خلال الأيام الفائتة شهدت الحياة السياسية حراكا كبيرا من القوى الحية في المجتمع، أحدث هذه التحركات كانت محاولات تأسيس “التيار الحر”. وهو تكتل سياسي جديد يضم رموزًا من التيار الليبرالي المصري.
في لقاء بحزب المحافظين منذ عدة أيام، وبدعوة من المهندس أكمل قرطام رئيس الحزب، اجتمع عدد من رموز التيار الليبرالي المصري لمناقشة الإعلان النهائي عن “التيار الحر”، ليعيد التيار الليبرالي إلى واجهة المشهد السياسي من جديد، وليدفع بدماء جديدة في شرايين العمل السياسي التي تيبست في السنوات السبع الأخيرة.
حتى هذه اللحظة، فإن الأسماء المطروحة للمشاركة في هذا التيار معروفة ولديها رصيد سابق ومهم من المشاركة في العمل السياسي وفي التفاعل الجاد مع الحياة العامة، وعلى رأس هذه الأسماء: عمرو موسى وزير الخارجية الأسبق، ومحمود طاهر رئيس النادي الأهلي السابق، وسيد البدوي رئيس حزب الوفد الأسبق، ومحمد أنور السادات رئيس حزب الإصلاح والتنمية، فضلا عن المهندس أكمل قرطام وإيهاب الخولي وغيرهم من أسماء تنتمي بشكل حقيقي إلى الفكر الليبرالي. وجميعهم كانوا وما زالوا قيادات سياسية في أحزاب ذات خلفية ليبرالية.
قبل الإعلان عن تكوين “التيار الليبرالي” برز بشكل جيد الأداء السياسي للحركة المدنية الديمقراطية. وهي الحركة التي تضم عددا من الأحزاب اليسارية والقومية، كأحزاب: الكرامة والتحالف الاشتراكي والمصري الديمقراطي والدستور والعيش والحرية (تحت التأسيس)، فضلًا عن شخصيات عامة مستقلة لها رصيد تاريخي كبير في ممارسة العمل السياسي.
الحركة المدنية الديمقراطية كانت صاحبة الصوت الأقوى خلال المناقشات التي دارت حول دعوة رئيس الجمهورية لحوار سياسي حول أولويات المرحلة القادمة، وضعت الحركة المدنية الديمقراطية محددات وضوابط، وتمسكت بمطلب الإفراج عن سجناء الرأي لتهيئة الأجواء السياسية المناسبة، وتفاوضت على الإجراءات التي تضمن أن يكون الحوار جادا وحقيقيا، مثل تشكيل الأمانة العامة مناصفة بين السلطة والمعارضة، واختيار المنسق العام من شخصية وطنية مستقلة، فيما رفضت أيضا أي إجراءات أحادية تتخذها السلطة دون التشاور مع الأطراف المشاركة في الحوار السياسي، وأكدت على ضرورة إجراء الحوار بين شركاء متكافئين لا بين متبوع وتابعين.
ما بين التحركات الجارية لتشكيل “التيار الحر”، وبين الأداء السياسي الجاد والجيد للحركة المدنية الديمقراطية؛ يبدو أن مشهدا سياسيا جديدا يتشكل في مصر.
صحيح أن الحياة السياسية هشة بسبب حصار قاس تعرضت له طوال السبع سنوات الماضية، وصحيح أن الأحزاب تعاني من أزمات داخلية كبيرة، إلا أن المشهد الذي يبدو في الأفق الآن جديد ومختلف، ويمكن أن يكون بداية جيدة لإحياء وعودة السياسة إلى المجتمع من جديد بعد حصار طويل فرضته السلطة على الحياة العامة، وبعد اختناق كامل للمجال العام، فلا أحزاب ولا نقابات ولا جمعيات ولا أصوات مختلفة عن صدى صوت السلطة ورجالها طوال السنوات الأخيرة.
