1961

كان هذا العام هو الأهم والأعظم تأثيرًا على النخبة الإقطاع-بورجوازية في تاريخ مصر الحديث. لكن ما اتُخذ فيه من قراراتٍ حاسمة لم يكن وليد لحظةٍ ما خلال صيف هذا العام الساخن. إذ بدأت مسيرة تدخل الدولة في العملية الإنتاجية منذ عام 1956 كما أشرت سابقًا بعدما خذلت نخبة الإقطاع-بورجوازية آمال الجميع بإحجامها عن الاستثمار في مشروعات تنموية عرضتها الدولة المصرية عليها لتبدأ القطيعة التدريجية كي تنتهي المسألة برمتها في صيف 1961.

كانت رؤوس أموال الشركات الصناعية التي تأسست في الفترة منذ 1954 إلى 1956 قد بلغت نحو 38 مليون جنيه. أسهمت الحكومة والبنك الصناعي فيها بما يزيد على النصف. بينما حجبت البنوك التجارية أموالها عن الاستثمار في التصنيع فرفعت احتياطيها القانوني من 17.5% إلى 22.5%. ورفعت شركات التأمين نسبة النقدية الواجب الاحتفاظ بها دومًا لتبلغ 62.5% من أرصدتها. كما بلغت رؤوس الأموال المستثمرة في المعاملات المتحفظة التقليدية غير التصنيعية كالإسكان والمقاولات في 1956 نحو 51 مليون جنيه. مُقارنةً بـ40 مليون جنيه في 1954. أي بزيادة قُدرت بنحو 11 مليون جنيه خلال سنتين فقط*.

وهذا يدل بشكل قاطع على حقيقتين: أولاهما أن أموالا طائلة كانت متوافرة ومتراكمة في ذلك الوقت. وثانيهما أن أصحاب تلك الأموال قد اختاروا بمحض إرادتهم الحرة أن يستثمروها في غير طريق التصنيع الذي تحدد في إطار التطور الإنساني بعد الحرب الكونية الثانية. باعتباره بوابة الخروج الوحيدة من نمط الاقتصاد الراكد الرث إلى نمط الاقتصاد الإنتاجي التنموي بأسلوبٍ لا يُخِلّ بأهداف الرأسمالية المتعلقة بتحقيق الأرباح. حيث كان من شأن مشروعات التصنيع تلك -وقد دُرِسَت في إطارٍ علميٍ قام به مجلس الإنتاج القومي كما أشرت في مقالي السابق- أن تُدِرَّ مبالغ طائلة من الأرباح. خصوصًا بعد عمليات التمصير التي تمت في عام 1957 والتي أخلت الدولة بموجبها الساحة أمام أصحاب رؤوس الأموال المصرية من نخبة الإقطاع-بورجوازية. إلا أنهم آثروا الاستمرار في النمط العتيق الذي يتوافر في أرباحه ثلاثة ملامح أساسية. وهي أن تكون عالية وسريعة وقابلة للتحويل للخارج.

وبهذا لم يحدث استخدام حقيقي لرأس المال المتراكم في سبيل التقدم. بافتراض أن الأمر كان اقتصاديًا محضًا ولم تكتنفه دوافع ترتبط بآمال وأحلام تلك النخبة للعودة مرة أخرى للسيطرة على العمل السياسي. الذي ثبت إخفاقها الشديد في أدائه.

