ماذا يعني أن تكون لك اليد العليا في الثقافة العربية لعقود إلى درجة أن يقال إن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ، الآن صارت هذه المقولة محل تساؤلات ومحل مراجعة؟
لماذا تراجعت قوة مصر الثقافية؟ هذا سؤال تجب الإجابة عنه بصراحة، إذ المصارحة هي باب معالجة المشكلات الناجمة عن سنوات من التراجع، المثل الذي يمكن استخدامه في هذا المجال هو حركة النشر والكتاب، فهل تراجع النشر في مصر؟.. بلغ عدد الكتب المنشورة في مصر عام 2019 أكثر من 19 ألف كتاب وهو رقم قياسي في تاريخ النشر في البلاد، لكن السؤال: ما هو موقع مصر في حركة النشر العربية؟ كانت مصر تمثل نصف ما ينشر في الوطن العربي، لكن الآن هي تنتج أقل من ثلث ما ينشر في الوطن العربي، وهذا يمثل تراجعا، إذ إنه كان من المفترض أن يكون عدد الكتب المنشوره حوالي 35 ألف كتاب، فالفارق بين الرقمين هو ما يؤشر على تراجع حركة النشر في مصر عن الواقع الذي يجب أن تكون عليه.
إذا ما نظرنا إلى الواقع العربي سنجد أن العراق استعاد عافيته الثقافية، إذ نشر في عام 2019 ما يقرب من 8400 كتاب، في حين نشرت السعودية في 2019 ما يقرب من 8200 كتاب، لكن أيضا المغرب صعد عدد الكتب المنشور عنده إلى 6000 كتاب بعد أن كانت تنتج 2400 كتاب سنويا بفضل برنامج غير مسبوق للنشر ضاعف من حجم الكتب المطبوعة ومن صادرات المغرب من الكتب حتى زاحمت مصر في تصدير الكتاب إلى أفريقيا بعد مزاحمة السعودية لمصر في هذا السوق منذ العقد الثامن في القرن العشرين، في حين أن مصر كانت تحتكر هذا السوق لعقود، فمصر التي قدمت آلاف العناوين في الدراسات العربية والإسلامية عبر سنوات، وقدمت أسماء في هذه المجالات صارت أعلاما في العالم الإسلامي، بات عرشها في هذه المجالات مهددا لأسباب يطول شرحها، الآن تأخذ ماليزيا وأندونيسيا وتركيا مساحات متتالية من مصر في هذه المجالات، وهو ما ينبئ أن مصر تفقد جانبا هاما من قوتها الناعمة تدريجيا، العلامة الظاهرة للعيان في هذا قراء القرآن الكريم، فالأصوات المصرية تراجعت أمام أصوات من السعودية ومن جنوب شرق أسيا حتي من أفريقيا، هنا القوة الناعمة صناعة متكاملة وليست حدثا عارضا أو شيئا يجيء بالصدفة، بل عبر منهجية متكاملة الأركان تقوم على اكتشاف المواهب في تخصصات مختلفة، تقدم إبداعا يتسم بالإتقان والتجديد المستمر، انظر للسيدة أم كلثوم حين غنت لشعراء عرب مثل: الأمير عبد الله الفيصل، والشاعر السوداني الهادي آدم، والشاعر اللبناني جورج جرداق، هذا التنوع أضاف لأم كلثوم ولمصر الكثير، كانت مصر جاذبة وهي تحتاج أن تكون جاذبة في المستقبل.
ما هي نقاط قوة مصر التي يمكن البناء عليها، تعد المؤسسات المصرية عامة وخاصة ومجتمع مدني هي القوة الكامنة التي يجب التركيز عليها على أن تعمل في إطار متكامل وفق رؤية استراتيجية، إن لدينا قوة كامنة تحتاج إلى تجديد في سبل الإدارة وأدوات العمل، مثل الجمعية الجغرافية المصرية التي هي حبيسة أسوار مجلس الشيوخ، وهي تحتاج إلى صيانة مبناها التراثي ومتاحفها، فهي تمتلك متحفين فريدين أحدهما للعادات والتقاليد الشعبية ومتحفا للفن الأفريقي.. فهل تعرف عزيزي القارئ أن في القاهرة متحفا فريدا بمقتنياته للفن الأفريقي، زيارته لابد أن تمر عبر أسوار وحواجز ثم نتحدث عن حاجتنا لأفريقيا فماذا لو أعطينا الأفارقة بتراثهم متحفا ومزارا للدعاية للفنون الأفريقية؟.
