التحديث -في التجربة المصرية- هو رخصة سمحت للدولة بأمرين: أولهما فرم الشعب في الداخل، وثانيهما الخضوع بأشكال مختلفة لنفوذ إمبراطوريات من الخارج.

سمح التحديث للسلطة بإخضاع الشعب والتحكم فيه والسيطرة عليه بصورة غير مسبوقة، ولم يكن لها وجود بهذا القدر من الحدة والإحكام والدقة والكثافة في عصور ما قبل الحداثة، وبهذا المعنى فإن الحداثة -في الحالة المصرية- جاءت بمقادير إضافية من القهر الشرعي بدل أن تسمح بمقادير زيادة من الحريات العامة والخاصة.

كذلك، برر التحديث خضوع الدولة الحديثة ثلاثة أرباع قرن لنفوذ الامبراطورية الفرنسية، ثم خضعت ثلاثة أرباع قرن مماثلة لنفوذ ثم احتلال الإمبراطورية البريطانية، ثم خضعت ثلاثة أرباع قرن أخرى للإمبراطورية الأمريكية.

وما تزال الدولة الحديثة رهينة هذا التناقض العنيف: قوية متحكمة مسيطرة مطلوقة اليدين والأظافر والأنياب في الداخل، ثم عاجزة قليلة الحيلة مكتوفة اليدين أمام سطوة الخارج.

الحداثة الأوروبية نزعت قداسة الحكام ثم أخضعتهم للنقد والمحاسبة والمحاكمة، وألغت الاعتراف بالتفويض الإلهي وأحلت مكانه العقد الاجتماعي، وترجمت العقد الاجتماعي في الدستور والقانون، وساوت بين الحاكم والمحكوم في الخضوع لحكم العدالة، وأسست لمفهوم المواطن مالك الوطن وسيده وصاحب الحق فيه بدل مفهوم الرعية الذي لم يكن للناس فيه من حق غير واجب الطاعة مقابل الإعاشة، ثم اجتهدت ومازالت تجتهد في مكافحة تراث التمييز بين مواطنيها فيما يتمتعون به من فرص الحياة فتكافح كل تمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الطبقة، قطعت في هذا الطريق أشواطا ومازال أمامها الكثير لتنجزه، باختصار شديد : تتقدم الحداثة الأوروبية صوف المزيد من الدولة في خدمة مواطنيها.

الحداثة المصرية -كانت ومازالت- تستهدف تعظيم الدولة وتقزيم المواطن ولا تمانع في فرمه ثم طحنه ثم عجنه ثم رميه في النار لعل الدولة تقتات به وتتغذى عليه وتمتص دمه وتمصمص عظمه.

لم يتوقف المصريون عن مكافحة هذا التحديث الظالم، من ثورتهم ضد المركب المملوكي – العثماني 1803- 1805م، إلى ثورتهم العظيمة تحت شعار “مصر للمصريين” ضد المزدوج الاستعماري الداخلي والخارجي فيما اشتهر بالثورة العرابية 1881- 1882م، ثم ثورتهم الأكثر تبلورا من أجل الاستقلال والدستور 1919م، ثم ثورتهم التي كانت ذروة كفاحهم الوطني قرنا ونصف قرن في 23 يوليو 1952م، ثم ثورتهم التي أعادوا بها حضورهم في التاريخ في 25 يناير 2011م واستفتحوا بها حقبة مستقبلية ربما تستغرق كفاحهم وتتواصل فيها أجيالهم حتى نهاية القرن الحالي أو مطلع القرن المقبل.

*****

الدكتورة زينب أبو المجد أستاذة تاريخ الشرق الأوسط في جامعة أوبرلين بالولايات المتحدة الأمريكية باحثة مصرية تخرجت من جامعة القاهرة وحصلت على الدكتوراه من جامعة جورج تاون في واشنطن، ولها كتاب ممتاز صدر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة عام 2018م بترجمة الأستاذ أحمد زكي عثمان، الكتاب – في أصله – كان موضوع رسالة الدكتوراه، وهو -في جوهره- تأريخ لتحولات السياسة والقوة والاجتماع في الصعيد وبالذات في إقليم قنا على مدى خمسمائة عام وما تتداول على البلاد عامة بما فيها الصعيد من إمبراطوريات أجنبية، اليونانية، ثم الرومانية، ثم الأموية، ثم العثمانية، ثم البريطانية.

