حين نتحدث عن مهرجاناتنا الفنية تغيب مقومات مهمة أولها كيفية إدارة المهرجان بطريقة احترافية تعود بالنفع على القيم الفنية والاقتصادية. إذ تتم إقامة المهرجانات سنويا في بلادنا ولم يعد ينتظر الجمهور إلا تغطيات متدنية تخرج الحدث عن مساره. سواء من بعض وسائل الإعلام التي تتبنى نهجا يدغدغ مشاعر الجمهور العام في تغطياتها. أو من بعض شرائح المدونين الذين يحضرون اللقاءات لنقل كواليس مهينة مبتورة من سياقها دون مراجعة من إدارة المهرجان. ما يفقد الحدث صورته الذهنية وقيمته المعنوية والثقافية.
وينعكس ذلك بالطبع على الصدى الاقتصادي لأي مهرجان. فالتسويق الهابط للمحتوى والأثر السلبي له لا يعطي أي ميزة في التفاوض على تسويقه لاحقا لتحقيق إيرادات كبيرة من بيع حقوق البث وصفقات الرعاية والتسويق كما يحدث في كل بلدان العالم.
في مصر.. كل شيء صعب
“في مصر كل شيء صعب”. تقولها ماجدة خير الله -الناقدة السينمائية- وتضيف أن المهرجانات كثيرة في مصر لكن هناك أزمة في الإدارة. ويشترك في ذلك المهرجانات التي تقام برعاية الدولة أو المهرجانات الخاصة. حتى لو حقق بعضها شهرة ونجاحات كبرى مثل مهرجات الجونة.
“خير الله” تعتبر أن نجاح مهرجان الجونة على مدار ما يقرب من 6 أعوام جاء لأنه يملك كل عناصر ومقومات النجاح. لكن في الوقت نفسه أخطأ بشدة عندما منح تغطية المهرجان لإحدى القنوات الفضائية لمجرد أن تقوم بتغطية حفل الافتتاح والختام فقط. أما أنشطة المهرجان من ندوات ومناقشات أفلام فلا أحد يعلم عنها شيئا. ما أعطى انطباعات للجمهور غير المتخصص بأن المهرجان عبارة عن سيدات يرتدين فساتين مثيرة على “الريد كاربت” وكفى.
وتضيف “خير الله”: “حتى المذيعات اللاتي خصصتهن القنوات المعنية بالتغطية أغلبهن ثقافتهن محدودة للغاية. لهذا تتمحور أسئلتهن للنجوم في البحث عن صانع الفساتين والمكياج”.
مشكلة أخرى بمهرجاناتنا -حسب “خير الله- تتخلص في المدعوين من النجوم محدودي الثقافة الذين يتفرغ بعضهم للهجوم على أفلام حصلت على جوائز في مهرجانات عالمية أمام شاشات التليفزيون. وتنقل ذلك القناة صاحبة البث للناس. وهي مشكلة كبرى. فبدلا من احترام التجربة وتأملها ومناقشتها نشوهها ونجرّمها.
وتوضح أن “من يتم استضافتهم لا يحرصون على مشاهدة الأفلام أصلا أو المشاركة بشكل إيجابي. فالرحلة إلى المهرجان بالنسبة لهم عبارة عن مصيف بالمجان. ولهذا يعطي بعضهم انطباعات كارثية عن محتوى المهرجان. وبالطبع ينعكس ذلك على ردود الفعل. فإذا كان المدعوون يهاجمون المحتوى ويعتبرون بعضه ضد بلدهم فما الذي يدفعهم لمتابعته؟!”.
روشتة إصلاح.. الأسئلة المنطقية لصناع المهرجانات
تضع الناقدة السينمائية روشتة إصلاح تراها تبدأ من وضع الأسئلة المنطقية لكل صناع المهرجانات. إذ يجب عليهم معرفة مَن المستفيد من المهرجان؟ ومَن سيساعد في إطلاع الناس على ما يتم تقديمه فيه.
وترى أن هذه الأسئلة ستجيب عن كل الإشكاليات التي تعوق تقديم المهرجان بشكل جيد بما ينعكس على أثره الاقتصادي.