في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 شهدت الحياة السياسية المصرية “حراكا كبيرا، ودخل مئات الآلاف من المواطنين إلى ساحة العمل السياسي، وتعددت الأحزاب والتحالفات والتكتلات السياسية والشبابية. هذه “السيولة” السياسية صنعت مشهدا سياسيا مختلفا وجديدا بصورة لم تعرفها مصر من قبل. وقد كانت هذه الحالة مبشرة بحياة سياسية مميزة وتعددية وحرة لا تقصي أحدا. بل تشمل الجميع.
منذ عام 2016 تعرضت الحياة العامة لحصار شامل، وغابت الأحزاب عن المشهد بشكل كامل، وقتل الحراك الذي صنعته ثورة يناير في المهد، وفرضت السلطة أجواء استبدادية غير طبيعية، وبرزت على السطح أحزاب التأييد والتهليل، وغاب كل صوت معارض أو مختلف، ولم نعد نسمع عن أحزاب معارضة أو تكتلات سياسية تحت وطأة الحصار المفروض على الحياة العامة، لذلك فإن النشاط الذي ظهر بداخل الأحزاب والقوى السياسية طوال الفترة الماضية هو في حد ذاته أمر جيد، فضلا بالتأكيد عن تنوع هذا الحراك بين قوى ليبرالية ويسارية وقومية وشخصيات عامة مستقلة. فكل هذا النشاط ربما يصب في مجرى إحياء السياسة التي ماتت، والبدء في الإعلان عن مشهد سياسي جديد ومختلف، يستمع فيه المصريون لجميع الأصوات والأفكار والرؤى.
المشهد السياسي الجديد لقوى المعارضة يقوم على جناحين أحدهما قومي ويساري والآخر ليبرالي، إذا فإن الدور الأهم لهذه القوى في الوقت الراهن هو إحياء السياسة عبر الدفاع عن القيم التي تمثلها، فعلى القوى اليسارية والقومية إعادة الاعتبار لقيم “العدالة الاجتماعية” وانحياز الحكم للطبقات الفقيرة والمتوسطة، والاهتمام بالمشروعات الإنتاجية على حساب مشروعات الطرق والكباري، وطرح الأفكار التي ترسخ فكرة العدالة والمساواة والمواطنة؛ والتي ترفض الاقتراض وسياسات صندوق النقد الدولي، فضلا عن الدفاع عن الاستقلال الوطني ورفض التطبيع مع إسرائيل وإحياء دور مصر في محيطها العربي، أما التيار الليبرالي فعليه استكمال مسيرة الدفاع عن الحريات العامة، الرأي والتعبير والاعتقاد والصحافة والإعلام، واحترام حقوق الإنسان وترسيخ التعددية والتنوع والشفافية، وتأكيد الحكم الديمقراطي واحترام قيمة تداول السلطة عبر صناديق الانتخابات النزيهة.
إحياء السياسة التي ماتت هو الأمل الذي يرتسم الآن في المشهد الذي بدأ في الظهور، تكتلان يعبران عن تيارات سياسية لها رصيد تاريخي كبير، ولها رصيد شعبي رغم كل الحصار الذي تعرضت له السياسة، فمنذ سنوات لم يكن هناك ما يمكن البناء عليه أو ما يمكن أن نعتبره مشهدا سياسيا جديدا، لذلك فإن إحياء السياسة الآن بات أقرب من أي وقت مضى، هذا الإحياء المأمول لا يتطلب أكثر من تقديم الخطط والرؤى التي تقوم في الأساس على التمسك بقيم العدل الاجتماعي والمساواة والمواطنة والحريات العامة واحترام حقوق الإنسان، فربما نكون أمام لحظة تاريخية غير مسبوقة، لذلك لا يجب التفريط فيها ولا التردد في الدفاع الجاد والحقيقي عن كل ما يؤدي إلى إقامة الدولة المدنية الديمقراطية التي يستحقها المصريون بكل تأكيد.