كما أن الجمود الذي يغلف المؤسسات الثقافية في مصر يمثل إشكالية يجب حلها بصورة جذرية، إذ إن العديد من هذه المؤسسات صارت تقوم على التكنوقراط التقليديين يصاحبهم رؤى تقليدية دون تفكير خارج الصندوق، لم نستفد حتى من تجاربنا التاريخية، فبعد ثورة 1919 حين استقلت مصر نسبيا، استضافت عددا من المؤتمرات الدولية المتميز فكان المؤتمر الجغرافي الدولي الذي يعقد لأول مرة في أفريقيا، ومؤتمر البريد الدولي الذي كان لأول مرة يعقد في أفريقيا، لذا الآن ما هي الطرق الجديدة التي يجب اتباعها لكي تعطي مصر حيوية ثقافية وقوة ناعمة تخدم سياستها الخارجية وتعظم من اقتصادها، هنا النظرة للثقافة ليس على أنها عبء على الموازنة العامة، بل رافد من روافد الموازنة العامة، هذا ما يقتضي إدخال مفهوم اقتصاديات الثقافة في إدارة الشأن الثقافي العام، فمثلا هناك مؤسسات مصرية تنتج عبر الحرف التقليدية منتجات تذهب للمخازن، كما أن الموسيقي والغناء المصري عبر المنصات الرقمية ممكن أن يحقق موارد ضخمة وكذلك الكتب الرقمية عبر منصات رقمية، الإشكالية التي ستواجه مصر هو أن الإنتاج الثقافي والمعرفي والعلمي يأتي في الفضاء الرقمي عبر الإنتاج الجماعي وعبر برامج، وهو أمر غير معتاد في العمل الثقافي والمعرفي والعلمي في مصر، هذا ما كان تنبأ به الدكتور إدوارد سعيد بانتهاء عصر المثقف الفرد في محاضرات ألقاها في الإذاعة البريطانية، لكن هذا لا ينفي أن المثقف الفرد والمبدع سيكون له دوره الهام، ولذا لابد من برامج لدعم واكتشاف هؤلاء والاستثمار فيهم، وهؤلاء سيكونون من الآن فصاعدا غالبيتهم خارج العاصمة القاهرة، فهي لن تكون مستقبلا مركز الثقافة والإبداع ونجوم الفكر والثقافة في ظل امكانيات ضخمة في الفضاء الرقمي كسرت حاجز المكان والزمان، وأكبر مؤشر على ذلك فوز الأديب فتحي عبد السميع في عام 2016 بجائزة الدولة التشجيعية وهو يعيش في الصعيد، وفوز الدكتور والشاعر محمد أبوالفضل بدران بجائزة الدولة التقديرية في عام 2022 وهو يعيش في الصعيد، هذا كله يؤشر إلى وجود حراك ثقافي غير مشاهد في العاصمة، وعلى الصعيد الرسمي المصري، فالمترجم الشاب الدكتور أحمد سالم فاز بجائزة في الترجمة وترجم كتبا مهمة وهو مجهول في القاهرة، ولذا ستشاهد في السنوات القادمة نجوم في سماء الإبداع من خارج مركزية القاهرة الثقافية وسيكونون هم أصحاب الجماهيرية، ولذا إذا لم تفتح مصر أفق الحياة الثقافية سيكون لدينا مثقفون على صعيد الإعلام القاهري، ومثقفون أكثر شهره وتأثيرا خارج هذا السياق.
ماذا سيكون علينا أن نفعل؟
في مصر العديد من الأنشطة التي تستحق الاهتمام، فمهرجان الطبول الدولي الذي ينظم سنويا يلقى نجاحا، لكن على صعيد الاستثمار الثقافي والإعلامي له، لا يقابل بذات القدر، من هنا فان التكامل بين الجميع هو الهدف لخدمة الوطن، فالقادم ليس ثقافة وعلم بل الإدارة بالمعرفة للقدرات الإبداعية في كافة المجالات، هذا ما يقتضي طرح نقاش عام حول السياسات الثقافية لمصر في السنوات القادمة.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا