يواجه الرئيس التونسي قيس سعيد معارضة شرسه لنهجه الذي تسميه المعارضة التونسية بأنه “دكتاتوري ويحاول ترسيخ كامل سلطته دون قيود دستورية من خلال خطوات ثابتة تضمنت اعتداءات مستمرة على السلطة القضائية وتهميش السلطة التشريعية وتقييد الحريات السياسية”.
والطامة الكبرى في تونس حاليا هي توريط البلاد في مزيد من المشكلات الاقتصادية. وقد صاحب إجراءات “سعيد” رد فعل سريع من جانب أعداد كبيرة من المواطنين والأحزاب والعديد من مؤسسات المجتمع المدني بالخروج إلى الشارع. رافعين شعار “نريد استعادة البلد المخطوف”. ما يزيد المشهد السياسي في تونس تعقيدا ويضع الرئيس “سعيد” في أزمة عميقة ربما تهدد مكانته ووضعه.
ملابسات الأزمة الراهنة
بالتزامن مع إعداد مشروع الدستور في إطار الهيئة الوطنية الاستشارية نظم مواطنون وأغلب الأحزاب السياسية ومنظمات من المجتمع المدني مظاهرات حاشدة تعبيرا عن رفضهم مشروع الدستور الجاري إعداده. مؤكدين عدم مشاركتهم في الاستفتاء المقرر في 25 يوليو باعتباره “تزويرا لإرادة الشعب”.
وفي سياق متصل صاحب المظاهرات تصعيد من خلال دعوة الاتحاد العام التونسي للشغل للدخول في إضراب عام في القطاع العمومي يوم 16 يونيو/حزيران. وذلك للمطالبة بسحب المنشور رقم 20 الذي يضع شروطا للتفاوض مع النقابات. وكذلك حمل الحكومة على التفاوض بشأن زيادة الأجور في ظل ارتفاع للأسعار وتدهور الأوضاع الاقتصادية للموظفين. مؤكدا أن مطالبه اجتماعية واقتصادية لا سياسية.
وتتمثل أهم اتجاهات الأزمة في نقاط عدة، أهمها:
إضراب موظفي الحكومة
بتعبئة جماهيرية من جانب اتحاد الشغل في تونس بدأ موظفو الحكومة إضرابا عاما في البلاد يوم 16 يونيو/حزيران الجاري للتعبير عن رفضهم الأوضاع القائمة. وشمل الإضراب نحو 160 مؤسسة حكومية. وتوقفت حركة الملاحة والنقل والبريد وكثير من الخدمات. كما تم إلغاء كل الرحلات الجوية من وإلى تونس.
ويعد هذا هو الإضراب الأول لاتحاد الشغل منذ 2018. وتبلغ تكلفة يوم إضراب في القطاع العام نحو 200 مليون دينار تونسي (الدينار التونسي يعادل 0.32 من الدولار). ما أصاب البلاد بحالة شلل.
وحظي الإضراب بدعم 5 أحزاب تونسية وفقا لبيان مشترك لـ”التيار الديمقراطي” و”المنتدى الديمقراطي للعمل والحريات” و”الحزب الجمهوري” و”القطب الحداثي الديمقراطي” و”حزب العمال”. وتمكن إضراب القطاع العام من تحقيق نسبة مشاركة بلغت 96.22%.
تمديد إضراب القضاة
وتعيش تونس لمدة 21 يوما دون قضاء. حيث يواصل القضاة إضرابهم إلى حين الاستجابة لمطالبهم. حيث تم التصويت يوم السبت على قرار تمديد الإضراب الذي بدأ 4 يونيو/حزيران لأسبوع ثالث. كما تم الاتفاق على تنظيم يوم غضب سيخرج فيه القضاة بملابسهم الرسمية للشارع للاحتجاج. وكذلك دخل مجموعة من القضاة الذين تم عزلهم في حالة إضراب عن الطعام.
احتجاجات المواطنين
وتحت شعار “شعب تونس قال لا” انطلق مواطنون محتجون إلى الشارع يوم السبت الماضي بالعاصمة التونسية للتعبير عن رفضهم الاستفتاء على الدستور الجديد الذي دعا إليه الرئيس سعيّد. متهمين إياه بـ”خطف الدولة” والسعي لترسيخ حكم فردي. مطالبين بعودة النظام الديمقراطي. كما نددوا بحل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وتعيين هيئة جديدة بقرار فردي.
