أحدثت نتيجة الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية تحولات كبرى غيرت من الخريطة السياسية والثقافية في البلاد، وستؤثر حتما على قدرة الرئيس الفرنسي على الحكم واختيار الحكومة. فلم يحصل تحالفه الانتخابي (النهضة) على أغلبية مطلقة كما جرى في انتخابات 2017، صحيح أنه حصل على أغلبية نسبية (245 مقعدا من 577 مقعدا) ولكنه سيضطر إلى عمل تحالفات مع أحزاب أخرى لتشكيل حكومة جديدة.

وقد جاء في المرتبة الثانية تحالف أحزاب اليسار بزعامة جان لوك ميلنشون ويحمل مشروعا سياسيا واجتماعيا مناقضا لتوجهات الرئيس ماكرون، أما المرتبة الثالثة، فقد احتلها حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان وحصل على 89 مقعدا، ثم جاء في المرتبة الرابعة الحزب الذي كان شريك الحكم الرئيسي في فرنسا منذ تأسيس ديجول الجمهورية الخامسة عام 1958 وتغير اسمه من الاتحاد من أجل الجمهورية إلى الجمهوريين، وحصل على 64 مقعدا فقط، وأخيرا حصلت أحزاب وشخصيات مستقلة من اليسار واليمين على 48 مقعدا.

وقد اعتبرت كثير من التقارير الصحفية أن الحزب الأول في فرنسا هو “حزب المقاطعين”، حيث بلغت نسبة المقاطعة في هذه الانتخابات حوالي 54% وهي نسبة مرتفعة خاصة أن نسب المقاطعة في انتخابات 2002 كانت 39% وفي 2007 كانت 40% ثم ارتفعت مرة أخرى في 2012 حتى وصلت إلى 44%.

ولازالت النسبة الأكبر من المقاطعين من الشباب (من 18إلى 30) وهو ما جعل صحيفة الليموند الفرنسية تعتبر “المقاطعة مشكلة بنيوية” يعاني منها النظام السياسي الفرنسي والعملية الانتخابية.

ماذا يعني البرلمان المنقسم؟

في النظم شبه الرئاسية مثل النظام السياسي الفرنسي، الرئيس هو رأس السلطة التنفيذية وهو الذي يعين رئيس الحكومة الذي يشاركه جانب من صلاحياته الداخلية بعد موافقة البرلمان، وفي حالة الانتخابات الأخيرة فقد ماكرون أغلبيته المطلقة التي تسمح له باختيار رئيس حكومة ينال موافقة الأغلبية البرلمانية.

وإذا كان الفارق الأساسي بين النظم الرئاسية وشبه الرئاسية يكمن في وجود رئيس وزراء، فالنظم الرئاسية لا يوجد فيها رئيس حكومة مثل الولايات المتحدة ودول أمريكا الجنوبية في حين أن النظم شبه رئاسية مثل فرنسا وتونس وعدد محدود من الدول يكون رئيس الجمهورية هو رأس السلطة التنفيذية ويتمتع بصلاحيات واسعة في مجال الدفاع والسياسة الخارجية، أما في السياسة الداخلية فيشاركه رئيس حكومة تختاره االالأغلبية البرلمانية.

ومن هنا فإن انقسام البرلمان الفرنسي وعدم وجود حزب أو تحالف يمتلك أغلبية مطلقة جعل المشهد كما وصفه كثيرون “إيطاليًا” أي يتسم بعدم القدرة على تشكيل حكومة قادرة على العمل لفترة طويلة. إن تجربة التعايش التي جرت في فرنسا بين الرئيس الديجولي الراحل جاك شيراك ورئيس وزرائه الاشتراكي ليونيل جوسبان حصل فيها الحزب الاشتراكي على أغلبية مقاعد البرلمان، أما هذه المرة فقد تفرق البرلمان بين أربع كتل رئيسية لم تشكل أي منها أغلبية مطلقة.

هذا الوضع سيدفع ماكرون أما إلى التحالف مع حزب من الأحزاب الثلاثة الكبرى في البرلمان وهو غير وارد بالنسبة لتحالف اليسار ولا اليمين المتطرف، ولكنه وراد بدرجة محدودة مع حزب الجمهوريين (الديجولي)، وإما أن يشكل حكومة تنال توافق القوى الثلاثة الرئيسية دون الذهاب إلى تحالف معها أو مع أي منها، وأن يخضع كل مشروع تقدمه الحكومة أو الرئيس لتصويت كل حزب أو تكتل على حدة وفقا لتوجهاته.

تحولات سياسية وثقافية

يمكن وصف الانتخابات البرلمانية الفرنسية أنها شهدت كثيرا من الظواهر التي نالت لقب “أول مرة”، فقد عرفت هذه الانتخابات دخول ثلاث نواب من التحالف اليساري اثنين منهم عمرهم 21 عاما (وهما أصغر نواب في تاريخ البرلمان الفرنسي) وواحد عمره 25 عاما، صحيح أن هناك نائبا “عشريناتي” آخر ينتمي للتجمع الوطني (اليمين المتطرف) إلا أن التكتل الحزبي الذي نال أكبر نسبة من أصوات الشباب كان التحالف اليساري.

كما شهدت فرنسا حدثا انتخابيا كبيرا لم تعرفة من قبل وهو فوز “راشي كاكي”(تحالف اليسار) والتي تعمل عاملة نظافة في أحد الفنادق وأصولها من ساحل العاج، على وزيرة الرياضة السابقة، وهي لا تحمل مؤهلا دراسيا جامعيا أو فني وليست “كادر” إدارة عليا وخاضت انتخابات وفازت بفارق ضئيل على “الوزيرة” بأصوات فرنسيين من أصول مهاجرة وغير مهاجرة على السواء.

وقد احتل الحديث عن “بروفايل” النائبة الجديدة ذات الأصول المهاجرة مساحة كبيرة من تعليقات وسائل الإعلام المختلفة، وحملت في مجملها إشادة بها وببساطتها وقربها من الناس.

لقد أحدثت الانتخابات البرلمانية الفرنسية تحولا كبيرا في المشهد السياسي الفرنسي الذي لم يعد يسيطر علية نظام ثنائي القطبية (اليمين واليسار) إنما مشهد مفتت يحمل الكثيرون الرئيس ماكرون مسئوليته، وقد يكون مشهدا مؤقتا وارد أن يتغير قريبا مع صعود انقسام جديد قائم أساسا على الفارق بين توجه يساري يحمل جوانب شعبوية (تيار ميلنشون) وآخر يميني قومي لازال متطرفا (حزب مارين لوبان).

كما أفرزت هذه الانتخابات نواب لم تتجاوز أعمارهم 25 عاما وهو مشهد لم تعرفه فرنسا من قبل حتى لو كانت أعدادهم لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، كما قدمت نموذج المرأة العاملة التي مثلتها “راشي” ولم يقل لها أحد ما هي شهادتك؟ أو ماذا تفهمين في السياسة؟ إنما اعتبرت أنها تمثل شريحة في المجتمع لا يجب قهرها أو إهانتها إنما يجب الاعتراف بها واعتبار دخولها البرلمان إنجازا ونجاحا للنظام الديمقراطي، رغم قوة الخطاب الوطني المتطرف الرافض للأجانب.

ستبقي الانتخابات التشريعية الفرنسية علامة فارقة في تاريخ الجمهورية الخامسة، وستبقي قدرة الرئيس الفرنسي على تقديم تنازلات والوصول لحلول وسط مع خصومة السياسيين شرط تجاوز أزمة البرلمان المنقسم.