أدى الغزو الروسي لأوكرانيا – والدعم الصيني الضمني لهذه الحرب- إلى تكثيف المنافسة الاستراتيجية التي تحدد الآن سياسة الأمن القومي للولايات المتحدة. ما دعا العديد من المسؤولين والمحللين الأمريكيين، إلى مخاطبة إدارة بايدن. لتعزيز قدرات البلاد العسكرية، وتقوية دفاعاتها، والاستثمار في التقنيات الرئيسية.
هنا، يقدم التاريخ درسًا مختلفًا. فالدول لا تسود في تحمل المنافسات بالدرجة الأولى بامتلاكها قدرات تكنولوجية أو عسكرية متفوقة. أو حتى بفرض إرادتها في كل أزمة أو حرب. فيمكن للقوى العظمى أن ترتكب العديد من الأخطاء، تخسر الحروب، تفقد الحلفاء، وحتى تفقد تفوقها العسكري. لكنها لا تزال تنتصر في المنافسات طويلة الأمد.
لعقود، ظل السياسيون والعلماء والمحللون الأمريكيون يتشدقون بفكرة أن الجبهة الداخلية الديناميكية والمرنة هي أساس النجاح في الخارج. ولكن، في النهاية، توجد صفات محددة يمكن لعلماء الاجتماع تحديدها وقياسها.
على مدار 15 شهرًا، قام مايكل مازار، كبير الباحثين السياسيين في مؤسسة RAND، بقيادة فريق بحثي لمكتب التقييم التابع لوزارة الدفاع الأمريكية، مع الاستعانة بتحليل من مؤرخين خارجيين، ودراسات الحالة التاريخية، والبحوث المتعلقة بالتنمية الاقتصادية، والتقدم التكنولوجي. ثم قام الفريق باختيار عدد من الخصائص الوطنية التي عززت عبر التاريخ النجاح التنافسي على المستوى الوطني، بما في ذلك الطموح القوي، وثقافة التعلم، والتكيف، والتنوع الكبير، والتعددية.
اقرأ أيضاً: “الكأس المسمومة” تُداول السلطة بين حكام العرب خلال المئوية الأخيرة
صفات القوة المهيمنة
يقول مازار: نقاط القوة المحلية هي اللبنات الأساسية للقوة الدولية. ولكن لتمكين أي بلد من النجاح، يجب أن يعزز أهله ويدعموا بعضهم البعض، ويجب ألا يخرجوا عن التوازن. الكثير من الطموح الوطني -على سبيل المثال- يمكن أن يؤدي إلى تجاوز الحدود، مما يعرض للخطر البلد الذي يفرط في الالتزام. لكن البلدان التي لديها القليل من الطموح، أو التنوع، أو الرغبة في التعلم والتكيف، تخاطر ببدء دورة سلبية يمكن أن تتحول إلى تدهور وطني.
أضاف: اليوم، تجد الولايات المتحدة نفسها ناقصة في العديد من الصفات التي قوّت صعودها خلال النصف الثاني من القرن العشرين. إذا أرادت استعادة ميزتها التنافسية – والانتصار في منافساتها الحالية مع الصين وروسيا- فسيتعين عليها أن تفعل أكثر من مجرد الإنفاق على منافسيها على الدفاع أو التقنيات العسكرية المتقدمة. سيتعين عليها رعاية الصفات التي تجعل القوى العظمى ديناميكية، ومبتكرة، وقابلة للتكيف.
يطابق كبير باحثي RAND بين تصاعد وتناحر القوى في العالم القديم، والتنافس الذي جرى بعدها بألفي عام في الحرب الباردة.
يقول: شكلت أثينا خطراً، ليس بسبب حجم أسطولها البحري، أو ثراء ترابها، أو عدد سكانها. وقفت لتحل محل إسبرطة باعتبارها القوة المهيمنة لسبب أوسع وأكثر شمولاً. هو الصفات المتفوقة لنظامها الاجتماعي والسياسي. كما انتصرت الولايات المتحدة في نهاية المطاف على الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة. لأنها كانت أكثر نشاطًا وابتكارًا وإنتاجية وشرعية.
أشار مازار إلى أن بعض المعلقين أجروا المقارنة بشكل مباشر. واصفين واشنطن على أنها “أثينا” تلك الدراما، في مقابل إسبرطة الكسولة والمحافظة في موسكو. ينطبق الدرس المستفاد من كلا التنافسين التاريخيين على جميع التنافسات بين القوى العالمية تقريبًا. دائمًا ما تصعد الدول وتنهار بسبب مجموعة معقدة ومترابطة من الخصائص الاجتماعية، التي تنتج ديناميكية وطنية وميزة تنافسية.
لكنه أوضح أن تحديد هذه الخصائص يشكل تحديًا تحليليًا “معظمها مجردة وغير محددة. يصعب أيضًا، وربما من المستحيل، قياس الكثير بشكل موثوق. لا سيما في الحالات التاريخية التي لا توجد فيها بيانات دقيقة”.
معايير النجاح أو الفشل الوطني
يلفت الباحث في الدراسة المنشورة في Foreign Affairs إلى أن تحديد أي محاولة للتغلب على التحديات في الأساس هي معيار النجاح أو الفشل الوطني “قد تبدو مقاييس النمو الاقتصادي أو مؤشرات الابتكار التكنولوجي وكأنها إجابات واضحة. لكن هذه عوامل متداخلة، فالنمو الاقتصادي هو بالتأكيد مصدر قوة وطنية. لكنه أيضًا نتاج عوامل أكثر جوهرية تولد التنمية الاقتصادية. وينطبق الشيء نفسه على الابتكار والتطور العسكري، والإنتاجية، والعديد من مقاييس الإنتاج المشتركة الأخرى”.
رغم ذلك، بعض البلدان التي تحصل على درجات عالية في الخصائص المرتبطة بالديناميكية الوطنية والقدرة التنافسية. لا ترتقي إلى قمة التسلسل الهرمي العالمي. بعضها، مثل هولندا وسنغافورة، صغير جدًا. آخرون، مثل السويد وكوريا الجنوبية، فقدوا، أو لم يكن لديهم قط، دافع للقيادة العالمية.
مع ذلك، فإن هذه الدول لديها النمو الاقتصادي، والتطور التكنولوجي، ومستويات المعيشة المرتفعة. والتماسك الوطني. والعديد من النتائج الأخرى المرتبطة بالنجاح. على جانب آخر، فإن عوامل اخرى غير الخصائص المجتمعية، يمكن أن تحدث فرقًا حاسمًا في نزاعات محددة.
نظرت دراسة مؤسسة RAND في المقاييس المطلقة للقوة الوطنية. مثل طول عمر الدولة، والقدرة على توفير الأمن والازدهار. والمقاييس النسبية، مثل النجاح أو الفشل في المنافسات الثنائية، أو الوقوف على المسرح العالمي. قام الباحثون بفحص الأدبيات المتعلقة بصعود الدول وسقوطها، ومصادر التقدم الاقتصادي والتكنولوجي. وأجروا اثنتي عشرة دراسة حالة تاريخية كبرى، وأبحاث أحدث حول مجموعة متنوعة من القضايا. مثل عدم المساواة، والتنوع، والهوية الوطنية.
وجد الفريق البحثي أن الدول التي تظهر الأشكال المطلقة والنسبية للنجاح التنافسي تميل إلى أن تعكس. إما في فترات معينة من الصعود، أو البقاء على قمة التسلسل الهرمي العالمي. عدة خصائص رائدة: طموح وطني دافع، وفرصة مشتركة للمواطنين، وخصائص مشتركة. وهوية وطنية متماسكة، ودولة فاعلة، ومؤسسات اجتماعية فاعلة، وتأكيد على التعلم والتكيف، وتنوع كبير، وتعددية.
اقرأ أيضا: ماكرون.. “صدمة ديمقراطية” تجبر “كبير الآلهة” على الائتلاف
المتغيرات والمصير التنافسي للأمم
يقول مازار، رئيس الفريق: تتباين الروابط السببية بين هذه الخصائص والنجاح التنافسي الوطني. رغم اتساقها بشكل عام، عبر الوقت، ومن بلد إلى آخر. وليست هذه هي المتغيرات الوحيدة المرتبطة بالنجاح الوطني. من الواضح أن العوامل الأخرى، مثل الكوارث الطبيعية والأوبئة والجغرافيا، مهمة. لكن مسحًا واسعًا للأدلة يشير إلى أن هذه الخصائص تلعب دورًا كبيرًا في تحديد المصير التنافسي للأمم.