رفض “الدستوري الحر”
ورغم أن الحزب الدستوري الحر كان من المؤيدين لقرار الرئيس “سعيد” بإعلانه التدابير الاستثنائية في 25 يوليو 2021. وقراره بتجميد البرلمان ثم حله إلا أنه خرج في مسيرة مناهضة للاستفتاء المقرر يوم 25 يوليو. ورفع شعار “لا استشارة لا استفتاء”. باعتباره “غير قانوني وغير شرعي ويمثل اغتصابا لإرادة الشعب”. وشدد على ضرورة إعلان الحكومة التونسية نفسها كـ”حكومة انتخابات” لعدم قدرتها على إدارة القضايا السياسية والاقتصادية العالقة.
كذلك نظمت جبهة “الخلاص الوطني” مظاهرة في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية رفضا لما أسموه “انقلاب” الرئيس سعيّد على المؤسسات المنتخبة.
الضغط الدولي
ويُضعف موقف القوى الخارجية من برنامج الرئيس سعيد. حيث مارست واشنطن بعض الضغوط على تونس من خلال تخفيض مساعدتها العسكرية إلى النصف في إبريل 2022. كما تراجع وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكين عن زيارته لتونس في رحلته إلى المغرب العربي في نهاية مارس 2022. فيما أعلنت ألمانيا أنها لن تقدم دعمًا للاقتصاد التونسي حتى يتم تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي.
أسباب الأزمة
منذ 25 يوليو/تموز 2021 تعاني تونس أزمة سياسية حادة. حيث فرض سعيّد إجراءات استثنائية. منها إقالة الحكومة وتعيين أخرى. وحلّ البرلمان ومجلس القضاء وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية.
وتصنف أبعاد الأزمة أولا بأسباب سياسية:
تكريس الحكم القمعي
ينتهج الرئيس خطابا يصفه المعارضون بـ”العدواني ويعمل على تعميق الانقسامات السياسية”.
ففي سبتمبر 2021 أعلن تعليقًا جزئيًا لدستور 2014. ومنذ ذلك الحين يحكم بمرسوم. كما ألغى “سعيد” تقسيم السلطات ووضع المؤسسات المركزية مثل مجلس القضاء الأعلى والهيئة العليا المستقلة للانتخابات تحت سيطرته المباشرة.
دستور الغرف المظلمة
ووسط مقاطعة قوى رئيسية انطلقت جلسات الحوار الوطني بشأن وضع دستور جديد من المقرر الاستفتاء عليه في 25 يوليو/تموز المقبل. والتي شاركت فيها 3 أحزاب صغيرة وناشطون موالون للرئيس سعيد. بينما رفض الاتحاد العام التونسي للشغل الانخراط في المحادثات قائلاً إنه يرفض المشاركة في أي حوار “شكلي” نتائجه معروفة مسبقا. كما لم تضم الجلسات الأحزاب السياسية الرئيسية في تونس مثل الدستوري الحر. كذلك اعتذر 76 أستاذ قانون وعمداء كليات الحقوق السابقون عن عدم المشاركة في اللجنة الاستشارية القانونية.
وعبر كثير من المواطنين عن رفضهم لمباحثات لجنة الحوار الوطني في وقفة احتجاجية أمام مقر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في العاصمة تونس. قائلين إن محادثات قرطاج (مقر القصر الجمهوري) وهيئة الانتخابات التي عينها “سعيد” غير شرعية وتعهدوا بالتصدي للاستفتاء.
أسباب قضائية: إقالات تعسفية
قام “سعيد” بعزل 57 قاضيا بموجب مرسوم 35 لسنة 2022 المؤرخ في 1 يونيو/حزيران 2022 لـ”ارتباطهم بقضايا فساد وحماية إرهابيين”.
