منذ “دنيا الله”، وحتى آخر مجموعاته التي بلغت العشرين إذا ما احتسبنا مجموعته الأولى “همس الجنون”، حفر نجيب محفوظ عالمًا لا يقل شساعة عن رواياته، بل لا أبالغ إن قلت إن كانت الرواية هي خريطة عالمه الإجمالية والتي انتخب فيها بعض أفكاره وأسئلته، فإن عالم قصصه القصيرة هو الخريطة المفصلة لمعجم لا ينتهي من الأفكار وأسئلة الوجود القلقة والشائكة، والتي لا يمكن إلا لمكر الفن وقوته أن يطرحها، وربما لم يجرؤ كاتب عربي على أن يغوص فيها قبله، والأهم أن ما يحركها قلق حقيقي وأصيل يشتعل بروحه.
اقرأ أيضًا.. نجيب محفوظ.. أديب باح آخرون بأسراره
إنجاز على مستوى الكم والكيف لم يقابله كاتب عربي آخر رغم ذلك يخبرنا البعض أنه “قاص أقل مما هو عليه كروائي” عالم الأدب تسوقه جمل كتلك، براقة، مغرية، تُصم لها آذان فلا تنصت وتغلق لها عقولا فتخسر مساحات ممكنة للاكتشاف، كشأن كل ما هو زائف وغير دقيق، فيجرؤ على شطب 40% من مشروع ” المعلم الأول” لفن السرد في الوطن العربي.
الله، الحياة، الموت، السعادة، الفناء، العزلة، العمل الذي يحرم من الحياة، اللذة التي تحرم من الإنجاز، الروتين، السقوط، الوحدة، الخطيئة، القدر، عبثية السعي، ضرورته، البحث عن الذات، الجنس، رجل الدين، السلطة.. فلنترك القوس مفتوحًا.. خارطة حفرها بدأب، أسئلة بحجم جمال هائجة مسعورة، مررها من سم الخياط أمام أعين مجتمع موتور غاضب، يهوى الجمل البراقة، حتى أنه دفع ثمن إحداها بطعنة في العنق، نالها من شخص سمع دون أن ينصت.
معجم شبه كامل، ربما لا تخلو أي قصة مكتوبة من أسئلته، لأن وظيفة المعلم الأول هو ألا يكف عن تشييد المثال، تعبيد الطريق، وهي مساحات لم تكتشف نقديا بعد، على عكس رواياته.
كان بإمكانه أن يكرر اللعبة الناجحة ذاتها بعد أن بلغ ذروتها في الثلاثية وأمن بها مكانة فريدة، لكن لأن جوهر الكتابة هو الصدق مع الذات، أدرك أنه اختبر كل ما لديه عن الطبقة الوسطى ورصد تحولاتها، فقدم إلى القصة العربية ما كانت تفتقده: الرمز، التجريد، ثم قفز في مجموعته تحت المظلة إلى اللامعقول، حتى صفت خارطته التفصيلية، فتجمعت كبلورات مكثفة في أصداء السيرة الذاتية.
اقرأ أيضًا.. الصحفي في أدب نجيب محفوظ.. انتهازي ووصولي ونفعي
يستخدم نجيب محفوظ القصة القصيرة بعدة طرق:
– لكتابة القصة بشكل خالص وإدراج أسئلة لن تسعها رواياته.
– كماكيت أولي لأفكار ستتطور لاحقًا سواء في قصص أخرى أو روايات.
– تجريب تكنيكات وألعاب جديدة في القص (السماء السابعة في مجموعة الشيطان يعظ على سبيل المثال والتي ترتكز على فكرة تناسخ الأرواح وما ينتج عنها من تبديل للمصائر)، (يباغتك بكتابة قصة على شكل مسرحية قصيرة، سبقت واحدة من أهم رواياته “ليالي ألف وليلة”، قصص تعتمد على حوار فكري بين شخصيتين “أيوب”).
– سعى لإيجاد التعبير الأمثل عن فكرة تؤرقه، فيكررها عشرات المرات بمختلف الأشكال، ليس عن فراغ جعبة، فجعبته لم تنضب أبدًا، لكن أنه لأنه شكه دائمًا ما سبق يقينه فلن يطمئن أبدًا، لن يقنع أبدًا.
– فاصل لاستعادة مشروعه الذي سبق أولاد حارتنا الذي يرصد التحولات الاجتماعية للطبقة الوسطى، ما يغريه هو حدوث تحول حاد، كالانفتاح الاقتصادي في عهد السادات (الحب فوق هضبة الهرم، أهل القمة، أيوب).
لا يكتب نجيب محفوظ القصة كأحد، أستعين هنا بكلمة الشاعر صلاح عبدالصبور، في تحليله لمجموعة نجيب القصصية دنيا الله: فن القصة القصيرة عند نجيب محفوظ لا أستاذ لها إلا نجيب نفسه.
ما يفرق القاص أو الروائي عن حكاء شفاهي بارع، قد تقابله على مقهى أو قد يكون صديقًا لك، أو حتى رجل أمي يفتنك بقدرته على سرد حكاية، هو أن القص المنتمي لعالم الأدب يرى في مشهد أو في حكاية فرصة لإيجاد طبقات ثرية لمعنى، عبر الإيحاء والدلالات ولعبة الإخفاء، حكاء الشفاهة لا يرى سوى طبقة واحدة من المعنى. ما نفعله بتعلم الحرفة والتكنيك ليس احترافًا لصنعة، بل استعادة “الغريزي والفطري” للقوانين الأساسية لكتابة قصة بشكل جيد.
فن القصة إذن ليس مجرد حكاية وليس مجرد سؤال، بل إنصات لزاوية رؤيتك، مدى عمقها وأصالتها هما ما يضعانها في مكانة جيدة أو ضعيفة.
سنتكلم جميعًا عن الموت مثلًا، لكن ما الرؤية الأصيلة والزاوية التي تقدم لنا بها معناه، هل الخوف؟ هل هو ولادة جديدة، جزء من الحياة، جريمة أبدية متكررة؟ إلى آخر معجم “محفوظ” التفصيلي.
اقرأ أيضًا.. رحلة “السندريلا” مع نجيب محفوظ”.. فقر وحب وسياسة
أغلب القصص القصيرة تأتي للذهن عبر مشهد يرى الكاتب ورائه فرصة لإيجاد طبقات ثرية لمعنى، وهو ما يفرق الكاتب عن الحكاء الشفاهي، لكن دون ذلك المعنى والرؤية، أنت مجرد حكاء بارع أو بيست سيللر لعبته ضحالة المعنى ووضوحه الفج.
يفعل نجيب محفوظ العكس تمامًا.
ما يفعله محفوظ بالضبط هو سرد بعينين مقلوبتين إلى الداخل، إنه يوجد معادلًا إنسانيًا للأفكار والأسئلة، يكسوها لحمًا وعظامًا واقعيًا. روتين الترقي الوظيفي للموظف، الحارة، التكية، المرأة.
يخترع لها المشهد الذي تتحرك داخله شخوصه، عبر طبقتين واحدة سطحية والأخرى تخفي طبقات أعمق (أليس كل قصة تنتمي لعالم الأدب تكتب هكذا؟ ظاهر معلن وباطن لا يكف عن الإيحاء بالدلالات) إذا ما قررت أن قصة زعبلاوي الشهيرة، هي مجرد طبقة خارجية، فلن تعجبك القصة طبعًا، لن تجد قصة إلا عن رجل أحمق يقرر أن يبدد طاقته في بحث عبثي عن شخص آخر، لن تفهم حتى مبعث حزنه وحيرته عندما فشل في إيجاده، لكن عبر إنصات اليقظ والحالم: تتحول إلى رجل يتلمس معنى الوجود، يبحث عن ذاته، عن الله، أو أي دلالة يفجرها الفن.
ما أدخله محفوظ إلى عالم القصة العربية وهو أمر لا يقل خطورة عن الأمثلة الروائية التي ابتدع لنا طرقها، حتى أننا لم نفهم متى يكف ذلك الرجل عن التجريب والاقتحام والكتابة، هل بعد الثلاثية؟ لا.. هل بعد الحرافيش؟ لا، بعد نوبل؟ لا.. بعد أن ترتعش اليد وتكل الأذن ويضعف البصر ويطعن في السن، حتى أننا قد نسأل ألم تقل كل شيء بعد؟ لا..
لأن من بدأ لعبة الأدب وقد قرر أن يستمر سواء نجح أو فشل. أدرك جوهر المسألة كلها. محبته للكتابة تفوق محبة ما حولها، لا تلهي كنوزها وإن أتته صاغرة عن هذا الالتفات. لأن من ظل شكه لا يقينه يحركه، سيسعى لتجريب كل شكل.
هكذا لامس حقيقة الأمر. عدوه الوحيد كان الموت، ونحن نعلم الآن من الذي عبر رفض مستمر لكل ما يلمع، قد انتصر.