الدماء التي لونت الشارع لم تكن لرسم وشم الحب، ولم تكن معلقة بفرشاة ترسم جمالًا وتُبدد قبحًا، كانت دمًا على سكين غادر، طعن القلب وزهق الروح، قطع الوريد وطيّر روحًا كعصفور يتعلم الطيران لتوه.

جريمة المنصورة بكل بشاعتها ربما لن تستمر كحديث للعامة ومواقع التواصل لأكثر من أيام. ثم تنطوي في محتوى يتضاعف بشكل جرثومي. كما حدث مع سيدة مدينة السلام التي أُلقي بها من النافذة، وفتاة كفر الدوار التي انتحرت بعد أن عانت ابتزازًا واستغلالًا من شاب.

عشرات الجرائم المتشابهة، ونساء يقتلن على الهوية والنوع. وفي كل مرة آلاف المبررين للقتل، وآلاف الغاضبين لحق الأنثى المغدور بها. لكن هؤلاء في مكان وهؤلاء في مكان آخر، وعند الاحتكاك والتقاطع تسيل دماء. فترتوي الأرض بدماء بناتها الضحايا، دون حرب أو عدو خارجي. إنما القتلة أهل وجيران ورجال يدعون المحبة.

ماذا جرى للمصريين؟

تهدف الجماعات الدينية المتشددة إلى تغييب العقل، وهي دومًا تستهدف النساء جاعلين منهن شاخص لكل عنف. وهذا لا يختلف في أي من الأديان تعتنقها تلك الجماعات. وهي تبدأ دومًا من التفاصيل الصغيرة؛ فكرة الحشمة، التي بات ينادي بها الواحد تلو الآخر، وكان مرادفها هو الحجاب، الذي بدأ ينتشر حتى أنه كان يتم اعتماد غير المحجبات بكونهن مسيحيات. وبعد أن بدأ ينتشر الحجاب، ظهر مستوى آخر الخمار ثم النقاب، وتتوالى الأهداف، التي بدأت فقط من الحشمة.

وعلى الرغم أنه في فيلم عفريت مراتي – 1968 في مشهد زيارة زملاء صالح في البنك وزوجاتهم لمنزله، وصفت إحدى السيدات صورة للزوجة بأنها حشمة، فقط لأنها كانت ترتدي فستانًا بأكمام، إذن الحشمة شيء نسبي وفق قياسات المجتمع، والتدخل في الشؤون الشخصية للآخرين إذا بدأ لا ينتهي.

نتحدث عن الحشمة في مجتمع عرف الله قبل أن تعرفه البشرية. مجتمع الدين موجود فيه قبل أي جماعة أخرى، بدأ التدخل بشكل اللبس خطوة متسللة إليه، للسيطرة تحت ألوية الدين.

استبدال حصص الموسيقي والنشاط البدني بأخرى لمواد مثل العربي والرياضة تحت لافتة فائدة الطلاب، أسست لإلغاء الفنون، وانعدام الأنشطة. وبالتالي باتت هناك طاقات كبيرة مقيدة وحبيسة أجساد شابة متوهجة. ماذا يفعل هؤلاء الشباب في طاقتهم الزائدة؟

هكذا تتعدد الأمثلة. كلها أهداف صغيرة، يتم تحقيقها، دون صخب، فنربي أفعي سامة بيننا، بكل رضا، وسماحة. لأن هناك خلطًا كبيرًا بين الدين والتظاهر بالتدين، ظلت هذه الجماعات تزيد مساحات التدين الشكلي، بينما الغالبية يرونها كل مثال منعزل عن الآخر، فيرونه صغيرًا، ولا يهتمون لشأنه.

وهكذا الأهداف الصغيرة خلصت هذا الوحش الذي يلتهم كل يوم أحدنا، بينما يمد له كثيرون أيديهم بالدعم ليستمر في النمو.

