتى التساؤل: لماذا لم يحصل هذا على الجائزة، ولننظر مثلا لوفاة الدكتور أسامة شفيع العالم والمترجم الدرعمي الذي رحل شابا صغيرا، لم نرى أحدا يتعاطف معه ويرشحه لجائزة يحصل عليها أو تكريم ثقافي لجهده في عمر قصير.

إن غياب الجدارة والكفاءة في الطرح الثقافي والفكري تجعلنا نتساءل حول موقع عالم وأديب مثل الدكتور محمد المخزنجي من حياتنا الثقافية بل حتى من جوائز الدولة، إن ما سبق يؤشر إلى وجود خلل عميق في الثقافة المصرية بل ويحيط القوة الناعمة لمصر بتساؤلات حول تراجعها، إننا إن لم  نقدم المثل الذي يحتذى به، ونتفوق ونبدع أفضل من الآخرين، ونعتز بموروثنا الثقافي المتراكم عبر العصور، وندرك أن قوتنا الناعمة جزء من حضورنا المعزز لصادراتنا واقتصادنا وتأثيرنا على الأصعدة الإقليمية والدولية، سنفتقد استثمار قوتنا الناعمة بصورة فاعلة، هذا أحد أبعاد اقتصاديات الثقافة التي ستكون محل مقال آخر.