عن أفريقيا التي يعرفها ككف يده بحثًا ودراسة عبر سنوات عمره الزاخرة بالعلم والتفتيش والعمل في مسالك ودروب القارة يتحدث المفكر الدكتور حلمي شعراوي لـ”مصر 360″.
كخبير في الثقافة الاجتماعية الأفريقية وعرّابا للتفاوض والتحركات المصرية داخل أفريقيا منذ سيتينيات القرن العشرين ومرشدٍ لحركات التحرر الوطني يلقي حلمي شعراوي بشهاداته الخاطفة عن أفريقيا الملتهبة منذ الربيع العربي. ومنها بالطبع ما يخص مصر.
يدعو حلمي شعراوي لالتصاق مصر بأفريقيا أكثر لتحقيق وزن فاعل في العالم الخارجي. مؤكدًا أن عواصم أفريقية كثيرة صارت تنافس القاهرة على مستوى الحضور الدولي. ويعرج على مستقبل أزمة “روسيا-أوكرانيا” مخالفًا ما يتم طرحه حول “تغيرات النظام الدولي”. فيما تأتي ملفات أخرى ساخنة على مائدة الحوار مع المفكر والباحث الكبير.
وإلى نص الحوار.
من المحلي نبدأ.. فنحن مقبلون على ذكرى ثورة 30 يونيو.. كيف تقيم مسارها السياسي حتى الآن؟
كان لـ”30 يونيو” ميزة أساسية وهي تخليص مصر من حكم الإخوان. وأعتقد أن خطط التنمية ستفتح أمامنا فرصا كبرى. ومصر ستستفيد من هذا العالم المفتوح.
تبدو الخارطة الأفريقية مرتبكة سواء فيما بينها أو داخل كل بلد.. فما تعليقك؟
مطلوب نوع من التقارب وهذا يأتي عن طريق ترجمة الأدب والثقافات والاهتمام باللغات الأفريقية وإنشاء أقسام لدراسة اللغات الأفريقية بالجامعات مثل اللغة السواحلية والفولا والهوسا. وتوحيد اللغة في منظمة الوحدة الأفريقية لتوحيد الالتقاء في منظمة تعبر عن الجميع.
التحفز الأفريقي ضد مصر.. كيف يمكن التعامل معه؟
هذا الموقف تاريخي منذ تجارة الرقيق. لكن العولمة وتداعياتها خلقت نوعا من المقاربات. اختراق الدول عن طريق العولمة أزال ذلك الشعور بالتحفز. والعالم مفتوح شرقا وغربا. وعلينا بناء تحالفات لمواجهة آثار العولمة على الدول النامية والفقيرة.
وما الذي يعيد مصر إلى مجدها الأفريقي؟
التبادل التجاري والتكامل الاقتصادي. فأفريقيا سوق كبيرة. فلماذا لا نتبادل المصالح؟ نعمل مصنع مثلا في كينيا أو نيجيريا.. النيجيريون لديهم زيت نخيل جيد ممكن نستورده منهم ونعيد تصنيعه وبيعه في شكل مشتقات أخرى. أيضًا لماذا لا نعتمد في استيراد اللحوم على دول القارة لدعم اقتصادها. كاللحوم السودانية والإثيوبية بدلا من دعم المنتج الأوروبي أو اللاتيني.
وهناك آليات أخرى لو مصر جادة في الالتحام بالقارة. منها التعاون مع دول الساحل في الشمال أو دول الصادق في الجنوب أو “الإيكواس” في الغرب “الأفريكان كوميونيتي” مجموعة شرق أفريقيا.
الوجود الفعال في مثل هذه التجمعات بوزن أثقل يتيح الدخول إلى العولمة الاقتصادية. ويمكننا التفاوض مع القوى المهيمنة -الاتحاد الأوروبي وأمريكا والروس- لأننا جزء من جنوب المتوسط والبحر الأحمر. وعلينا اللعب بقدر الوضع المفروض علينا وحسن إدارته واختيار الانحيازات التي تحقق مصالحنا.
نحن نلهث خلف المشترك الأوروبي. بينما نحتاج إلى الالتحام والتعاون مع المشترك الأفريقي في التفاوض. مع الترابطات العالمية الواسعة لتعزيز وتغذية موقفنا ودورنا. خاصة في ظل فشل مجموعة شمال أفريقيا في تحقيق هذه المقاربة.