على مر التاريخ، اكتسبت الدول التي تتقاسم الفرص بين مواطنيها ميزة على تلك التي لا تفعل ذلك. مثلما أعطت سياسة روما المتمثلة في فتح المواطنة للشعوب المحتلة، ودمج العبيد المحررين في أدوار اجتماعية مهمة، ومنح مزايا اقتصادية وعسكرية. وبالمثل، فإن الحراك الاجتماعي الذي منحته المملكة المتحدة وأمريكا، أعطى هذه القوى ميزة على القوى الأكثر تقييدًا اجتماعيًا في أوروبا القارية، مما ساهم في تقدمهما الاقتصادي والعلمي الهائل في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ومن الخصائص التي تحفز التنافسية الوطنية هوية وطنية مشتركة ومتماسكة. تبني المجتمعات الأكثر تنافسية إنجازاتها على أساس هوية جماعية مشتركة قوية. أو “الشعور بالأمة”. لا تساعد هذه الهوية المشتركة الدول فقط على تجنب العوائق التنافسية للتجزئة السياسية والعرقية والصراع. ولكنها تمكنهم أيضًا من حشد الدعم الشعبي للجهود التنافسية. كما أوضح المؤرخ ديفيد لاندز قوة الهوية الوطنية المشتركة والمتماسكة في كتابه “ثروة وفقر الأمم”.
يضرب مازار مثالا ببريطانيا، التي وصفها بأن لديها ميزة مبكرة لكونها أمة “أعني بذلك ليس فقط عالم الحاكم، وليس مجرد دولة أو كيان سياسي. بل وحدة واعية بذاتها، ومدركة لذاتها، تتميز بالهوية المشتركة، والولاء، والمساواة في الحالة المدنية. وأشار إلى أن هذه الديناميكية نفسها غذت صعود العديد من القوى التنافسية الأخرى عبر التاريخ. مثل صعود اليابان إلى الصدارة الصناعية والعسكرية في كل من فترتي ميجي وما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت مدفوعًا جزئيًا بهوية وطنية موحدة “كانت هذه الهوية دائمًا معقدة. بسبب النقاشات الداخلية حول الطبيعة الحقيقية للشخصية اليابانية. لكنها، مع ذلك، حفزت الروح الوطنية للجهود والتضحية المشتركة”.
الاستفادة من الدولة النشطة
تشير الدراسة كذلك إلى أن المجتمعات شديدة التنافسية تميل إلى الاستفادة من بعض أشكال الدولة النشطة. فقد صنف الاقتصاديون عشرات الطرق التي ساعدت بها الدول النشطة في تحفيز النمو في الدول الحديثة. أظهرت الباحثة ماريانا مازوكاتو، في دراسة لها. مدى أهمية دعم الدولة للتقدم الكبير في تكنولوجيا المعلومات والطاقة الخضراء والمستحضرات الصيدلانية. أيضًا، نمت تقنية الإنترنت ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS) جزئيًا من البرامج في وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة الأمريكية. وساعد الدعم الحكومي في إنتاج العشرات من التقنيات الأخرى، بما في ذلك الطاقة النووية، وأنظمة الطيران المتقدمة.
وتعتمد الدولة النشطة بدورها على خاصية أخرى للمجتمعات التنافسية، وهي المؤسسات الاجتماعية الفعالة. وكما أوضح الاقتصاديون دارون أسيموجلو، ودوجلاس نورث، وجيمس روبنسون. فإن المؤسسات القوية والشاملة تعزز النمو الاقتصادي، وتعزز شرعية الدولة، وتستجيب للتحديات الاجتماعية، وتنتج قوة عسكرية فعالة.
على سبيل المثال، في المملكة المتحدة، ساهم البرلمان منذ قرون، بجانب القطاع المالي القوي، والبحرية القوية، في النهوض الاقتصادي والجيوسياسي للبلاد. من ناحية أخرى، كشف تراجع الاتحاد السوفيتي -وانهياره في نهاية المطاف- ما يحدث عندما تصبح المؤسسات فاسدة وغير فعالة. كما هو الحال مع جميع الخصائص المرتبطة بالميزة التنافسية، فإن المؤسسات الاجتماعية الفعالة وحدها لا تكفي لتفسير النجاح أو الفشل الوطني.
يؤكد مازار أنه من أجل تحقيق تنافسية الدولة، يجب أن يكون لدى المجتمع طبقة نخبة ذات روح عامة. يقول: تكتسب الأمم ميزة تنافسية هائلة من النخبة النشطة ذات العقلية العامة. التي تمثل المجتمع الأوسع، وترتبط به عبر طرق الحراك الاجتماعي. ولكن عندما تصبح النخبة في دولة ما -أو جزء كبير منها- فاسدة، أو تنخرط في سلوك البحث عن الربح، فإن حيوية تلك الأمة ومرونتها وميزتها التنافسية سوف تتآكل.
وأضاف: بشكل حاسم، تلعب نوعية النخبة في الدولة دورًا حيويًا في تحديد شرعية مؤسساتها الحاكمة. عندما يُنظر إلى النخب على أنها فاسدة وذات مصلحة شخصية، بدلاً من تكريسها للصالح العام. غالبًا ما تتعرض المجتمعات والمؤسسات التي تحكمها للضمور أو الانهيار.