إذا وضعت قدمك في وسيلة مواصلات مثل مترو القاهرة الكبرى وقت الذروة، ستشاهد حالة من الفوضى لا مثيل لها؛ فمع توقف المترو في المحطات المختلفة، ستشاهد تدافعًا قاسيًا، سترى أناسًا يتدافعون للنزول وآخرون يتدافعون للركوب في الوقت نفسه، لا ينتبه شاب قوي لشيخ كبير أو عجوز ضعيف، كما لن تجد أحدًا ينشغل بطفل صغير أو مريض يحتاج مساعدة، ولكنك إذا وضعت قدمك في الوسيلة نفسها (أي المترو) في غير أوقات الذروة أو في وقت متأخر من اليوم ستجد شعبًا آخر، لا علاقة له بهؤلاء الذين كانوا في المترو قبل ساعات قليلة فقط، فقد تجد فتاة في مقتبل العمر تقوم لشيخ كبير لتجلسه مكانها، وقد تجد فتى قبل أن ينزل يأخذ بيد امرأة في عمر أمه ولا ينزل قبل أن يطمئن إلى دخولها الآمن نحو مقعدها!
المصريون وقت الذروة هم المصريون في غير وقت الذروة، فما الذي حدث؟
الذي حدث هو سلوك طبيعي للبشر وقت الزحام، ففي الزحام يبحث الإنسان عن خلاصه الفردي، ولا يهتم بأي قيمة، لا يفكر في مريض أو طاعن في العمر، وحين ينتهي الزحام يبدأ الفرد في التفكير في القيمة، لينسجم سلوكه مع قيمه الاجتماعية والدينية والإنسانية! فكيف نعالج هذه الفوضى المزدحمة؟ هذا ما نحاوله في الفقرات التالية.
اقرأ أيضًا.. كرة القدم ومهاجمة “رَجُلٌ من القَشّ”
أسبوع الأحزان!
قد لا تكون حوادث الأسبوع الماضي– على قسوتها وشدة عنفها- سوى حوادث عادية، بل وقابلة للتكرار بالنسبة لأمة يتجاوز عددها 100 مليون نسمة، وتعيش على أقل من عشرة بالمائة من مساحتها البالغة مليون كيلو متر مربع، فالحوادث في هذا الزحام الشديد تبدو طبيعية ومفهومه (الفهم قطعًا لا يعني القبول أو الرضى) وإذا أضفنا أن الزحام الذي نعيش فيه -وهو من أعلى النسب العالمية- يرافقه غياب واضح لثقافة النظام والقانون، وتراجع مستمر في النمو الحضاري والثقافي، ويتزامن مع ذلك كله مع شدة اقتصادية تزداد وطأتها مع الأيام!
فإذا أخذنا ما سبق في الحسبان بدت لنا حوادث الأسبوع الماضي المفزعة حوادث طبيعية أو متوقعة، لا تخص المصريين وحدهم، وإنما تخص كل جماعة إنسانية تجد نفسها في هذا الوضع الصعب (فوضى وزحام).. فالإنسان –داخل الزحام- يعيش استجابات غريزية واحدة، يلتقي فيها الإنسان المصري مع الأوروبي مع الأسيوي.. إلخ
فالظاهرة تحتاج مزيدًا من الفحص والدرس، وتحتاج أن يتوقف الجميع إزاءها لنقدم فهمًا أعمق لها، لنتمكن في في النهاية من حلها أو تقليل وطأتها.
ولعلك لا تحتاج إلى تأمل طويل، كي تدرك الأثر السلبي أو قل المدمر الذي نتج عن تراجع أو غياب ثلاث مؤسسات في العقود الأخيرة، وهو ما انتهى بنا إلى هذه الفوضى، وجعل الجرائم الجنائية تأخذ حيزًا أكبر من طبيعتها على مستوى الشعور بها، ويأتي على رأس هذا الغياب:
اقرأ أيضًا.. قدَم في الواقع وأخرى في الخيال..!
أولًا: مؤسسة التعليم (المدارس والجامعات)
لقد تراجع الدور الطبيعي الذي كانت تقوم به المدارس في بناء شخصية الإنسان، وتكوين سلوكه العام في التعامل مع أقرانه داخل المؤسسة التعليمية، سواء أكان الأقران من جنس الذكور أم الإناث، وسواء أكانوا ممن يتفقون معه دينيًا أم كانوا من المختلفين عنه، هذه المساحة كانت تضبطها المدرسة، ومتراقب نموها الطبيعي الآمن، داخل الفصل ومع الأنشطة الفردية والجماعية وحضور واعٍ ومؤثر للأخصائي الاجتماعي والنفسي.
وهذا الاختلال الذي نتج عن غياب المدرسة يمكنك أن تمتد به لتصل إلى الجامعة أيضًا، إذ تغيب فيها الأنشطة الاجتماعية ويتراجع دورها بشكل مضطرد في بناء شخصية الطالب الذي بات داخلها رجلًا مسئولًا، يجب أن تتجسد في سلوكه قيم المجتمع وما يضعه في فضائه العام من أخلاقيات عامة، تمثل (الأصول) الاجتماعية لهذه الجماعة من الناس.
