ما بين الحقيقة والخرافة مساحات تحمل ظلا من الحقيقة وظلا من الخرافة، أما أن يكون التاريخ والتراث الوطني بين الحقيقة والخرافة فهذا يعني أن مكونا رئيسيا من مكونات الشخصية الوطنية المصرية به خلل يحتاج إلى علاج، وإلا سنصبح نحن من نفتح له الطريق لاختراق هذه الشخصية والصورة الذهنية للوطن من باب واسع.

أول الخرافات التي تتردد بصورة مستمرة هي قضية: من بنى الأهرامات العجيبة الوحيدة الباقية من عجائب العالم القديم؟ وفي حقيقة الأمر إنه يجري عرضها عرضا في المناهج الدراسية المدرسية في حين أن الطلاب في المدارس حول العالم يعرفون مصر القديمة، مصر الفراعنة، بعمق أكثر من أطفال مصر، في حين أن مصر لديها 105 هرم تقريبا، لو سألت أي مصري عنها ستجد إجابات ليس لها علاقة بالعلم. وهو ما يعني أيضا أن علم المصريات الذي هو علم يدرس مصر القديمة بحضارتها علم قائم إلى الآن على أكتاف مدارس غربية، خاصة في ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا، ومن اليابان للأمريكتين لا توجد جامعة في العالم لا تدرس هذا العلم، السؤال: أين موقع هذا العلم في مصر؟

في حقيقة الأمر لدينا علماء من أجيال متتابعه من علماء المصريات المصريين شباب وكبار، لكن أحد أهم ما يؤخذ عليهم هو نشرهم أبحاثهم بلغات أجنبية خاصة الأبحاث المتميزة، لدرجة أن معرفة المصريين بالتطورات الجديدة في تدوين المعرفة عن مصر الفرعونية تكاد تكون محدودة، بل حتى محاولات بعض المصريين لتمصير علم المصريات لم تنجح، ومن ذلك جهود الراحل العظيم الدكتور عبد العزيز صالح، فهذه المحاولة لم تلق أي اهتمام على المستويات الرسمية والأكاديمية فماتت مع موت صاحبها الذي لم ينشر من موسوعته الحضارة في مصر القديمة غير المجلد الأول، بل حتى أسرته لم تكن حريصه علي نشر الأجزاء التالية.

فشل الدكتور عبد العزيز صالح ألقى بظلاله على علماء المصريات، بل نجد اهتماما بموسوعة الدكتور سليم حسن التي تقادم عليها الزمن في طبعات رسمية دون أن يدرك القائمون على نشرها أن ما بها من معلومات صار من الماضي، الإعلام المصري يتجاهل النابغين منهم إلا إذا أصبحوا من ذوي السلطة، من يعرف الدكتورة فايزة هيكل أعظم عالمة في المصريات في مصر وأكثر العلماء المصريين شهرة خارج مصر؟ بل من يعرف الدكتور خالد داود الذي قدم نصوصا جديدة ودراسات أعادة كتابة المرحلة الانتقالية بين الدولة القديمة والدولة الوسطي؟ أو الدكتور محمد شريف المتخصص في اللغة المصرية القديمة وهو نابغة فيها؟ والدكتور طارق العوضي الذي درس تفصيلا مكونات المجموعة الهرمية كاشفا الجديد حولها؟.. من ناحية أخرى لا يجري تعريب ما ينشر بلغات أجنبية عن الجديد في علم المصريات، فصار علم المصريات غريبا في وطنه يحتاج إلى من يعيد اكتشافه وتقديمه من جديد حتى نعيد تكوين الشخصية المصرية، ولولا جهود المركز القومي للترجمة الذي ترجم العديد من الكتب المهمة في علم المصريات خاصة من اللغتين الإنجليزية والفرنسية لظلت الفجوة كبيرة إلى حد لا يمكن ردمه، فإذا أردنا أن نعيد الاعتبار لهذا العلم لابد أن نؤمن أننا أصحابه وأن قصب السبق والتفوق لابد أن يكون لنا، وإلا سيظل فرعون موسى الظالم هو المهيمن على عقول المصريين ظالمين أجدادنا الذين قدموا الكثير للعالم في: الفلك، الرياضيات، الطب، العمارة، الفنون، الفلسفة وغيرها.