وسارع بتعيين أعضاء جدد في هيئة جديدة للانتخابات. إذ عين مجلسا مؤقتا للقضاء في مسار ترسيخ حكم الرجل الواحد بحسب كثيرين. وهو ما رفضته جمعية القضاة باعتبارها قرارات “مسيسة وتمثل تعديا واضحا على الاختصاص الحصري للمجلس الأعلى للقضاء”. حيث صعدت الجمعية موقفها بتعليق عمل القضاة في المحاكم بداية من 4 يونيو/حزيران الجاري.
وأكد رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمايدي” عدم تفاعل رئاسة الجمهورية مع تحرّكات القضاة خلال الأسبوعين الماضيين. حيث رفض “سعيد” الاستجابة لطلب اللقاء الذي رفعته الجمعية. ما يزيد حالة الاحتقان التي يمر بها الوسط القضائي في تونس. ويشير إلى احتمالية مد تعليق العمل القضائي إلى أجل غير مسمى.
هذا الأمر استدعى رد فعل قويا من جانب القوى المحلية والدولية. حيث شدد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية “نيد برايس” على ضرورة الحفاظ على الضوابط والتوازنات في النظام الديمقراطي. وفي ذات السياق “نواصل حثّ الحكومة التونسية على انتهاج عملية إصلاح شفافة تشرك الجميع وتستفيد من إسهامات المجتمع المدني والطيف السياسي المتنوع لتعزيز شرعية مساعي الإصلاح”. كما وصف الاتحاد الدولي للنقابات قرار العزل بمثابة “تهديد جديد للحرية وسيادة القانون في تونس”.
أسباب اقتصادية: نفق اقتصادي مظلم
وتقع تونس في أزمة اقتصادية خانقة مع اتخاذ الحكومة قرارا برفع الدعم عن الطاقة والغذاء تتمثل في:
1-هبوط مستوى الميزان التجاري لتونس حتى 31 مايو/أيار 2022 بنسبة 40% عن الفترة نفسها من عام 2021. حيث سجل عجزا بـ10 مليارات دينار -وفق آخر بيانات لمعهد الإحصاء الحكومي.
2- عدم حصول العاملين في القطاع العام على أي زيادة في أجورهم منذ سنة 2020 رغم الأوضاع الاقتصادية العالمية الجارية.
3- خفض وكالة فيتش للتصنيف الائتماني مستوى تونس في مارس 2022 من B- إلى CCC. حيث تعاني عدم القدرة على سداد الديون التي بلغت 100% من الناتج المحلي الإجمالي. ما ينذر باحتمال إعلان إفلاسها. وهو ما وجهها بطلب الاقتراض من صندوق النقد الدولي بقيمة 4 مليارات دولار منذ نوفمبر/تشرين الثاني السابق.
وتقع تونس بين المطرقة والسندان في إمكانية الوفاء بشروط صندوق النقد. حيث يضغط الصندوق لتطبيق جملة إصلاحات اقتصادية تقشفية بهدف تقليص عجز الميزانية عبر فرض الضرائب ورفع الدعم وخفض حجم قطاع الوظيفة العامة. فيما لا تستطيع الحكومة تمرير قرارات الصندوق من جانب أحادي. حيث يمتلك الاتحاد العام التونسي للشغل حق النقض السياسي.
السيناريوهات المحتملة
تسلم الرئيس التونسي سعيد أمس الاثنين مسودة مشروع الدستور الجديد. ومن المقرر وفقا لمخططه أن يعرضها للاستفتاء في الموعد المحدد في 25 يوليو/تموز المقبل. وهنا تواجه تونس سيناريوهات منها:
الأول: إما يستطيع الرئيس “سعيد” التفاوض مع المعارضة والأحزاب والوصول إلى تسوية بدعوى أن مسودة الدستور تتضمن الحفاظ على مقررات الديمقراطية والمؤسسات السياسية وتستطيع الانتقال بالبلاد إلى وضع سياسي واقتصادي أفضل.
الثاني: وإما يفشل الرئيس في استقطاب الأحزاب وإصلاح أوضاع القضاء. وهنا سيمتنع العديد من المواطنين عن الذهاب إلى الاستفتاء على الدستور وتستمر الاحتجاجات المنددة بالتدهور الاقتصادي وبالتالي يصبح الرئيس مهددا بفقدان شرعيته.