وتوضح: “حتى الصحافة التي يجب استقدامها يجب أن تخضع لمعايير صارمة. فاختيار الصحفي الذي يتم السماح له بالتغطية يجب أن يكون بناء على تاريخه المهني ومعرفته بخصوصية المهرجان وأهدافه. حتى لا نجد التغطية سطحية وتضيء على جوانب لا علاقة لها بالأهداف الموضوعة رغم توافر كل المميزات الممكنة من إقامة مجانية وتذاكر سفر إلى آخره.
وتقارن “خير الله” ما يحدث في مصر بالخارج. إذ يوجد في المهرجانات ما يقرب من 5 آلاف فرد يمثلون كل وسائل الإعلام بمستوياتها بين نقاد وصحفيين ومصورين وغيرهم. لكن الفارق أن هؤلاء تتولاهم مؤسساتهم وهي التي تصرف عليهم وتتحمل فاتورة وجودهم بالمهرجان. وبالتالي يعمل الصحفي المستحيل لإنتاج مواد شاملة وقيمة حسب اتجاهات المؤسسة ويقدم مقابل لما صرف عليه.
وتضيف: “لا يتوقف دور الصحفي أو الإعلامي عند هذا الحد. بل تراجع إدارات المهرجانات ما ينشر أو يذاع وتقيمه جيدًا لتعرف إن كان يجب السماح للصحفي أو الإعلامي بالحضور مرة أخرى أم لا. والقضية هنا ليست في نشر آراء مؤيدة أو معارضة. بل في مدى معرفة الصحفي العميقة والطريقة التي يصوغ بها المواد بما ينعكس على قيمة المهرجان وصداه لدى الجمهور.
ترى “خير الله” ضرورة إصلاح هذه الاوضاع وخلق أثر اقتصادي للمهرجانات بداية من الاهتمام بالجمهور. فدون جمهور ليس لأي مهرجان قيمة. مضيفة: “الـ200 شخص القادمين في الطائرة ليسوا الجمهور المستهدف. بل أهل المنطقة التي يقام فيها المهرجان. أو من يحرصون على القدوم خصيصا له على نفقتهم الخاصة”.
وأشارت إلى أن مهرجان مثل الجونة كان المصيفون والزائرون للمدينة وعشاقها يحرصون خلال هذه الأوقات على الحضور. وبعضهم كان يضبط وقته على أيام المهرجان للحصول على جرعة متعة. وبالتالي يجب معرفة الجمهور المستهدف أولا.
أبناء المهنة ودارسو الفنون
ترى الناقدة السينمائية أن هناك أيضا أهمية كبرى أيضا لاستهداف الشرائح الأكثر اهتماما بمحتوى المهرجان من دارسي الفنون بأنواعها. ويمكن تقديم تذاكر مخفضة لهم لأنهم أكثر من سيهتم بمشاهدة أفلام من الشرق والغرب. كما يجب استضافة صناع السينما “الجادين” والاستغناء عن فكرة إحضار النجوم لأشخاصهم فقط. فمهرجان “كان” مثالا لا يستضيف من النجوم إلا من له أفلام مشاركة فقط أو المشاركين في لجان التحكيم أو نشاط ما بالمهرجان.
وتختتم مؤكدة أهمية اختيار رعاة على علاقة بالفن وإقامة المهرجانات للمساعدة في إنجاحها وتجنب الخسائر الضخمة سنويا.
فمهما كانت لديك ميزانية ودعم فمع الخسائر المستمرة لن تستطيع أن تواصل. وبالتالي هناك ضرورة لجلب معلنين لديهم شغف ومعرفة بالأمر ويتم الاستفادة من وجودهم. لا سيما بعض البراندات التي عرفت كيف تستفيد من رعايتها لبعض المهرجانات عبر التسويق لمنتجاتها. ما يضيف مكاسب مادية إلى جانب المكاسب الثقافية التي تعود على المجتمع بأكمله.
أساسيات يجب الوفاء بها
ماجدة موريس -الناقدة الفنية- تعتبر أن المهرجانات “ثروة مهدرة لأن الدولة لا تؤمن بها”. وهنا نتحدث بالتحديد عن مهرجانات السينما. فلا يوجد نوع من اليقين بأن هذه المهرجان ثروة.
