في نكتة أجنبية لاذعة، صيغت على شكل قصة مصورة (كوميكس) من لقطتين، تقول أم لطفلتها في اللقطة الأولى، وبحزم شديد، إنه لا وجود لأصدقائها الخياليين، ثم في اللقطة الثانية، تظهر الأم في الكنيسة، وقد اصطحبت طفلتها معها، وكلتاهما تخفضان الرأس للصلاة في خشوع.
إذا لم تفهم النكتة، التي قد تحتوي على شيء من التجديف، فيمكن القول باختصار، إنه في العالم غير المادي، عالم الخيال، أو عالم الغيب، أو عالم الإيمان، لا فضل لإيمان على آخر، فليس من حقك أن تسخر أو تنفي ما يؤمن به الآخر، معتقدًا أن إيمانك هو “الحقيقة”، أما الأهم، فهو أنك قد لا تستطيع أن ترى، أن ما تصم به الآخرين، قد يكون موجودًا بحذافيره فيما تؤمن به أنت، وأنت لا تدري.
قفزت هذه النكتة إلى ذهني حين قرأت واستمعت إلى تصريحات دكتور الباطنة الشهير حسام موافي، التي نفى فيها العلاقة بين التدين والمرض النفسي، معتبرًا أن “القريب من ربنا” لا يصاب بالأمراض النفسية إطلاقًا، قبل أن يحاول تخفيف هذه التصريحات فيما بعد، بالقول إن المرض النفسي يصيب المؤمن “بنسبة أقل” مما يصيب غير المؤمن.
اقرأ أيضًا.. “فتاة البلكونة” أو المصير بعد إخلاء السبيل
لكن ما علاقة النكتة المذكورة بتصريحات دكتور موافي؟
العلاقة وثيقة ومتعددة حتى أنه لا يمكن ذكر جميع جوانبها، ولكن نكتفي بالقول، إن الدكتور موافي، وهو يفكر في طبيعة “المريض النفسي”، لم يخطر على باله – مثلًا- كل هؤلاء الإرهابيين، الذين يطوّقون أنفسهم بالأحزمة الناسفة، ليفجروا أنفسهم في عشرات ومئات الأبرياء، معتقدين تمامًا أنهم في اللحظة التالية، سوف يكونون في الجنة بين حور العين.
لم يخطر على بال دكتور موافي، كل هؤلاء المشايخ المهووسين بالنساء، والذين يتمحور 99% من خطابهم حول جسد المرأة وشعر المرأة وحواجب المرأة ورموش المرأة وملابس المرأة، في سلوك شديد الهوس يستطيع تمييزه أصغر دارس لعلم النفس، هذا فضلًا عن “دعاة” آخرين، يمكن ملاحظة عشرات الاضطرابات النفسية الواضحة في خطابهم، بدءا من البارانويا وعقدة الاضطهاد، وصولًا إلى اعتناق كل الخرافات الممكنة.
هذا دون أن نلفت نظر الدكتور موافي إلى عنابر المصحات والمستشفيات النفسية التي تعج بالكثير من “المهدي المنتظر”، ولا الذين يقدمون على الانتحار حتى في أكثر أماكن الأرض قدسية، ولا الالتفات إلى ضرورة إجراء بحث منهجي، وفق مناهج الإحصاء العلمية، قبل الحديث عن أي نسبة مئوية تخص العلاقة بين المرض النفسي والتدين، أقول لا نلفت نظر الدكتور إلى هؤلاء لإنهم بالفعل صاروا في معيّة العلاج النفسي، فهم إذا خارج نطاق النكتة الأجنبية اللاذعة، فالأهم، أن الدكتور لم ينتبه إلى السلوك “المجنون” لدى الكثيرين ممن ينظر إليهم على أنهم دعاة دينيين أو متطرفين وإرهابيين.
لماذا لم ينتبه الدكتور موافي إلى ذلك؟ ولماذا لن ينتبه؟ قد تكمن الإجابة في كلمة “الدروشة”.
اقرأ أيضًا.. “إعلان صلاح” بين فقاعتين
لكلمة الدروشة معنى أصلي، هو وصف لبعض الزهّاد الفقراء من متبعي الطرق الصوفية، إنهم شديدو الفقر، لا يعملون، يعيشون على إحسان أهل الخير، ويتواجدون عادة حول أضرحة الأولياء، بعضهم يحفظ أو ينشد الشعر والأدب، وهم عادة، و”بالبلدي”: “كافيين خيرهم شرّهم”، يظهرون في روايات نجيب محفوظ، كأشخاص غامضين، منعزلين، يتغنون بأناشيد غير مفهومة، لا يظهرون خيرًا ولا شرًا.
لكن لكلمة “الدروشة” في المخيال الشعبي معنى آخر، فهم حين يقولون إن فلانًا قد “اتدروش”، فهم يشيرون عادة إلى شخص شهير، ذي مال أو نفوذ أو قوة وسلطة، صار متدينًا فجأة، يرجو رضا الله، ويستضيف “الحضرات” الصوفية، ويعمل لآخرته أكثر من دنيته، كما يتصوّر.
غير أن أوقاتنا المعاصرة، قد أتاحت لنا أن نرى أصنافًا أخرى من الدروشة، لا هي بترك الدنيا والناس وملاحقة الموالد والأولياء، ولا هي بعمل الخير والاستعداد للآخرة، وإنما هي دروشة تستغل الهوس الديني العام، وتحوّل كل ما هو علميّ إلى اللغة الدينية، وتلعب على وتر ما يسمى “الإعجاز العلمي”، وهكذا بدلًا من أن يسهم العالم أو الطبيب الشهير في زيادة الوعي بتخصصه العلمي، أو حتى “يكفي خيره شره” كالدرويش القديم، إذا به يحدثنا عن “صلاة الفجر التي تحمي من الجلطة”، و”الآية القرآنية التي تفسّر شيب الرأس”، و”الوقاية من الأمراض النفسية بالتقرب إلى الله”، “والفوائد الصحية لصيام رمضان” وغيرها مما يتلقفه العامة من “أساتذة” يفترض أن يكونوا محل ثقة، فإذا بهم يكونون سببًا في جرائم قد يرتكبها أهل ضد أطفالهم بإجبارهم على التدين بدلًا من استشارة الطبيب النفسي، أو جرائم يرتكبها آخرون ضد أنفسهم بإلزام أنفسهم بالصيام وهم ليسوا قادرين صحيًا عليه، فإذا بنا نقرأ كل يوم عن أخبار عنوانها “مات وهو صائم”، من دون أن يهتز للدرويش المعاصر شعرة من ضمير.