في ص 24 من الكتاب تقول: “عشية ثورة 25 يناير 2011م، زرت صعيد مصر بهدف إجراء البحث الميداني الخاص بهذا الكتاب. وأثناء تجوالي في زراعات إحدى المدن الصغيرة في قنا، لفت نظري مبنى أسطواني ضخم فضي اللون، بدا نشازا في محيطه، وعندما تساءلت عن محتواه، عرفت أنه صومعة لتخزين القمح الممنوح من هيئة المعونة الأمريكية USAID، استطاعت غلال الولايات المتحدة الأمريكية أن تشق طريقها لتصل إلى أقصى جنوب مصر عبر هيئة مساعدة غذائية مثيرة للجدل، ينظر إليها الكثيرون على أنها أداة لسلطة الإمبراطورية، تؤسس لوضعية اعتماد مصر على الغلال الأمريكية، بشكل لا يمكن الاستغناء عنه. وعرفت أيضا خلال جولتي أن الولايات المتحدة أو تلك الإمبراطورية -غير الرسمية- التي تمد سطوتها على العالم عبر وسائل غير مباشرة للهيمنة تغنيها عن اللجوء إلى الاحتلال العسكري المباشر”.

ثم تتحدث عن الإمبراطورية الأمريكية بوصفها شكلا متطورا من أشكال الاستعمار الحديث الذي اخترق حتى قنا في أقصى جنوب مصر فتقول في ص 25: “وضعت أمريكا قدمها في قنا بأشكال أخرى عديدة، فخلال العشرين عاما التي سبقت اندلاع ثورة 25 يناير 2011م طبق الرئيس المخلوع حسني مبارك التعليمات الاقتصادية المعروفة باسم اجماع واشنطن Washington Consensus متبعا سياسات السوق الحرة على النمط الأمريكي، الذي يدعو الدولة للانسحاب من إدارة الاقتصاد وإطلاق اليد العليا فيه لأصحاب رأس المال الخاص”.

ثم تتحدث عن تطبيق الدولة المصرية لهذه السياسات الأمريكية فتقول في ص 25: “ألحقت هذه السياسات أضرارا فادحة لمزارعي قصب السكر في قنا، فمثلا ألغت الحكومة قوانين الإصلاح الزراعي التي سنها النظام الاشتراكي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وأحلت مكانها تشريعا جديدا يعيد حقوق الملكية الخاصة إلى الأرستقراطية القديمة، من دون وضع قيود على ما تفرضه من إيجار على الفلاحين، وبموجب نصوص القانون 96 لسنة 1992م طُرد الفلاحون المستأجرون من الأراضي التي أعادتها الدولة لمالكيها من العائلات الثرية إبان الحقبة الاستعمارية. وتنقل في هامش الصفحة ذاتها عن عالم الاقتصاد الأمريكي جوزيف ستيجلتز -وهو حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد- تنقل عنه قوله “إن الولايات المتحدة الأمريكية نشرت خرافة أن التنمية الاقتصادية يمكن أن تتحقق في العالم الثالث فقط عبر تطبيق سياسات السوق الحرة أو الليبرالية الجديدة”. ثم في هامش الصفحة ذاتها تشير كذلك إلى تقارير صدرت عن مركز الأرض لحقوق الإنسان تبين أثر تطبيق سياسات السوق على فلاحي قنا.

ثم تقول في ص :25 “حضرت الولايات المتحدة الأمريكية في الصعيد حضورا واضحا تحت حكم نظام مبارك الذي جرى إسقاطه لكنه كان حضورا بالغ الفشل، ولقد شكل هذا الفشل الذي منيت به الإمبراطورية غير الرسمية في مصر كلها جنوبا وشمالا السبب الرئيسي لاندلاع ثورة 25 يناير، فإصلاحات السوق الأمريكية أو الليبرالية الجديدة التي جرت الدعابة لها في العالم كله على أنها الوسيلة الناجعة الوحيدة لتحقيق التنمية الاقتصادية، لم تحرز أي نتائج إيجابية في صعيد مصر بعد مرور عشرين عاما على تطبيقها”.

