تقع مصر في قلب أزمة الغذاء العالمي بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، لكونها أكبر مستورد للقمح بنحو 13 مليون طن من أصل 18 مليون طن تمثل احتياجاتها المحلية. الأمر الذي حاولت الدولة السيطرة عليه مؤخرًا بخطط للبحث عن بدائل ودعم الإنتاج المحلي. إلا أنه حتى السبت 18 يونيو/حزيران الماضي، وردت مصر 4.1 مليون طن قمح محلي. وهو ما يعني أن الإنتاج المحلي لا يزال عند مستوى متدن لا يضمن للبلاد أمنها الغذائي.
يرى الدكتور نادر نور الدين محمد، أستاذ الأراضي والمياه بكلية الزراعة جامعة القاهرة والخبير الاستراتيجي بالجمعية العامة لمنظمة الأغذية والزراعة فاو، أن مصر بحاجة إلى سياسة زراعية جديدة وتوسعًا في زراعة القمح. لكنه أيضًا يشير إلى صعوبة ذلك في ظل الوضع المائي الراهن للبلاد. وقد أوضح في حوار مع “مصر 360″، أن أزمة سد النهضة تسهم في هذا الوضع، كون قطاع الزراعة الأكثر تأثرًا بها، لما يستهلكه ويعادل نحو 85% من مواردنا المائية.
كيف تأثرت مصر غذائيًا بالحرب الروسية الأوكرانية؟
تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن العالم قد يتكبد نحو 1.8 تريليون دولار زيادة في واردات الأغذية بسبب هذه الأزمة. ومصر ضمن أكثر بلدان العالم تأثرًا؛ لأنها تستورد من المحور الروسي الأوكراني نحو 80% من القمح والذرة الصفراء وزيوت الطعام.
روسيا وأوكرانيا تصدران نحو ثلث غذاء العالم؛ ومنها 34% من صادرات القمح في العالم، و37% من صادرات الشعير، و17% من صادرات الذرة الصفراء التي تصنع منها الأعلاف، والتي تتحكم في أسعار الدواجن واللحوم والبيض والزبدة والجلود وغيرها.
وقد ارتفعت قيمة واردات مصر مع هذه الأزمة بما يوازى خمسة مليارات دولار إضافية، بسبب ارتفاع الأسعار؛ فعلى سبيل المثال ارتفعت أسعار القمح بنسبة أكبر من 65%، وأسعار الزيوت بنسبة 100%، وأسعار الذرة الصفراء بنسبة قد تصل إلى 100%.
هل تستطيع مصر التغلب على أزمة القمح بالاعتماد المحلي؟
تنتج مصر ما يتراوح بين 7 إلى 8 ملايين طن. لذا فإن تقليل الاعتماد على الخارج في سد احتياجاتنا من هذه السلعة الاستراتيجية أمر صعب التحقق. لأنه يستلزم توفير مساحات كبيرة من الأراضي والمياه للإنتاج المحلي. ومصر تعاني أزمة ندرة مائية، تحتاج معها إلى سياسة زراعية جديدة.
ماذا تعني بسياسة زراعية جديدة؟
أن نضع خططًا لإدارة مواردنا المائية، ونبحث في جعل مهنة الزراعة مربحة للمزارع، وأن يقدم العلماء أوراقًا لحل أزمة الهيكلة السياسية الزراعية وتقليل الفجوة المائية والغذائية، وأن تستمع الدولة إلى هذه المقترحات العلماء.
مشروع مثل “الدلتا الجديد” قد يوفر اثنين ونصف مليون فدان من المزروعات خلال الأعوام الخمسة المقبلة، إذا تمت زراعة نصف مليون فدان بالقمح كل عام. هذا يقلل اعتمادنا على الواردات الخارجية بنسبة 50%. إلا أنه مرهونًا بنجاح المشروع، وتوفير المياه اللازمة للزراعة.
كيف سيؤثر الملء الثالث لسد النهضة على الزراعة في مصر؟
– الملء الثالث لسد النهضة لا يزال مبهمًا. فعلى الرغم أنه لم يتبق سوى أيام قليلة على الموعد المقرر لبدء الملء، إلا أن إثيوبيا لم تعلن حتى الآن بشكل رسمي عن الكمية المتوقع تخزينها.
التسريبات تقول إن إثيوبيا تعتزم ملء 10 مليار متر مكعب. ما يعني خصم هذه الكمية من مصر والسودان بالتساوي. خصم 5 مليار متر مكعب من حصة مصر يعني فقدان ري مليون فدان.
وكيف نوفر المياه اللازمة إذا فقدنا 5 مليار متر مكعب من حصتنا المائية؟
نستطيع تخطي هذه الأزمة بعمليات تبطين الترع التي نجريها حاليًا. إضافةً إلى معالجة مياه المصارف الزراعية التي توفر لمصر نحو 10 مليار متر مكعب. وبالتالي، نكون مستعدين للملء الثالث قبل أن يبدأ.
ومع ذلك، لا أعتقد أن إثيوبيا تستطيع ملء 10 مليار متر مكعب هذا العام. ذلك لأن “الحاجز الأوسط” الذي يعترض مجرى مياه النيل الأزرق يسير ببطء. ومن المفترض أن يرتفع بمقدار 20 مترًا طوليًا، حتى تستطيع حجز 10 مليار متر مكعب. وهو ما لم يحدث حتى الآن. خاصة في ظل تركيز إثيوبيا على تشغيل التوربين الثاني المنخفض، بعد تشغيل التوربين الأول منذ شهر تقريبًا.
قبل شهر أعلنت هيئة الطاقة الذرية عن قمح جديد معدل وراثيًا.. كيف ترى الأمر؟
هذا أمر خطير للغاية.
ذكرت الهيئة في إعلانها أن الصنف الجديد يتمتع بزيادة محصول بنسبة 30%، ويقاوم الإصابات الحشرية والمرضية والندرة المائية، وأنه منتج عن طريق الطفرات التي تحدث طبيعيًا للقمح بسبب إشعاعات كونية وغيرها. إلا أن المثبت لاحقًا في رسالة وصلتني من المنظمة الدولية للنباتات المحورة وراثيا ISAAA أكد أن القمح الجديد منتج بالتحور الوراثي وليس بالطرق الطبيعية. والمشكلة هنا أن هذا النوع من الأقماح ممنوع استخدامه في إنتاج المخبوزات والمكرونة على مستوى العالم.
كما أنه يحتاج للعديد من اختبارات الأمان الجيني التي تستغرق سنوات طويلة لقياس مدى ثبات الجينات وعدم انفلاتها واختلاطها بجينات الإنسان.
وقد اتفقت دول العالم المتقدمة على عدم استخدام القمح الناتج من التعديل الوراثي سوى في إنتاج الوقود الحيوي والنشا اللازم لإنتاج زيوت السيارات، وربما يتم استخدامه كعلف حيواني.
لدينا اكتفاء ذاتي من الأسمدة.. كيف نستغل نجاحنا في هذا الملف؟
أهم أنواع الأسمدة التي تنتجها مصر هي “النيتروجينية”، التي تعتبر الغذاء الرئيسي للنباتات. نحن ننتج منها ما يقرب من 20 مليون طن، نستهلك نصفها، ونصدر النصف الآخر لكل دول العالم، بدءًا من الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتمد على الأمونيا السائلة ثم الدول العربية والأفريقية.
الأزمة الروسية الأوكرانية تمنحنا المجال لأن نكون دولة رائدة في تصدير الأسمدة لجميع الدول الأفريقية، ومصر مهيئة لإنشاء عدد كبير من مصانع الأسمدة نستطيع من خلالها أن نكون من الدول الكبرى المنتجة والمصدرة. خاصةً بعد توافر الغاز الطبيعي والكهرباء التي حققنا منها وفرة كبيرة في الفترة الماضية.
نادر نور الدين محمد خبير دولي في الغذاء والحبوب، حصل على بكالوريوس الزراعة مع مرتبة الشرف من كلية الزراعة بجامعة القاهرة عام 1977، ثمّ عُين معيدًا بالكلية، وحصل على درجة الماجستير عام 1983، ثم نال درجة الدكتوراه عام 1988، وتدرّج في المناصب الأكاديمية فأصبح أستاذا مساعدا بكلية الزراعة بجامعة القاهرة عام 1993، ثم أستاذا للموارد المائية بالكلية عام 2001، ثم عُين مستشارا ثقافيا في السفارة المصرية بدولة الكويت ما بين عامي 2001 – 2004، ثم مستشارًا لوزير التموين والتجارة الداخلية المصري بهيئة السلع التموينية عام 2005، وهو عضو بالجمعية العامة للشركة القابضة للصناعات الغذائية، وعضو بالمجالس القومية المتخصصة شعبة الزراعة والري.