وهذا بالطبع لن يحدث إلا بقرار سياسي ومجتمعي. وخلق وعي شعبي اجتماعي بالآخرين وعمل دعائي مستمر والتوقف عن تصوير الأفريقي على أنه ذلك “المتخلف الراقص” عكس الواقع. فهناك عواصم أفريقية تنافس القاهرة في التحضر والحضور الثقافي دوليا مثل “نيروبي-جوهانسبرج-لاجوس”. نحتاج إلى تصحيح للصورة الذهنية.
هل تتعامل الدولة المصرية حاليا بشكل أفضل مع أفريقيا عن ذي قبل؟
التوجهات الحالية أفضل بالتأكيد باعتبار احتياجنا. فلسنا قوة بعد للاستغناء عن أفريقيا والتعامل مع أوروبا وحدها. نحن في حاجا إلى الالتصاق بأفريقيا ليكون لنا وزن إقليمي في العالم الخارجي.
على صعيد أزماتنا الأفريقية.. لماذا تتفاقم أزمة سد النهضة على مصر والسودان؟
علينا أن نعي أن المشكلة لا تتمثل في مصر والسودان. بل هي أزمة حوض النيل بأكمله. وكان لابد من الوصول إلى أوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وجمهورية الكونجو الديمقراطية وإريتريا وإثيوبيا والسودان لكسر حدة الالتقاء. خاصة أن إثيوبيا ليست القوة المنافسة لنا بهذا القدر الذي يتم ترويجه مع دول الحوض. ولديها مشكلات مع دول عديدة في حوض النيل. فهى دولة “متعجرفة”. وكان لا بد من وجود سياسة ثابتة مع هذا الملف حتى لا تقلقنا أزمة سد النهضة. لكن على أي حال فنحن الأقدر وأنا لا أتخوف من أزمة السد. إنما أتخوف من وجود إسرائيل في مساندة الموقف المعادي لمصر عموما. فهي تحاول محاصرتنا من الشرق والجنوب. وإسرائيل لاعب قوي في القرن الأفريقي وتحاول السيطرة على البحر الأحمر. ويسهّل لها ذلك ضعف دولة الصومال والسيطرة الإماراتية على ميناء جيبوتي من المحيط الهندي. والذي تستخدمه إثيوبيا كمنفذ تجاري في جلب وتصدير احتياجاتها. ونحن نعلم حجم التزاوج المصلحي بين الإمارات وإسرائيل.
وإلى الآن ليس لدينا انتباه كافٍ بأن إسرائيل عبارة عن رأس جسر للاستعمار بحكم تقدمها الهائل وحجم المساعدات التي تتلقاها من الإمبريالية الغربية.
لماذا تراجع دور الاتحاد الأفريقي في حل قضايا القارة.. ولماذا يبدو منحازا في “سد النهضة”؟
سد النهضة عامل مشكلة. لأن الدول الأفريقية تعتبر إثيوبيا منذ “هيلا سيلاسي” الأب الروحي للمسيحية ومركز القبطية والمسيحية الأفريقية. فقد كان نفوذه كبيرا في الاتحاد الأفريقي عن مصر. وكانت إسرائيل تسميه “يهوذا” واستفادت منه كثيرا. أما عبد الناصر فقد كان حريصا في اجتماع الاتحاد الأفريقي أن يدخل مع سلاسي لفرض نوع من العلاقات الودية بين البلدين. كون جمال زعيم له نفوذ دولي وهيلاسيلاسي بزعامته الروحية.
متى بدأ تأثير النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا؟
من الستينيات حتى منتصف السبعينيات. وللأسف كان لحادث محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا أثر في قطع العلاقات بين مصر والقارة. فمبارك رفض زيارة أفريقيا ورفض حضور القمم الأفريقية كلها بعد الحادث وعزل مصر. كانت فترة سيئة اتسم حكمه بالبطء والخضوع لانفعالاته الشخصية. قاطع أفريقيا كلها وأثر ذلك في استقباله الزعماء الأفارقة. مَن كان سيأتي إلى مصر في ظل تلك الأجواء المشحونة؟!
وبالطبع حدث نوع من تذويب العلاقات المصرية الأفريقية وتحولت إلى بِرَك. وبعد تهديد الإخوان بضرب سد النهضة بعد ثورة 25 يناير زاد التحفز ضد مصر بأنها سوف تستقوي على أفريقيا. لكن الإدارة الحالية في مصر عالجت مثل هذه الشوائب. فمصر تملك خبرات دبلوماسية وفنية كبيرة وقوة بشرية نستطيع بها أن نؤثر في مناطق عديدة بأفريقيا. صرنا في حاجة إلى كتل جديدة في القارة عبر منافسة أكثر من مجرد التعاون.