ثم تقول في ص 26: “قبيل ثورة 25 يناير، انتشرت المظاهرات في الصعيد بوجه عام، وفي قنا على وجه الخصوص، ضد الإمبراطورية الفاشلة، وكانت محافظات الجنوب هي الأكثر تمردا بين أقاليم مصر على الحكومة المركزية في القاهرة، وعلى تطبيقها سياسات السوق الأمريكية المختلة”. انتهت الاقتباسات .

جدارة كل ما سبق اقتباسه عن الدكتورة زينب أبو المجد أنه يحدد موقع ثورة 25 يناير 2011م في الموقع ذاته الذي شغلته كل ثورات المصريين من زاوية أنها -كلها- تشترك في خاصيتين جامعتين: مواجهة الشعب مع فساد الحكام واستبدادهم في الداخل، ثم تواطؤ الحكام مع المستعمرين في الخارج مهما اختلف شكل الاستعمار ومصدره، وذلك باعتبار ما يسمى الدولة الحديثة كانت ومازالت آلة لفرم الشعب في الداخل وللخضوع للأجنبي في الخارج .

وهذا يفسر الطريقة التي تعاملت بها الإدارة الأمريكية مع مصير الرئيس المخلوع حسني مبارك حين طالب الشعب برحيله، تصرفت الإدارة الأمريكية كسلطة إمبراطورية عليا، وتعاملت معه كأنه مجرد والي محلي، وسعت إلى كسب الشعب، وحافظت على دورها في هندسة مرحلة ما بعد خلع مبارك، وهى هندسة فاشلة انتهت بانحراف الثورة من شعبية إلى دينية ثم تقع البلاد في قبضة الثورة المضادة ثم تؤول إلى الديكتاتورية من جديد .

*****

الاستعمار الجديد أو الكولونيالية الجديدة Neo -Colonialism يعود إلى نكوامي نكروما 1909 – 1972م، وهو مثقف ومفكر وأب مؤسس من آباء التحرر والاستقلال الأفريقي، وأول رئيس منتخب لدولة غانا بعد استقلالها، وله دور بارز في تأسيس الاتحاد الأفريقي أو منظمة الوحدة الأفريقية كما كانت تعرف حتى عام 2002م، فقد أصدر في عام 1965م كتابه الأشهر ” الكولونيالية الجديدة: المرحلة الأخيرة للإمبريالية”، وهو تطوير لكتاب فلاديمير لينين 1870 – 1924م “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية “.

في ص 254 من كتاب “دراسات ما بعد الكولونيالية: المفاهيم الأساسية” تأليف جماعي وترجمة جماعية صادر عن المركز القومي للترجمة عام 2010م ورد ما يلي عن كوامي نكروما ومصطلح الاستعمار الجديد: “على الرغم من تحقيق دولة مثل غانا الاستفلال النظري فإن بقايا القوى الاستعمارية السابقة والقوى العظمى الجديدة الصاعدة على المشهد العالمي مثل الولايات المتحدة الأمريكية ظلت تلعب دورا حاسما في مصائر هذه الدول -يقصد الدول التي حصلت على استقلالها النظري عن الاستعمار القديم- عن طريق تثبيت الأسعار في الأسواق العالمية، وعن طريق الشركات متعددة الجنسيات، وعن طريق الاتحادات الاحتكارية، وعن طريق تنويعة من المؤسسات التعليمية والثقافية”.

ثم يقول مؤلفو الكتاب: “والواقع أن نكروما قال بأن الكولونيالية الجديدة أكثر دهاءً وأبرع تخفيا وأصعب في الكشف عنها أو تحديد معالمها أو مقاومتها من الكولونيالية الصريحة الأقدم، يقصدون الاستعمار القديم .

