بين الانقلابات السياسية وحروب وإبادة جماعية عاش السودان في حقبة ما بعد الاستقلال. عانى الأصولية التي ارتبطت بالأنظمة العسكرية. والتي تفنّنت في خلق الأسباب لإفشال الدولة، غير مكترثة لمطالب الشعب الذي ثار وخرج إلى الشوارع أملا أن يحقق سلامًا لكل السودانيين.
خرج السودانيون في ديسمبر 2018 متطلعون لتحقيق السلام والحرية لوطنهم. بدأت الاحتجاجات في مدينة الروصيرص وانتقلت إلى مناطق السودان المختلفة. خرجوا في احتجاجات ضد ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة العملة وفشل النظام في إدارة البلاد.
تفاءل البعض بثورة السودان في 2019. رأى فيها نافذة أمل للسودانيين ليعيشوا بكرامة وحرية. توقع الكثيرون أن جراح السودان المثخنة في طريقها إلى الزوال والشفاء. إلا أن الوضع تعقّد في 25 أكتوبر 2021 بعد الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح البرهان والذي أنهى أعمال الحكم المدني لعبد الله حمدوك.
عمل قادة الجيش للاستيلاء على السلطة والإطاحة بالمدنيين ورغم خروج الأعداد الغفيرة التي واجهت عنفا منظما من مؤسسة الجيش لم تكن المعادلة السياسية في السودان قاصرة على العسكر والمدنيين. كان هناك طرف ثالث وهو البعثة الأممية المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان “يونيتامس” والتي يترأسها فولكر بيرتس.
يفرد هذا المقال المساحة لتحليل دور البعثة الأممية والمعوقات التي شهدتها البعثة في إطار عملها المستمر حتى الآن.
صدر القرار بتشكيل “يونيتامس” في 20 يونيو 2020. وكان عملها بمثابة رقص على صفيح ساخن. فعلى الرغم من محاولة “بيرتس” -رئيس البعثة- أن يقوم بدوره في دعم السودان، فإنه يواجه حاليا مشكلة كبيرة مع قادة الجيش. حيث عبّر “البرهان” عن رغبته في طرد البعثة بحجة أنها “غير محايدة” و”منحازة” لقوى التغيير. فيما يرى رئيس البعثة أنه يقوم بعمله في مساعدة السودان للخروج من الأزمة والتوصل إلى حل يُرضي جميع الأطراف.
شهدت “يونيتامس” صعوبة في تحقيق أهدافها في دعم السودان. إذ تعد أهداف البعثة: الانتقال السلمي للسلطة والانتقال للسلام والتنمية الاقتصادية. حاول رئيس البعثة أن يتعامل مع كل الفاعلين في المشهد السوداني وقد سخط البعض على هذا. حيث رفض البعض نقاشات “بيرتس” مع الجنرالات وقادة المليشيات لأن أيديهم ملطخة بالدماء. لم يحدد رئيس البعثة موقفه بناء على رغبات الرأي العام أو إملاءات السلطة.
منذ أن قدم “بيرتس” تقريره عن أعمال البعثة في مجلس الأمن صرح “البرهان” بأن البعثة “منحازة لكتلة المدنيين-الحرية والتغيير”. وعبر عن رغبته في طرد “بيرتس” ورفاقه.
وعلى الرغم من رفض العسكريين للبعثة رأى الشارع السوداني أملا في وجودها لأنها تستمع لكل الأطراف. حتى الأطراف الجدلية مثل المليشيات المسلحة في دارفور. في حين يهتف الثوار السودانيون ضد العسكر تحت وسم “#لا شراكة لا تفاوض لا شرعية”. رافضين التعامل مع المكون العسكري ومحاولات هيمنته على الساحة السياسية.
يبدو الوضع معقدا فيما يتمسك كل مكون برغبته في تغيير الموقف لصالحه. وتبدو السلطة في يد المكون العسكري ورغبته في تسيّد الموقف وبين موقف قوى الحرية والتغيير الرافض للمناوشات العسكرية.
تحاول قوى الحرية والتغيير أن تتعاون مع البعثة الأممية ومَن وراءها من وسطاء دوليين. لكن الوضع يبدو حرجا مع تفجر الموقف في دارفور. إذ يعود شبح الحرب للسودان. يتساقط القتلى ولا ينفرج الوضع. بل يتعقد رغم محاولات البعثة الأممية المستميتة في التوسط بين الفرقاء السياسيين.
هل تنجح البعثة في جهودها الرامية لسلام واستقرار وتقدم السودان؟
سؤال يطرحه كثيرون. ويبدو للمراقب عن كثب أن الشارع يريد أن يتعامل ويتعاون مع البعثة الأممية. فيما يتشكك المكون العسكري في نزاهة وحيادية البعثة ويعرقل أعمالها ويرفضها. لأنها تعكس وضع الشارع الرافض للحكم العسكري ومعولا على المدنيين في إقامة دولة عدل وسلام ورخاء.
وتحاول منظمات أخرى مساندة البعثة الأممية في أعمالها بالوساطة بين الفرقاء. مثل الاتحاد الأفريقي ومنظمة “إيجاد” الإقليمية. لكن الوضع يفرض على الجميع التوجس والقلق من ردود فعل المكون العسكري تجاه عملية الانتقال الديمقراطي شكلا وموضوعا.
إحقاقا للحق فقد انتفضت بعض قوى الشارع ضد البعثة الأممية. معتبرين إياها خارجة على حدود مسئولياتها ونطاق عملها. بينما تراها قوى الحرية والتغيير فرصة لإقامة سودان جديد.
ولا يزال البحث عن مستقبل آمن ومزهر للسودان رغبة الثوار الحقيقية والوحيدة. لهذا ينتفض الثوار ضد قادة المكون العسكري الذين لا يتعاملون معهم إلا بلغة القوة. رافضين كل ما تأتي به قوى التغيير والحرية.
فهل تنجح البعثة في تغيير “ذهنية العسكر” وإقناعهم بعدم جدوى محاولاتهم للتأثير في الموقف السياسي؟ وهل تقتنع القوة المسلحة في دارفور بخطورة ما يقومون به من زعزعة أمن وسلام السودان؟.
جُلّ ما أتمناه للسودان -كمتابعة خارجية- أن تتوافق القوى لبناء سودان جديد يسع كل أبنائه. وأن تمتد أيادي الفرقاء السياسيين للسلام وأن يتجاوزوا تاريخا حافلا بالإخفاقات جعلت تاريخ السودان مزيجا من الحرب والفشل السياسي الذريع.
السؤال الذي يُطرح في هذا الصدد: “هل تنجح الوساطة الأممية المتمثلة في يونيتامس في إحلال السلام وإقناع فرقاء السودان بضرورة التعاطي مع بعضهم دون فرض جزء منهم آرائه على جزء آخر؟”.