يقول الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى في دراسته الهامة المعنونة بـ”القطاع العام في مصر في ظل ثورة 23 يوليو وتحت قيادة جمال عبد الناصر”**: “ولكن منذ بداية عام 1957 أخذت حركة التصنيع يشتد عودها لتصبح أحد الأبعاد الجوهرية فى البنيان الاقتصادي، وتطبيقا لذلك فقد أعدت وزارة الصناعة في سنة 1957 برنامج (السنوات الخمس للتصنيع) وقدرت تكاليفه بنحو 250 مليون جنيه. كما أنشئت من أجل تنفيذ هذا البرنامج (الهيئة العامة لتنفيذ برنامج السنوات الخمس للصناعة). وهي مؤسسة عامة تختص بتنفيذ مشروعات برنامج السنوات الخمس. إما بنفسها أو بواسطة غيرها. لا يعني ما سبق أن الدولة قد نفضت يدها حينئذ من القطاع الخاص -بل العكس هو الصحيح- فإن الخطة الخمسية التي أعدت عام 1959 واعتمدت نهائيا في أغسطس 1960 باعتبارها خطة للسنوات الخمس 1960/1961 حتى 1964/1965 أعطت دورا كبيرا بل ومسيطرا للقطاع الخاص. وفي وثيقة الخطة نقرأ هذه الحقيقة بالتفصيل، فلقد استهدفت الخطة جعل نسبة إسهام القطاع الخاص في توليد إجمالي الدخل القومي في السنة الخامسة والأخيرة للخطة 1964/1965 هي نفسها تقريبا النسبة السائدة في السنة الأولى 1959/1960. فقد بلغت النسبة الأخيرة 81%. أما النسبة الأولى فقد قدرت بـ80%. وقد بدأ تنفيذ الخطة الخمسية وكان القطاع الخاص يسيطر على نحو 90% من الإنتاج الصناعي و95% من الإنتاج الزراعي”.

بدأت بؤرة زلزال 1961 مبكرًا في فبراير من العام السابق له حين أثار انتباه الدولة إحجام البنوك التي كان يشغل عضوية مجالس إداراتها أصحاب رؤوس الأموال من نخبة الإقطاع-بورجوازية عن تمويل أعمال التصنيع. واقتصار توظيفاتها للفوائض المتاحة لديها على تمويل أنشطة النمط العتيق من أعمال التجارة والخدمات والمضاربة بأسواق العقارات والأسهم والقطن. فتم تأميم البنك الأهلي المصري وتحويله إلى مؤسسة عامة مملوكة للدولة‏ من خلال تحويل أسهمه إلى سندات “ديون” على الدولة تسدد في مدة‏ 12‏ عاما بفائدة ‏5%‏. على أن يحدد سعر كل سند بسعر السهم حسب آخر إقفال ببورصة الأوراق المالية بالقاهرة.

وقد استمر البنك الأهلي حينذاك في مزاولة وظائف البنك المركزي. ثم حدث بعد ذلك -كنوع من التنظيم الإداري- أن تم تقسيم أعمال البنك الأهلي على مؤسستين مستقلتين تقوم الأولى بوظائف البنك المركزي وتمارس الثانية الأعمال المصرفية المتعارف عليها‏.‏ تَلى تأميم البنك الأهلي إجراء آخر تمثل في تأميم بنك مصر ثم البنك البلجيكي بالأسلوب نفسه.

انقضى عام 1960 وقد اهتز فيه عرش سيطرة نخبة الإقطاع-بورجوازية تمهيدًا للزلزال الأكبر الذي ضرب مصر في يوليو 1961. والذي مضى في مسارين متوازيين: تعديل قانون الإصلاح الزراعي وإقرار قانون تأميم بعض الشركات.

في المسار الأول تم تعديل قانون الإصلاح الزراعي الصادر في 1952. والذي أشرت إلى تفاصيله بالجزء الثاني من هذه السلسلة بتغيير الحد الأقصى لملكية الفرد ليصير عند حد المائة فدان. يضاف إليها خمسون فدانا لبقية الأسرة “الأبناء” للانتفاع فقط. وتحريم أي مبيعات للأرض من المالك لأبنائه. كما ألغى القانون الاستثناءات السابقة الخاصة بالأراضي قليلة الخصوبة. وقُدرت الأراضي التي آلت إلى “الإصلاح الزراعي” نتيجة هذا القانون بنحو مائتي وخمسة عشر ألف فدان.