تغريدة متداولة عبر تويتر
تغريدة متداولة عبر تويتر

هل العري هو السبب؟

تعددت التعليقات التي تبرر القتل في جريمة المنصورة. لأن الفتاة لم تكن محجبة. الصورة المتداولة ترتدى الفتاة بنطالًا وبلوزة، فقط هو شعرها المكشوف. لقد اعتبر المبررون أن كشف الشعر هو سبب يدعو للقتل؛ فهي بنظرهم غير محترمة. ولو رجعنا قليلًا لواقعة الزوج الذي اتفق مع مرؤوسيه على اغتصاب زوجته وتصويرها، حتى يُطلقها دون أي حقوق. لكن الزوجة دافعت عن نفسها فكانت النتيجة أنها قُتلت، هل كانت الزوجة أيضًا تستحق ذلك؟

ثم خرج علينا الداعية مبروك عطية ليقول إن من تريد أن تنجو عليها أن تكون قفة. فلماذا هذا الاستهداف للنساء؟ الحديث عن العري أو الحشمة، مجرد تكأة للنيل من كل أنثى.

المفترض أن يُجاهد الانسان للحفاظ على قيمه ومعتقداته، لا أن يجبر الآخرين على الالتزام بما يراه هو صحيحًا، فإذا كان من حوله يفعلون الصحيح بالنسبة له فأين اختباره، ولماذا يعتبر مؤمن صالح؟

استهداف النساء صار فجًا وطال الجميع، والمبررات دومًا معدة وجاهزة، وعندما تكون الضحية لا تتوفر فيها الأسباب الشائعة، فإنه يتم البحث عن مبرر آخر، وفي الغالب أخلاقي، دون أن يسأل أحد ما صلاحية أي انسان للتدخل والحكم على أخلاق غيره، وإدانته، وتنفيذ حكمًا هو يراه مناسبًا؟ ولماذا يرى الرجال أنفسهم مسئولون عن أخلاق وسلوك النساء من حولهم؟

نشرت فتاة على “تويتر” تقول إنها كانت تسير برفقة أخرى واقترب منها موتوسيكل عليها ثلاث شباب وقالوا لهما “عقبال ما أدبحك يا قلبي” هكذا بكل ببساطة، وفي التعليقات قال آخر إن خطيبته كانت تسير في المهندسين وأحدهم قال لها إن أمثالهم يذبحون في المنصورة.

مثل هذه المواقف تُشيع حالة من الرعب وسط الفتيات والسيدات، وإذا أضفنا لها التصريحات التي خرجت من بعض من يطلق عليهم دعاة، وكذلك التعليقات التي وجدت على مواقع التواصل تبرر للقتل، فنحن في كارثة حقيقية، واحتمالية كبيرة لتكرار الجريمة. فهل سيقتصر الأمر على الصراخ على منصات التواصل؟

الكثير من المتخصصين وغير المتخصصين يناقشون ما تتعرض له النساء، والجميع يطرح حلولًا، بعضها يعطي التعليم الأولوية، والبعض عن ضرورة تغيير الخطاب الديني، والبعض يتحدث عن أهمية الأنشطة والفنون، وجميعها حلولًا أتفق معها. لكنها حلول يأتي ثمارها بعد وقت طويل. إذ أنها تستهدف تغيير الوعي. وذلك يتطلب تضافر عوامل عديدة.

الواقع يقول إننا بحاجة لحل تؤتي ثماره سريعًا، بالتوازي مع كل الحلول السابقة. هذا الحل هو القانون والعقاب الصارم. أعتقد أن قانوننا المصري به مواد تجرم وتعاقب على كثير من جرائم استهداف النساء. لذا فإن تطبيقها بشكل صارم دون استثناء، سيجعل أي انسان يُفكر قبل أن يقدم علي فعل سيلقي عقوبته، ولنا أن ننظر نحو قضايا التحرش التي قلّ معدلها بعد أن أصبح يتم عقاب المتحرش.

القانون بموازاة خطط التنمية والتعليم والثقافة، حتى نحمي نساءنا.