قضية سد النهضة.. هل تصل إلى مواجهة عسكرية؟
لن يحلها أمر عسكري وهناك مفاوضات لا يعلن عنها. والملء على مراحل 7 سنوات قد يزيل التوتر. لأن مصر عندها بدائل مائية كثيرة. ولا أعتقد أن إثيوبيا تمسك برقبة مصر بالقوة التي يتم تصورها.
ما المعوقات أمام استكمال قناة جونقلي جنوب السودان؟
قناة جونقلي حل كافٍ لإنهاء أزمة الماء في مصر وكسر أنف إثيوبيا بالاحتفاظ بالجزء القادم من نهر الكونغو والأمطار الساقطة على جنوب السودان. لكن الحالة السياسية والاجتماعية لم تسمح إلى الآن باستكمال المشروع. فقبائل “الدلجا” بجنوب السودان -أكبر مربّي المواشي في أفريقيا- تعتمد على الرعي في مناطق “الصدص” -برك ومستنقعات- ويعارضون استكمال القناة لأن البحيرة ستقطع طريق العبور للمراعي.
هل انقسام السودان إلى دولتين له علاقة بتعطيل مشروع القناة؟
علاقتنا بجنوب السودان أفضل من الشمال. فالسودان مشكلة بالنسبة لمصر ولنفسه. فقوى الاختلاف كبيرة في الداخل السوداني. غرب السودان عالم وشرقه عالم آخر. البلد ليس وحدة واحدة. وليست مجرد انقسامات إقليمية داخلية. لأن هناك علاقات سياسية وتجارية مع الجوار. كل إقليم له مطالب بالاستقلالية والحكم الذاتي. وإقليم دارفور يستحوذ على ثلث السودان. والأقاليم تتفاوض كأنها دول مستقلة. ولا توجد قدرة لأي إقليم للعمل كدولة.
وخطورة هذا الوضع هو أنه يسمح بنشأة صراع فئات اجتماعية ونخب ذات مصالح. لذا تحافظ على مقاومة السلطة الأعلى. فلم تنجح الحكومة المركزية بالخرطوم في جذب تلك النخب بسبب عدم تطوير آليات التوحيد وعمل تجارة قوية منتظمة وصناعة وإقامة علاقات إقليمية كبيرة. وإذا لم يكتشف السودان طريقا للتوحد المعنوي والاجتماعي سيظل مستقبله هامشيا.
ما دور مصر في دعم الداخل السوداني؟
للأسف لسنا بالقوة المطلوبة. وشواغلنا كثيرة مع الشمال. والوعود المصرية أكبر مما يتحقق بكثير.
لماذا كان عهد عبد الناصر عصر المجد المصري في أفريقيا؟
في هذه الفترة استطعنا خلق دوائر نشطة تخدم مصالحنا داخل القارة. وكانت القاهرة هي شعلة حركات التحرير الأفريقية. وخلال 10 سنوات حققت مصر وضع مثل أي دولة كبرى في العالم داخل أفريقيا. ولم يكن الأمر يعتمد على الأموال ولكن على الحضور بالخدمات والإعلام والتثقيف.
أيضا كان ثلث القارة جنوبا يحكمه نظم عنصرية. في جنوب أفريقيا وروديسيا الشمالية وروديسيا الجنوبية وأنجولا. وكان تحرير روديسيا جزءا من محاصرة إسرائيل. خاصة أن إسرائيل نفذت إلى جنوب أفريقيا في فترة مبكرة جدا. وقطعنا العلاقات ببريطانيا من أجل حماية استقلال روديسيا الجنوبية – زيمبابوي الآن- وكان يجب أن نواجه ما حدث في زيمبابوي لأنه سيضيف قوتها إلى قوة جنوب أفريقيا في دعم إسرائيل.
وكان طبيعيًا أن نواجه فرنسا في ثورة الجزائر بعد اعتدائها علينا في 1956. وبريطانيا اشتركت أيضًا وكان طبيعي أن نواجهها في مستعمراتها. وحتى إثيوبيا كان بها قاعدة أمريكية.
لماذا لم يسر الرئيس السادات على طريق عبد الناصر في أفريقيا؟
كان اعتقاد الرئيس السادات أن 99% من اللعبة السياسية مع الغرب وأمريكا. وهو ما أحدث تحولا كبيرة في سياسة مصر تجاه أفريقيا. وقد كان منحدرا خطيرا انتهى بنا إلى “كامب ديفيد”.