في مصر الحديثة الوضع الاستعماري له خصوصية، فقد تداول عليها أشكال مختلفة من الاستعمار القديم والحديث في القرن التاسع عشر ذاته، فقد بدأت فرنسا باستعمار صريح تمثل في غزوة نابليون بونابرت ثم جربت الاستعمار المقنع أو الحديث أو المستتر منذ وقت مبكر جدا، فقد وقفت فرنسا وراء نموذج الاستعمار العائلي الذي كان يمثله محمد علي باشا وأنجاله وأحفاده حتى وقع الغزو البريطاني بموافقة الحكام من السلالة ذاتها .

وبعكس فرنسا كانت بريطانيا، فإذا كانت فرنسا جربت الاستعمار المسلح ثم الاستعمار المقنع، فإن بريطانيا بدأ بالعكس، بدأت بالاستعمار المدني عبر التجارة وإقامة السكك الحديد وخطوط البريد ثم ختمت بالاستعمار المسلح، أما أمريكا فهي حاضرة بالتبشير والتعليم من منتصف القرن التاسع عشر ثم فازت بالنصيب الأكبر من النفوذ الاستعماري غير المباشر منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية في العقد الخامس من القرن العشرين .

كما أن الدولة الحديثة ذاتها كان لها -في بعض المراحل- مصلحة وجودية في الاستعمار على أي شكل كان، فلم يكن لمشروع استعمار عائلي مثل مشروع محمد علي باشا أن يمر دون دعم من فرنسا الاستعمارية من بونابرت إلى لويس الثامن عشر إلى شارل العاشر إلى لويس فيليب، كذلك لم يكن لهذه السلالة الاستعمارية أن تستمر في حكم مصر بعد أن قادها الخديوي إسماعيل في ستة عشر عاما إلى الإفلاس الكامل ثم الوصاية الأجنبية ثم لتنفجر في الثورة ثم لتخضع للغزو البريطاني المسلح بدعوة من نجله الأكبر الخديوي توفيق ثم ليكون الإنجليز في لندن هم السلطنة العليا الذين يتولون تعيين الولاة من حكام مصر من سلالة محمد علي باشا .

الوحيد الذي تولى الحكم بإرادة الشعب – على مدى قرن ونصف – هو محمد علي باشا نفسه فقط، وكل من حكم بعده من أنجاله وأحفاده حكموا في إطار بنية استعمارية أوروبية بدأت اتفاقية لندن 1840 – 1841م والتي خصصت حكم مصر كضيعة يتوارثها سلالة الباشا وكان مهندسها لورد بالمرستون وزير خارجية ثم رئيس وزراء بريطانيا وواحد من عتاة العقليات الاستعمارية في القرن التاسع عشر، فقد كانت بريطانيا ذات شأن في اختيار من يحكم مصر حتى قبل غزوها المسلح لمصر .

هذا الميراث الاستعماري، في اختيار من يحكم مصر، مستقر بصورة مزمنة في جينات الدولة الحديثة بدءا من وقوف بونابرت وراء المؤسس إلى عزل إسماعيل إلى تولية توفيق ومن عزل عباس حلمي الثاني وتولية حسين كامل ثم تولية فؤاد وعزل فاروق بالتوافق بين الاستعمار البريطاني القديم والاستعمار الأمريكي الجديد لإفساح الطريق لحركة الجيش في 23 يوليو 1952م بالتراضي بينهما باعتبارها شأنا داخليا محضا لا يجوز لهما ولا لغيرهما التدخل فيه، وتأسيسا على هذا التوافق بين الاستعمارين تم الإجهاز على الحكم الملكي وإعلان الحكم الجمهوري .

*****

نشأة الدولة الحديثة على مقربة من الظاهرة الاستعمارية -المسلحة منها أو غير المسلحة- تفسر حقيقة أن الدولة الحديثة في كل عهودها ترتبط بالشعب عبر علاقة تسلط مشروط بالقوة وليس عبر علاقة تعاقد اجتماعي مشروط بالدستور والقانون كما كانت نشأة الدولة الحديثة في أوروبا .

*****

وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.