في المسار الثاني كان تأميم: الشركة المالية المصرية للتجارة والتأمين “سيفكا”. وشركة الإسكندرية لتجارة الأخشاب. والشركة المصرية للأخشاب والمهمات. وشركة باسيلي باشا للأخشاب. والشركة العربية لتجارة الأخشاب. وشركة الدلتا التجارية. وشركة أبناء أنطونيوس باسيلي والتجارية الصناعية للأخشاب ومواد البناء “فاباس”. وشركة مصر للتجارة الخارجية. وشركة أسمنت بورتلاند بحلوان. وشركة أسمنت بورتلاند طره. وشركة أبو زعبل وكفر الزيات للأسمدة والمواد الكيماوية. والشركة المصرية للمواسير والأعمدة والمصنوعات من الأسمنت المسلح “سيجوارت”. وشركة إسكندرية لأسمنت بورتلاند. وشركة المصنع الأهلي للمواسير والأعمدة من الأسمنت المسلح “سيفر”. والشركة المالية والصناعية المصرية. وشركة مصانع النحاس المصرية. وشركة الدلتا للصلب. وشركة مسابك طناش. والشركة الأهلية للصناعات المعدنية. وشركة القاهرة للمنتجات المعدنية. وشركة ترام الإسكندرية “مسابك محرم بك”. وشركة مصنع صلب النيل “تابع لشركة ترام القاهرة”. وشركة جباسات البلاح. وشركة ملاحات البحر الأبيض. وشركة ملاحات رشيد. وشركة أوتوبيس الصعيد. وشركة أوتوبيس الغربية. وشركة أوتوبيس البحيرة والإسكندرية. وشركة أوتوبيس جنوب القنال. وشركة أوتوبيس المنوفية. وشركة أوتوبيس الفؤادية. وشركة أوتوبيس الشرق. وشركة أوتوبيس المنيا والبحيرة. وشركة أوتوبيس الدقهلية. وشركة المنيا والبحيرة لنقل البضائع. وشركة الشمال للنقل. وشركة مياه الإسكندرية. وشركة الكهرباء المصرية “شبرا الخيمة”. وشركة أراضي الدلتا المصرية والأنفستمنت ليميتد “المعادي”. وشركة الكابلات الكهربائية المصرية. وشركة الكراكات المصرية. وشركة مساهمة البحيرة. وشركة فنادق الوجه القبلي. وشركة فنادق مصر الكبرى. وشركة شيبرد والفنادق المصرية. وشركة وادي كوم أمبو. والشركة المصرية لبورصة مينا البصل التجارية. والشركة المصرية المتحدة للملاحة البحرية. والشركة العامة للملاحة البحرية “بعد الاندماج”. وقد تحولت أسهم الشركات ورؤوس أموال المنشآت المشار إليها إلى سندات اسمية على الدولة لمدة خمس عشرة سنة بفائدة 4% سنويا. كما نص القانون على أن يحدد سعر كل سند بسعر السهم حسب آخر إقفال ببورصة الأوراق المالية بالقاهرة قبل صدور هذا القانون. فإذا لم تكن الأسهم متداولة في البورصة أو كان قد مضى على آخر تعامل عليها أكثر من ستة أشهر فيتولى تحديد سعرها لجان من ثلاثة أعضاء يصدر بتشكيلها وتحديد اختصاصها قرار من وزير الاقتصاد التنفيذي. على أن يرأس كل لجنة مستشار بمحكمة الاستئناف. وتصدر كل لجنة قراراتها في مدة لا تجاوز شهرين من تاريخ صدور قرار تشكيلها. وتكون قرارات اللجنة نهائية وغير قابلة للطعن فيها بأي وجه من أوجه الطعن.

عن التأميم يقول الدكتور حسن عباس زكي -عليه رحمة الله- وقد كان يشغل في ذلك الوقت منصب وزير الاقتصاد ومهندس التأميم كما كان يُطلق عليه آنذاك: “فى صيف 1961 استدعاني الرئيس جمال عبد الناصر لاستراحته في المعمورة. ذهبت له فحدثني عما نعانيه من نقص في السيولة وتأثير ذلك على البدء في بناء السد العالي. ورغبته في معاقبة الأجانب في مصر جزاءً لهم على ما فعلته بنا دولهم. واقترح أن نضع يدنا على ما يمتلكه الأجانب في مصر. وقال لى إنه يفكر في التأميم. وقتها كانت الوحدة مع سوريا لا تزال قائمة فحذرته من أن يفهم قراره بشكل خاطئ من قبل السوريين. فاقترحت عليه سنّ قانون للضريبة المتصاعدة. على سبيل المثال من يمتلك مليون جنيه يدفع ضريبة 60% ومن يمتلك 2 مليون يدفع ضريبة 70% وهكذا. فأعرب عن موافقته وطلب مني وضع تصور كامل للموضوع. وأن أمنحه ذلك التصور في العاشرة من صباح اليوم التالي. سهرت طول الليل أكتب الفكرة وطريقة تنفيذها. وفي الصباح ذهبت له في الموعد فلم أجده وعلمت أنه في فيللا المشير عبد الحكيم عامر. فعرفت أنه غيّر رأيه. ذهبت إليه هناك وكان معهما عزيز صدقي. وبمجرد دخولي فوجئت بالمشير يقول لي: (إيه اللى أنت عاوز تعمله ده؟) فقلت له إنني سهرت للانتهاء من القانون الذي طلبه مني الرئيس عبد الناصر وانتهيت من تفاصيله. فقال لي انسَ ما كتبته لقد سهرنا وفكرنا ولم يعجبنا ما اقترحته. واستقررنا على التأميم الشامل للمصريين والأجانب! فنظرت للرئيس مندهشا ويبدو أنه قرأ على وجهي عدم الاقتناع بالفكرة. فقال لي: (معلهش يا حسن بس لعلمك انت اللي حتنفذ القرار). فهمت من الحديث أنه يمنعني حتى من تقديم استقالتي لو فكرت فيها. نعم لم أكن مقتنعا بالقرار ولكن نفذته ووقعت الكثير من التجاوزات عبر تطبيقه. على سبيل المثال كان يأتيني رجال بسطاء يمتلكون ورشة صغيرة أو مصنعا لتعبئة الزجاجات ويتعامل معهم الموظفون على أنهم من أصحاب الملايين. وعرفت أن وزير التجارة قام بحصر الملاك عبر دفتر دليل التليفونات. ودون تمييز بين وضعهم وما يمتلكونه. فحادثت الرئيس وشرحت له الموقف. فقال لي إنه يقبل بحذف اسم أي مواطن أعتقد أنه لا يناسبه تطبيق تلك القرارات عليه. وبعد كل هذه السنوات وعلى الرغم من أن التأميم وفر للدولة أموالا طائلة فإنني أعتقد أن اقتراح الضريبة كان سيكون أفضل لأنها كانت ستحافظ على أصول رأس المال وإدارته عن طريق أهل الخبرة لا أهل الثقة. وما كانت شركات عملاقة في تاريخ الاقتصاد المصري قد خسرت مكانتها وإنتاجها كما حدث. وما كنا احتجنا إلى بيعها مرة أخرى فيما عرف بالخصخصة التي خسرنا فيها الكثير. فكما جاءت قرارات التأميم بلا تحضير للنتائج جاءت الخصخصة بلا حساب للقيمة بشكل صحيح”.***

تباينت مواقف الباحثين من التمصير فالتأميم خلال الستين عامًا الماضية. ليظل السؤال السرمدى متعدد الجوانب مطروحًا: “هل كان من الممكن أن تدخل مصر عصر التنمية دون إقصاء لنخبة الإقطاع-بورجوازية من المجال العام بسبب ما كانت تتبناه من نموذج لنمط إنتاجي رث؟. وهل كان إقصاء تلك النخبة يستلزم إجراءات التأميم في 1961؟. وهل كان من الممكن إتمام إجراءات التأميم دون ظلم؟”.

لتبقى الإجابة عن هذا السؤال في ذمة التاريخ قابلة لاجتهادات من يعنيه الأمر. الحاصل في سياق هذا المقال بشأن تتبع تطور البورجوازية المصرية هو أن واقِعًا مختلفًا قد تَجَلى بزلزال 1961 على أرض الواقع تم فيه تنحيتها عن المشهد الاقتصادي بتجريدها من عناصر التحكم في السلطة والثروة بقرارات فوقية وأُحادية الطابع. حلت بموجبها الدولة محلها في السيطرة التامة على كل من السياسة والاقتصاد.

 

 

 

 

*انظر الصفحة 212 من كتاب التصنيع والبناء الطبقي في مصر للدكتور شحاتة صيام- طبعة دار المعارف 1991

**انظر https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=606149

*** انظر https://www.almasryalyoum.com/news/details/59586