تحولنا تدريجيا لتأييد القوى في الجهة المقابلة لقوى التحرير بأفريقيا. الحركة الشعبية لتحرير أنجولا كنا نؤيدها فإذا بنا نؤيد “سازيمبي” -العميل الأجنبي هناك- وفي منظمة الوحدة الأفريقية كان يتم تمرير قرارات معاكسة. وأعلن “السادات” بنفسه أنه سيحارب الشيوعية، وبدا أن الانتماء تحول لطريق القوى الرجعية. وهو ما أهدر سمعة مصر وأظهرها كـ”مدمر لحركة التحرير”. ثم جاء مبارك بعد السادات ليهمل أفريقيا تماما.
هل لحركات الإسلام السياسي تأثير في أفريقيا؟
لا توجد دول أفريقية تستجيب لهذه الحركات. لا يوجد نفوذ لهذه التيارات باستثناء السودان والصومال وشرق أفريقيا -تنزينا وكينيا- لكن نيجيريا مثلا لا تتصرف كدولة إسلامية. بعض الجماعات مثل “بوكو حرام” والحركات الإرهابية في غرب أفريقيا كلها تدعم من الغرب بهدف بيع السلاح الغربي والسيطرة على مناجم الذهب والثروات الحيوية لتنقل للغرب مقابل السلاح. مصلحة الغرب أن تظل هذه الجماعات رغم الزعم الهائل بأنها ترفض العنف.
فالنزاع المتواصل في ليبيا الآن أيضا بغرض ترويج تجارة السلاح من أجل حمله لكل الأطراف. للجيش وبقية الأطراف المتصارعة بالداخل الليبي.
هل تتفق مع أن العالم يذهب إلى نظام تعدد الأقطاب وإنهاء الهيمنة الأمريكية على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية؟
بالعكس القطبية ستزداد. لأن الروس مصممون على الحضور القوي في أوكرانيا. والغرب يسلح كييف تسليحا غير عادي. والصين تركز على التعاطف من الناحية السياسية وعلى التجارة أكثر من أي شيء آخر. فهم يحصلون على نفوذ كبير في كل أنحاء العالم وليسوا في حاجة للانحياز إلى قوة سياسية أو عسكرية كروسيا.
إلى شأننا المحلي الأبرز نعود.. كيف تقيم الدعوة للحوار الوطني التي أطلقها الرئيس السيسي؟
الدعوة في حد ذاتها جيدة لكنها مرهونة بنتائج الحوار وليس مجرد سماع الآراء. فعلى النظام أن يُظهر إخلاصه بقدر الاستجابة للقوى السياسية الفعلية. فنحن نحتاج إلى تحديد أين يصب الحوار. ولا بد من رؤية آثار هذا الحوار على أرض الواقع وتحديد المسائل ودراسة المقترحات وترجمتها فعليا.
أيضا مطلوب الإعداد الجيد للحوار بتمثيل كل التيارات والقوى وإنهاء حالة الحبس الاحتياطي وإطلاق سجناء الرأي. فحالة التدرج في الحريات غير مفهومة. وصدق النيّات يثبته إطلاق الحريات وفتح مجالات العمل السياسي. فهؤلاء الذين تم حبسهم بناء على موقف سياسي لا بد من خروجهم وفتح قنوات لهم للتعبير عن أنفسهم وآرائهم. ونحن لدينا مجتمع مدني مؤسساته منتظمة في عملها. لكن المناخ الديمقراطي غير متاح لها.
نريد أن يهتم الحوار الوطني بتوضيح توجهات الدولة في بعض القضايا. مثلا في قطاع الأعمال العام هناك ضبابية في علاقته بالقطاع الخاص. والاقتصاد الحر ما حدوده الممنوحة الجديدة،؟ وأتساءل: هل سيتركوننا لغيلان التجار والاحتكار؟. نحتاج إلى وعي بعملية الإصلاح ومتطلباته ولدينا الخبرة المصرية المتميزة والقادرة على ذلك. فقط مطلوب توفير الأجواء المجتمعية وتنظيم الشعب في مؤسسات ورفع القبضة الأمنية غير المبررة. لا بد أن نعيش حقائق لا وعود. نريد وضع الثروة في مشاريع لها عائد بعيدا عن المشروعات “المظهرية”. وللأسف هناك مشاريع بها خطورة ولا يمكن التراجع عنها حال تنفيذها.