وتلفت الناقدة الفنية إلى أن هناك لجنة للمهرجانات تتبع وزارة الثقافة جرى تدشينها منذ نحو 8 سنوات. مهمتها فرز مشروعات المهرجانات التي تقدم من الراغبين في إقامتها لطلب الدعم من الدولة.
وحسب “موريس” فالدعم في مصر نوعان: أحدهما معني بتبني الوزارة والحماية الشفوية والآخر بالدعم المادي. وتؤكد أن كما كبيرا من المشروعات يقدم إلى اللجنة لكن أغلبها تقريبا يعتمد على مجموعة أصدقاء أو شخص واحد فقط دون رؤية اقتصادية. ولا تستطيع الوزارة الوفاء باحتياجاته. لا سيما أن كثيريين عند مناقشتهم لا يملكون ردودا مقنعة تفي بالاستفسارات المطلوبة لإنجاح المهرجان.
وتوضح أنه حتى في حالة عدم احتياج المهرجان إلى دعم الدولة فهناك أساسيات يجب الوفاء بها لأي طامح في إقامة مهرجان. وهذا جهد يجب أن تشارك فيه الدولة. فمحافظة مثل الأقصر كان لديها مهرجانان على درجة كبيرة من الأهمية هما الأقصر للسينما العربية والأوروبية والأقصر للسينما الأفريقية. والأخير لا يزال مستمرا.
لكن في الوقت نفسه “الأقصر” لا يوجد فيها دار عرض سينمائي لخدمة هذه المهرجانات بشكل جيد.
أزمة الدعاية والرعاة
وهكذا أغلب المحافظات المصرية باستثناء القاهرة والإسكندرية. ونضيف على ذلك أن الدعاية للمهرجانات سيئة للغاية ومسألة تحتاج إلى تخصص ودعم وتكلفة مالية وغالبا أصحاب المهرجانات أو الراغبين في تنظيمها لا يضعون هذا البند في حساباتهم من الأساس.
وتضيف “موريس”: إذا كنت لا تستطيع عمل دعاية كافية وأغلب قاعات السينما لم تعد موجودة فمن أين ستأتي بجمهور كبير؟ وهل سيدفع أم لا؟ فالجمهور الذي ينتمي إلى الصحافة والإعلام والنقد لن يدفع بل يحضر بالدعوات فقط وليس على حسابه الخاص.
مسألة استقطاب الرعاة في غاية الصعوبة. هكذا ترى “موريس” وتضرب المثل بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي -المصنف ضمن أهم 10 مهرجانات في العالم والأكبر في الشرق الأوسط- ومع ذلك لا يستطيع الحصول على رعاة إلا بجهود جبارة.
الرعاة يريدون دور عرض وجمهورا ودعاية جيدة. كما هي العادة في كل مهرجانات العالم. وبخلاف ذلك عندنا رجال أعمال غير مهتمين إطلاقا بدعم المهرجانات الفنية. كما لا يهتمون بالدخول في هذا المضمار مع أنهم سيحصلون على حقهم الكامل في الإعلانات. لكن بسبب ضعف الوعي بأهمية الثقافة في المجتمع ابتعد رجال الأعمال عن الاستثمار في هذا المجال.
واختتمت “موريس” بالتأكيد على أهمية أن يكون هناك تسهيلات وخريطة شاملة للمهرجانات. فضلا عن دعاية لها باستمرار وإصلاح دور العرض وضخ برامج في الإعلام عن المهرجانات والسينما. كما كان الأمر قديمًا حينما قدم يوسف شريف رزق الله ودرية شرف الدين منتجات ثقافية ومعرفية قيمة للجمهور عبر الإعلام الذي كان لا يكتفي بتغطية المهرجانات المصرية فقط. بل كان يذهب إلى مهرجانات عالمية مثل “كان” وينقل الكواليس والندوات والأفلام المعروضة وحوارات مع النجوم. لافتة إلى ضرورة التنسيق مع الجهات السياحية في أوقات المهرجانات والإعلان عن ذلك بما يوفر فرصا جيدة لعشاق الفنون ويضيف مكاسب ثقافية واقتصادية عظيمة للبلاد.