بدأ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، زيارة إلى مصر تستغرق يومين، في إطار جولة تشمل الأردن وتركيا. والأخيرة تلك ستكون الزيارة الرسمية الأولى بعد الأزمة العاصفة في العلاقات السعودية التركية في أعقاب مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في اسطنبول، وهي بمثابة سطر أخير بنهاية هذا الملف الذي هدد شرعية الأمير الشاب، وكاد يقضي على طموحه الرامي لاعتلاء عرش المملكة.
تحمل الجولة العديد من الدلالات، أبرزها أنها ستمثل إعلانًا رسميًا لكسر القيود التي جعلت بن سلمان “منبوذًا”، وضيفًا غير مقبول في عدد من العواصم. فالزيارة تعد الأولى للأمير -الذي بات أقرب ما يكون لتولي العرش- خارج منطقة الخليج منذ مقتل مواطنه الصحفي المعارض. كما أنها تتزامن مع إعلان المملكة موعد زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، والمقررة يومي 15 و16 من يوليو/تمُّوز المقبل. وتلخيصا فإن الأكثر بروزا في هذه الجولة أن ولي العهد يسعى لترسيخ مكانته الإقليمية وتقوية موقفه إزاء بايدن قبل زيارة الأخير المنتظرة للمملكة.
بن سلمان ومفتاح شرعية الصعود للعرش
اختيار تركيا بالتحديد ضمن جولة بن سلمان يحمل بين طياته أسبابه. خاصة وأنها الدولة التي قاد رئيسها رجب طيب أردوغان ومسئولوها حملة ضارية، تنوعت ما بين التسريبات المخابراتية، والتصريحات الرسمية وغير الرسمية، بشأن ما وصفوه بأدلة تورط الأمير الشاب في قتل خاشقجي.
أدرك الأمير أن مفتاح شرعية الصعود للعرش في أنقرة، التي لا تزال تملك” أدلة وتسريبات”، بحسب تصريحات سابقة لمسئولين أتراك، قد ينهي ظهورها المستقبل السياسي لولي العهد. وهو يسعى على ما يبدو إلى غلق هذا الملف نهائيًا، عبر إغراءات اقتصادية للدولة المتعثرة اقتصاديًا.
قبل زيارة أردوغان المملكة في أواخر إبريل/نيسان الماضي، أحال القضاء التركي محاكمة 26 سعوديًا مشتبهًا بضلوعهم في مقتل خاشقجي إلى السعودية؛ لتغلق بذلك التحقيقات التركية في القضية. حيث كانت المحاكمة تشكلّ الحاجز الأخير لتبادل الزيارات على مستوى قيادتي البلدين.
كما يجد بن سلمان نفسه في حاجة ماسة إلى هذه الزيارة، فإن احتياج القيادة التركية الحالية لها لا يقل بأي حال. خاصة بعدما أعلن أردوغان مؤخرًا عن بدء حملته للانتخابات الرئاسية، مدفوعًا بالضغوط الكبيرة الناجمة عن الأزمة المالية التي تخوضها البلاد.
الاقتصاد مقابل كسر العزلة
تواجه تركيا أزمة اقتصادية على وقع انهيار قيمة الليرة والتضخّم القوي الذي تخطّى نسبة 60% في الأشهر الـ12 الأخيرة. وبحسب وكالة الأناضول التركية الرسمية للأنباء، فقد توقع مجلس الغرف التجارية السعودية ارتفاع واردات المملكة من تركيا خلال الفترة القريبة المقبلة. ذلك في أحدث إشارة على التحسن المطرد للعلاقات بين البلدين.
وارتفعت واردات المملكة من تركيا بنسبة 2,8% خلال أول شهرين من 2022، بحسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء السعودي. يأتي ذلك، بعد أن تراجعت واردات المملكة من تركيا في 2021 بنسبة 62,3%، إلى 3,32 مليارات ريال (886 مليون دولار) مقابل 8,82 مليار ريال (2,35 مليار دولار) في 2020.
وقد يساهم التوسع في الانخراط السياسي بين السعودية وتركيا في تغييرات كبيرة تمسّ الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط.
هنا، يمكن القول إنه عندما تكون الأهداف مشتركة لدولتين سُنيتين بحجم تركيا والمملكة السعودية، فإن ذلك قد يقوض محاولات عواصم غربية تدعم أو تغض الطرف عن سلوك بلد يريد المساس بالأمن القومي.
كما أن هذا التقارب يعد بمثابة رسالة سياسية مهمة للإدارة الأمريكية، مفادها أن التعاون متعدد الجوانب بين الدولتين سيؤدي إلى واقع جديد في المنطقة. ما من شأنه فرض واقع جديد على سياسة البيت الأبيض (اقتصاديًا وسياسيًا). ذلك في وقت باتت تعتقد فيه السعودية أن عليها أن تعتمد على نفسها في حماية أمنها ومصالحها. بعد أن تخلت واشنطن عنها فيما يخص استهداف منشآت أرامكو عدة مرات. إضافة إلى سحب الأخيرة معظم منظومات الدفاع الجوي من قواعدها في السعودية. إلى جانب إعادة نشرها في دول آسيوية أخرى لمواجهة التهديدات الصينية.
بن سلمان يريد طي صفحة “فتنة” الأردن
وكما يأتي ملف تصحيح مسار العلاقات مع تركيا على رأس أولويات زيارة بن سلمان إلى أنقرة، تعد المحطة الثانية لهذه الجولة في الأردن، بمثابة طي لصفحة الشكوك بين البلدين. ذلك بعد عام على ما عٌرف بـ”قضية الفتنة”، التي أكد الجانب الأردني أن أحد المشاركين فيها كان قريب الصلة من ولي العهد السعودي.
ففي مقابلة مع CNN في يوليو/ تموز من العام الماضي، قال العاهل الأردني عبد الله بن الحسين: “نعرف جميعًا أن باسم عوض الله، الذي عمل في السابق في الأردن – مستشار الديوان الملكي الأردني السابق- هو مستشار رفيع المستوى في السعودية. لاحظنا وجود ارتباطات خارجية فيما يخص هذه القضية. أعتقد أنه بالنسبة للأردن، لن يساعدنا توجيه أصابع الاتهام للآخرين. فهناك ما يكفي من تحديات في المنطقة، ولكن نحتاج للمضي إلى الأمام”.
وفي العام الماضي، صدر بحق باسم عوض الله والشريف الحسن بن زيد قرارًا بالسجن 15 عامًا. ذلك عن إدانته بتقويض نظام الحكم السياسي في البلاد، وإحداث فتنة.
وارتبط بالقضية اسم الأمير حمزة بن الحسين، ولي العهد الأردني السابق، الذي قرر الملك عبدالله تقييد اتصالاته وتحركاته وتحديد إقامته في قصره.
الدور المصري في عودة بن سلمان لتركيا
لا تقتصر دوافع جولة بن سلمان على تحسين العلاقات البينية مع الدول الثلاث فقط. خاصة بعدما بدأت السعودية في الآونة الأخيرة تشعر بأنها محاطة بالوجود الإيراني من كل جانب، في الوقت الذي يسود فيه شعور بتراجع الدعم الأمريكي الذي كان مطلوبًا بشدة في هذا التوقيت. وبالتالي، فإن تعاون السعودية مع تركيا وباقي دول المنطقة قد يشكل لها نوعًا من الدعم المفقود من جانب الحليف الأمريكي القديم.
وتسعى المملكة لبناء تحالف قوي يمكنها من كبح جماح الطموح الإيراني في المنطقة. ما يعني أن تحسن العلاقات التركية السعودية، قد يدفع إلى مصالحة كاملة بين القاهرة وأنقرة خلال الفترة المقبلة. ذلك لما لها من ثقل سياسي في المنطقة. خاصة وأن محاولات إصلاح العلاقات بينهما لا تزال تراوح مكانها. وبالتالي، فإن العلاقات السعودية التركية الجيدة قد تعيد المركب إلى مساره الطبيعي بالنسبة للعلاقات العربية التركية بصفة عامة، وليس الخليجية التركية فقط.