إن جهلنا ببعض هو سر من الأسرار التي يعيق معرفة المصريين بمصر، فتاريخنا طبقات متراكمة متجذرة وشخصيتنا المعاصرة إذا لم ترث هذا التراكم بصورة سليمة، فستكون الهوة بيننا واسعة، فمن منا يعرف أن العرب سكنوا مصر بكثافة قبل الفتح العربي وتجاوز دورهم التجارة إلى الزراعة واستقروا بكثافة بمناطق مختلفة مثل الصعيد وتركزوا في الفيوم؟ هذا ليس محض كلام بل أطروحات علمية عبر وثائق، هذا ما يقدم تفسيرا واضحا حول نجاح جيش عمرو بن العاص في دخول مصر بعدده المحدود، بل وتحول هؤلاء العرب من المسيحية إلى الإسلام، وهو ما يجيب على ترسخ الوجود العربي في مصر، على جانب آخر ما زلنا نحن المصريين في حياتنا موروث من حضارة قدماء المصريين في الطعام كالفول المدمس والبصارة والخبز.. وفي الأمثلة التي يستخدمها الناس والشهور القبطية لدي الفلاح المصري، بل إن علم القبطيات الذي يدرس آثار وتاريخ المسيحية في مصر يقدم لنا تفاعلا لحضارة عبر العصور وكيف كانت الكنيسة المصرية هي رمز المقاومة والاستقلال عن الاحتلال الروماني والبيزنطي، فشهداء مصر من الأقباط رموز وطنية يجب تخليدها لأن إيمانهم العميق وحبهم لوطنهم جعلهم رمزا للفداء والتضحية، فماذا يعرف المصريون عن هذا التاريخ الوطني، من هنا تجيء أهمية تاريخ وتراث الكنيسة المصرية والأديرة التي كان للمصريين دور في تأسيس وجودها حتى صارت مثلا يحتذي به في العالم.

إن العديد من علماء القبطيات المصريين ليسوا من نجوم الإعلام المصري، هذا ما يعكس مكانة القبطيات في اهتمام المصريين رسميا وشعبيا، في حين أن العديد منهم يجوب العالم يحاضر في جامعات ومراكز بحثية، ومن أشهرهم يوحنا نسيم يوسف الذي يعمل في الجامعة الكاثوليكية في استراليا، ومن جهوده نشره كتاب بالعربية عنوانه (مقدمة في علوم الدراسات القبطية)، والعالم الآخر مسلم هو الدكتور ماهر عيسي، الذي يعمل في جامعة الفيوم لكنه الآن في أوروبا يجري أبحاثه ويحاضر في جامعات أوربية، على جانب آخر فإن الحقبة البطلمية في تاريخ مصر جرى دمجها في تاريخ الاحتلال الروماني البيزنطي، في حين أن البطالمة كانوا مصريين أسسوا دولة عظيمة كان عنوانها مكتبة الإسكندرية أول مؤسسة تفصل العلم المدني عن الدين، فخرج العلم من المعابد إلى الناس ليتطور تطورا مذهلا، لذا إذا اعتبرنا أن الحقبة البطلمية حقبة احتلال فلما نعتز بما أنجزه المحتل، إن الرواية الأوربية للتاريخ ستعتبر هذا انجازا لها وليس انجازا لمصر.

إن كل ما سبق يشير إلى مشكلات في عمق تكوين الشخصية المصرية عبر إدراك التراكم الزمني، ما يعني أننا في حاجة لمعالجات على مستويات متعددة.

هذا إذا تم علاجه فسيتحول الأطفال والشباب المصريين على شبكات التواصل الاجتماعي إلى الدعاية لبلد هم مدركين لتراثه وتاريخه ليكونوا فاعلين في حب الوطن وخدمته، لكن هذا يتطلب أيضا إعادة النظر في الصورة الذهنية للوطن بصورة شاملة، فالقمامة في الشوارع، والمدن القبيحة، والإعلانات بلغات أجنبية، والمباني قبيحة المعمار، وعدم انتظام حركة السيارات والمرور، والشوارع التي جرى تكسيرها وتركها بغرض ما، كل هذا يولد صور سلبية متتابعه للوطن في مخيلة المصريين فما بالك بالصورة الذهنية لمصر في أعين زوارها؟.

كما أن توظيف التراث يمكن أن يدر عوائد كبيرة تتجاوز فكرة رسوم الزيارة، فاقتصاديات التراث والثقافة جزء مهم من من اقتصاديات العديد من الدول.. انظر لدولة مثل إيران التي تصدر على الأقل سنويا من منتجات الحرف التقليدية التراثية ما لا يقل عن 2 مليار دولار، أو حتى المغرب التي نجحت في أن تجعل المطبخ المغربي مطبخا يغزو العالم ويوفر آلاف من فرص العمل لشبابها، في حين أننا لم نستثمر في المطبخ المصري، حتى إن أصنافا من الخبز المصري (300 صنف) تكاد تختفي، وهو تراث يجب أن يجري إحياؤه وتوثيقه، تراث نعم، وهو تراث يمكن أن يوظف لتعزيز اعتزاز المصريين بوطنهم وفي الوقت نفسه يعزز اقتصادهم وصادراتهم.. من هنا، فإن النظر إلى التراث والثقافة باعتبارهما عبئا على الموازنة العامة أمر بات في حاجة لمراجعة.

للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا