ربما أصبحت زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة الشهر المقبل، أخطر زيارة يقوم بها رئيس أمريكي للشرق الأوسط منذ زيارة روزفلت عام 1943 وزيارة نيكسون في 1974، والتي جاءت لتعطي لمسة نهائية على صورة جديدة لعالم عربي منقسم وتابع للغرب وكانت زيارات وزير خارجيته كيسنجر المكوكية للسادات وتفاهم نيكسون – فيصل للبترودولار قد رسمتها بمكر شديد.. هاتان الزيارتان حددتا شكل المنطقة لسنوات عديدة، بحيث لا يمكن فهم الشرق الأوسط الذي نعرفه دون تتبع أثر هاتين الزيارتين الساحق على تكوينه وتشكيل خرائطه ونمط تفاعلاته مع العالم.
الزيارة الأولى لروزفلت وبالتحديد لقاءه مع الملك عبد العزيز صاغت جزءا كبيرا من تطور المنطقة منذ نهايات الحرب العالمية الثانية وحتى حرب أكتوبر 1973، فيما صاغت الزيارة الثانية مسارها العام من حرب أكتوبر والحظر النفطي الشهير الذي واكبها وحتي حرب أوكرانيا 2022.
والحرب الأوكرانية القائمة هي في الحقيقة دافع رئيسي لزيارة بايدن المزمعة للمنطقة بعد سنتين على حكمه، عامل خلالهما السعودية خصوصا والعالم العربي عموما بمنتهى التعالي والازدراء.
أزمة الطاقة التي خلفتها سياسة عقوبات اقتصادية غير مسبوقة في التاريخ تستهدف إسقاط نظام بوتين – المناوئ للغرب والحليف للصين منافس أمريكا على قيادة العالم – أعادت إلى الواجهة القيمة الاستراتيجية لدول النفط العربية، خصوصا أكبر منتج في العالم والقائد الرئيسي لأوبك، ألا وهي المملكة العربية السعودية.
بايدن الذي تعهد بجعل السعودية دولة منبوذة اكتشف أن حاجته إليها أكبر من تعهداته الانتخابية وأن الترهيب الشديد الذي مارسه على الدول الصناعية الأوروبية بالامتناع عن استيراد الغاز والنفط الروسي خلال مدى زمني لن يملأ فراغه إلا تقدم السعودية ودول أوبك لسد هذا النقص، وإلا فالبديل هو أن تنهار الصناعة والتدفئة الأوروبية وتجثو القارة العجوز على قدميها.
ورغم أن بايدن هو الذي يحتاج السعودية والخليج احتياجا شديدا، ورغم أن العرب لم يكونوا في وضع تفاوضي دولي ممتاز منذ نصر أكتوبر وحظر النفط الشهير الذي تلاه مثلما هم عليه الآن. خاصة أن العالم كله لا أمل له في حل مشكلة الطاقة إلا على يد العرب، فإن بايدن وصقور إدارته يريدون أن يحولوا هذه الحاجة إلى تفضل وتنازل، وجعل هذه الزيارة انتصارا كاملا للمصالح الأمريكية وإنفاذ خططها الاستراتيجية الكونية على حساب المصالح العربية وعلى حساب الأمن القومي العربي .
بايدن “يهوّش” باللغة العامية المصرية، وتعتمد استراتيجيته على المبالغة في الحصول على ثمن فادح من زيارته للسعودية ولقائه بولي العهد وما قد يعنيه ذلك من أنه نوع من الاعتراف الأمريكي بوضعه الحقيقي كقائد مستقبلي للمملكة .
وهذا الثمن الفادح هو:
- السعي نحو تعهد سعودي علني أو سري بعمل كل ما يمكن عمله لزيادة الإنتاج العالمي للنفط، وتعهد مواز من الدول المنتجة تقليديا للغاز أو الحديثة في شرق المتوسط بزيادة مماثلة من شأنهما معا توجيه ضربة لمكانة روسيا في سوق النفط والغاز وضرب أهم مصادر دخلها وإطالة أمد استنزاف موسكو في الحرب مع أوكرانيا.
بعبارة أخرى، فإن واشنطن تريد تفكيكا لتحالف “أوبك بلس” الذي يضم أوبك وروسيا وكان له الفضل في استقرار سوق الطاقة وفي ارتفاع الأسعار إلى مستويات مرتفعة ساعدت الدول المنتجة على البدء في التعافي الاقتصادي بعد جائحة كورونا.
هذا الارتفاع في أسعار الطاقة أيضا يزعم الأمريكيون علنا أنه المسئول عن التضخم المرتفع الذي يواجهونه حاليا. وبالتالي تريد أمريكا زيادة إنتاج النفط المعروض وخفض أسعاره.
- السعي لإتمام العملية الاستراتيجية الأمريكية المستمرة – منذ إخراج مصر من معادلة الصراع مع اسرائيل – في توظيف إسرائيل كوكيل مباشر فرعي لقيادة المنطقة الشرق أوسطية أمنيا وعسكريا، نيابة عنها وتحت إشرافها وبحضورها التوجيهي الكامل، وليس كما يزعم البعض أنه انسحاب أمريكي من الشرق الأوسط.
هذه العملية التي وصلت إلى الميل قبل الأخير بصياغة اتفاقيات إبراهام / كوشنر والتي منحت إسرائيل تطبيعا مجانيا علنيا مع المغرب والإمارات والبحرين وشبه معلن مع السودان وكردستان العراق سمحت باختراق كامل للبنية الامنية العربية في صورة منتدي او تحالف استخباراتي وعسكري تقوده اسرائيل عبرت عنه قمة النقب المشؤومة التي غابت عنها السعودية.
بعبارة أوضح، فإنه إذا كانت السعودية هي الهدف الأول لحل أزمة الطاقة، فهي الهدف الأول أيضًا في إتمام عملية تسليم علم قيادة الشرق الأوسط وتفويض السلطة الإقليمي المشروط من أمريكا إلى إسرائيل.
وهذه عملية لن تتم دون انخراط السعودية الكامل فيها حتى ولو بشكل غير معلن في البداية. والمعنى واضح، فإنه إذا كان سلام مصر المنفرد مع إسرائيل أزال نصف الحواجز أمام إسرائيل لاجتياح العالم العربي، فإن انضمام السعودية المثقلة بالرموز الدينية والروحية وبسلطة النفط والمال على المنطقة إلى تحالف أمني عربي – إسرائيلي سيزيل لا محالة النصف الثاني من هذه الحواجز.
ما هي الادعاءات الأمريكية التي تجعل واشنطن وهي تضغط من أجل الحصول على هذه المكاسب الاستراتيجية لها ولإسرائيل على حساب العرب تعتقد أن بوسعها إقناع أو حمل الرياض وباقي العرب على تقديم هذه التنازلات في وقت هي في حاجة اليهم أكثر مما هم في حاجة إليها؟
- الادعاء بأن مجرد موافقتها على تنظيم زيارة رئاسية للرياض يلتقي فيها ولي العهد محمد بن سلمان بعد أزمة جمال خاشقجي هو تنازل معنوي وسياسي كبير يقدمه الرئيس الأمريكي.
- الادعاء بأن تعطيل مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران هو تنازل أمريكي جرى استجابة لرغبات الرياض وأبوظبي والمنامة.
- ما ذكرته مصادر إعلامية أمريكية من أن بايدن سيحمل معه مشروع تحالف أمني أمريكي – خليجي يتعهد فيه بحماية النظم الملكية بعد أن سادت قناعة خليجية أن واشنطن انسحبت وتركتها فريسة سهلة لما تراه تمددا إيرانيا في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
هذه الادعاءات غير حقيقية بالمرة
– فالقول بأن زيارة بايدن هو تنازل سياسي ومعنوي وتراجع كامل عن مواقفه السابقة من الرياض غير صحيح. إذ أن إجراءات التهاون بمشاعر الكرامة السعودية استمرت حتى أثناء الإعلان عن الزيارة. ففي اليوم الذي تم فيه تأكيد موعد الزيارة رسميًا، جرت تسمية الشارع الذي تطل عليه السفارة السعودية في واشنطن باسم الصحفي جمال خاشقجي، وتعهد مشرعون في الكونجرس بالقصاص من ولي العهد باعتباره مسؤولا – حسب تقرير المخابرات المركزية الأمريكية – عن أوامر قتل خاشقجي.
– وفي إشارة تهاون أخرى أعطي بايدن إيحاء بأنه لم يغير موقفه من رفض مقابلة ولي العهد السعودي شخصيا وعلى انفراد، وأنه سيكون فقط أحد المشاركين في اجتماع دولي لبايدن مقررا مع حكام مجلس التعاون بحضور قادة مصر والأردن والعراق.
– الأمر يتعدى استمرار تجاهل بايدن الشخصي لـ”بن سلمان”، لكن الأخطر هو أنه يقطع الطريق على أهم فائدة راكمها النفوذ الأمريكي على السعودية والخليج خلال الـ 80 عاما الأخيرة بأن لها قول حاسم في توارث الحكم في منطقة الخليج.. هذه الفائدة هي إمكانية تسويق الزيارة كأنها ضوء أخضر أمريكي لتولي بن سلمان الحكم بعد رحيل والده بكل ما يعنيه ذلك من إنهاء آمال بعض الأجنحة في السعودية في منافسة بن سلمان على العرش في المستقبل. وحتى هذا المكسب الصريح لترسيخ سلطة بن سلمان وأنه أصبح دون منافس على كرسي عبد العزيز تبقيه إيحاءات بايدن المتعجرفة مكسبا معلقا وغير محسوم بالمرة.
– تعطيل الاتفاق النووي عمدا من قبل إدارة بايدن يعود إلى تلبية رغبات حكومة بينيت المتطرفة التي رفعت مستوى المواجهة غير المباشرة مع إيران إلى مستويات حافة الهاوية. وهي الحكومة التي تحتاجها واشنطن الآن في الحرب الاوكرانية، حيث استجابت إسرائيل لمد أوكرانيا بأسلحة وخبراء عسكريين وتقنيين يشاركون من خلف الكواليس في الحرب ضد روسيا.
أي أنه استجابة لمطالب إسرائيل أكبر بكثير مما هو استجابة لمطالب السعودية.
- الحديث عن مشروع جديد – قديم للحماية الأمريكية للدول الخليجية يتم بنفس الطريقة المهينة التي لخصها ترامب من أننا نحمي نظم الخليج الغنية، وأنها بدون هذه الحماية لا تصمد أو تعيش دقيقة واحدة، وأن عليها دفع ثمن هذه الحماية «إتاوة» مالية دائمة.
– إزاء استمرار نمط التعالي الأمريكي والإهانات المتعمدة وحجم التنازلات المطلوبة من السعودية من زيارة بايدن والتي تضر بمصالحها السياسية والاقتصادية ولا تمنحها في المقابل مكسبا واحدا ملموسا، فإن السؤال هو: هل يمكن أن تثآر السعودية لكرامتها وترد الصفعات الأمريكية؟
هل يمكن للسعودية أن تحافظ على مصالحها الوطنية التي ستتضرر اقتصاديا بقسوة من رفع إنتاج النفط وما سيتبعه من انخفاض أسعاره المجزية الحالية، والتي سيتضرر معه أيضا استقرارها السياسي ومصداقيتها الاخلاقية أمام مواطنيها من أهل الحرمين الشريفين عند قيامها بالتطبيع مع إسرائيل، وهي التي حافظت على الأقل في خطابها العلني أمام جمهورها المحلي والإسلامي؟
على أن جزءًا من شرعية نظام المملكة هو التزامه بحل عادل للقضية الفلسطينية يعيد المسجد الأقصى.
– بمنظور الموارد والإمكانات المتاحة للرياض، نعم تستطيع السعودية إدارة سياسة خارجية فعالة وكفؤة، لكن بشرط جوهري بالغ الصعوبة أخذا في الحسبان سياق العلاقة المختلة تاريخيا لصالح أمريكا في العلاقة بين الطرفين. هذا الشرط هو توافر إرادة سياسية مفعمة بالنخوة العربية تتفاعل مع حقيقة أن أمريكا – شاءت أم أبت – لم يعد بمقدورها الابقاء علي نظام القطب الواحد.
من مصلحة السعودية كما وقعت عقد هيمنة أمريكا على المنطقة قبل عقود ثمانية أن تكون هي من توقع عقد إنهائه لصالح علاقة متكافئة متعددة الأطراف، وعلى أساس المصلحة الوطنية، وليس على أساس خضوع التابع للمتبوع.
فما هي موارد وأدوات السياسة الخارجية التي تستطيع بها الرياض رد تنمر بايدن وإهاناته المتواصلة من جانب والحفاظ على مصالحها الاقتصادية وشرعية حكمها أمام مواطنيها وجمهورها الإسلامي الواسع من جانب آخر؟
هذا ما أناقشه في الجزء الثاني من هذا المقال.