في هذا الإطار يرى سيباستيان سونز، الباحث المتخصص في سياسات الخليج في مركز الدراسات التطبيقية في بون بألمانيا، أن “مصر قد لعبت دورًا شديد الأهمية في التقارب بين تركيا والمملكة العربية السعودية”. والأخيرة أحد أكبر داعمي النظام المصري سياسيًا واقتصاديًا. ويشير ذلك إلى “أهمية ما يمكن أن يمثله وجود الدور المصري كلاعب رئيسي مع السعودية وتركيا للحد من النفوذ الإيراني في المنطقة”.
ترتيبات التوسع في التطبيع
وبالتزامن مع الزيارة المرتقبة لولي العهد السعودي إلى تركيا، أعلن مكتب وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد أنه سيزور تركيا هذا الأسبوع. وذلك بعد اتصال هاتفي بين رئيسي البلدين على خلفية تهديدات إيرانية مزعومة لرعايا الدولة اليهودية في اسطنبول.
تتشابه الأجواء فيما بين أنقرة وتل أبيب إلى حد كبير بتلك التي بين أنقرة والرياض. بعدما شهدت العلاقات بين إسرائيل وتركيا تحولًا في الآونة الاخيرة في أعقاب زيارة الرئيس الإسرائيلي تركيا مارس/أذار. وكانت أول زيارة لرئيس إسرائيلي إلى أنقرة منذ عام 2007. فيما أجرى وزير الخارجية التركيمولود جاويش أوغلو زيارة نادرة إلى القدس في نهاية مايو/أيار، في إطار تحسين العلاقات الدبلوماسية.
وفي هذه الأثناء، قدم وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس إحاطة للجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست الإسرائيلي. حيث أعلن “بناء تحالف للدفاع الجوي في الشرق الأوسط” بقيادة الولايات المتحدة.
وفي إحاطته، أضاف جانتس أن “التحالف أحبط بالفعل محاولات لشن هجمات إيرانية”. وأشار إلى مزيد من القوة سيستمدها التحالف من زيارة الرئيس جو بايدن الشهر المقبل. متابعًا “آمل أن نتخذ خطوة أخرى للأمام في هذا الجانب (من التعاون الإقليمي) خلال زيارة الرئيس بايدن المهمة هي الزيارة التي ستشهد قمة جدة التي سيلتقي خلالها بايدن مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر والأردن والعراق”.
الحديث عن الترتيبات الأمنية العربية الإسرائيلية كان قد تطرق إليه جانتس مطلع الشهر الجاري. قال إن” إسرائيل والدول العربية التي تشاركها مخاوف بشأن إيران، يجب أن تبني قدراتها العسكرية بدعم من الولايات المتحدة”.
تيران وصنافير
تلك الأحاديث لا يمكن فصلها عن سياقات التحركات التي تشهدها المنطقة. في الوقت الذي تقود فيه الإدارة الأمريكية مفاوضات حول نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير -الواقعتين في مضيق تيران- من مصر إلى المملكة العربية السعودية. الأمر الذي يتم بالتنسيق مع تل أبيب. حيث يتطلب نقل السيادة على الجزيرتين موافقة إسرائيل، وتعديل معاهدة السلام الموقعة بينها وبين مصر في عام 1979.
وفيما يتواصل العمل بشأن مرور الرحلات الجوية الإسرائيلية فوق أراضي المملكة، وهي الخطوة التي من شأنها أن تقصر أوقات الرحلات كجزء من عملية التطبيع، سمحت الرياض لعدد كبير من رجال الأعمال الإسرائيليين بالسفر إلى السعودية. ذلك بهدف تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.
وبخلاف تلك الملفات، ستكون هناك ملفات أخرى ضمن أجندة ولي العهد السعودي خلال جولته. من بينهما حتمًا ملف الطاقة، في ظل التوترات التي خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية. إضافة إلى الأزمة اليمنية، ومحاولات الرياض للبحث عن مخرج منها.
ختامًا يمكن القول إن تلك التحركات التي يتخذها بن سلمان -حاليًا- تصب جميعها في تهيئة الأجواء المحيطة به. وهو ما يمثل مرحلة التمهيد لتحقيق حلمه باعتلاء عرش المملكة. وإن تعددت التفاصيل وتشابكت الملفات.