غابت المدارس وحضرت السناتر
في الفراغ الذي تركته المدرسة تمددت السناتر، وباتت وحشًا اجتماعيًا واقتصاديًا يتغذى على قيم التعليم والمجتمع، وفي الجامعة غابت قاعات المحاضرات وما يفترض أن يجري فيها من نقشات حرة حول كل الأفكار، وفي المقابل تمددت أكشاك بيع الملازم في منطقة بين السريات (وكل جامعة مصرية لديها بين سراياتها)!
لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر، ولك أن تشعر بالحزن إذا علمت أن لدينا أجيالًا قد تخرجت من التعليم وكل علاقتها بمؤسساته (المدارس والجامعات) أنها أماكن للحصول على ختم النسر أو شهادة التخرج فحسب!
ثانيًا: مؤسسة الإعلام!
لقد تراجع الإعلام بشكل مخيف، أو بتعبير أدق، تراجعت الحريات الإعلامية على نحْوٍ يحول دون المعالجة الحقيقية للظواهر الاجتماعية، فإذا كان الإعلام يقوم بدور الرقيب على جميع المؤسسات، باعتباره عين المجتمع وأداته للمتابعة والكشف، فإنه بالأساس يقوم بدور التوعية الجادة بالظواهر الاجتماعية، وذلك بمناقشتها من خلال المختصين الذين يبصرون الناس والمؤسسات معًا بأصولها وجذورها والأسباب التي أدت إليها!
في كل يوم لدينا جديد يستحق النقاش، لدينا ظواهر وأحداث هي في الغالب أعراض لأمراض أعمق وأكثر خطورة، وهي مرشحة للتكرار لأننا لا نفهم هذا العمق، ولا نعالج أسبابه التي لا نعرفها.. وهذه الأسباب لا يمكن الوقوف عليها دون قاعدة إعلامية مهنية، تمارس عملها بحرية، ودون خوف، والحرية اشتراط أولي، لا يمكن النيل منه أو تقييده، ولأن الحرية الإعلامية غير متوفرة، فبديهي أن نتوقع معالجات هزلية، تقوم على فكرة الإثارة، والأعلى مشاهدة، وركوب الترند، وتظل الظاهرة أو الحادثة دون معالجة حقيقية، ودون وعي متكامل بأبعادها التي قد تتصل لتربط ما بين النفسي والاجتماعي والديني والاقتصادي في رباط واحد.
اقرأ أيضًا.. الدين والسياسة والاستبداد
غاب الإعلام وحضر الشيوخ
ومع هذا التراجع المخيف للإعلام المهني الحر أو الحر المهني، كان طبيعيا أن يتقدم شيوخ – أقل ما يقال فيهم– أنهم يتحدثون في غير فنهم، فأخذوا مكان أساتذة علوم النفس والاجتماع والتربية، ولن أحدثك عن منصات إعلامية (رسمية) تفرد لبعضهم مساحات كبيرة ليحدثوا الناس في كل شيء، وإنما يكفيك أن تتابع المنصات الشخصية المختلفة التي يطلون منها على متابعيهم بشكل يومي، يعلقون على الأحداث والظواهر الاجتماعية، ويقدمون تفسيرًا ونصائح أقلّ ما يقال فيها إنها مختزلة أو مشوَّهة، وعاجزة عن رؤية أعماق المشكلة، وأحيانًا –وهذا مما يؤسف له- يقدمون التبرير للجاني، بمعنى أنهم يضعون اللوم على الضحية ويتركون الجلاد (راجع فقط حساب أستاذ أزهري مثل مبروك عطية وتعليقه على مقتل فتاة جامعة المنصورة على سبيل المثال لا الحصر).
ثالثًا: ثقافة القانون وغياب النظام
هناك غياب ملحوظ لثقافة النظام وحالة الفوضى، وهي بالتأكيد إحدى توابع أو نواتج تراجع الشعور بسلطة القانون في الشارع، وهذا التراجع يشجع شرائح واسعة من الناس على تجاوز القانون أو أن بإمكانهم الحصول على ما لا يحق لهم الحصول عليه (نظام الوساطة والمحسوبية)، ويجب أن نعترف بأن المحسوبية صارت نظامًا ونسقًا اجتماعيًا مهيمنًا، وأن الجميع بات يؤمن بها، ويفكر في الاستعانة بها قبل إنجاز أي مهمة، وحتى لو لم تكن موجودة في (كل) المؤسسات فيكفي أنها تحتل الوعي الجماعي الذي لا يقبل النقاش في دورها وتاثيرها، باعتبارها (سِلْو بلدنا)!
والمؤكد أن وجود هذه الظاهرة بحد ذاته يكفي لإحداث فوضى قيمية ونفسية في صدور الأفراد لا حد لها، فالطبيعي أن الذين لديهم قدرة على النفوذ ثم استغلال هذا النفوذ لتحقيق مصالح شخصية على حساب القانون، من الطبيعي أن يكون هؤلاء قلة قليلة؛ (إذ لا يملك الجميع نفوذًا)، ولكن هذه القلة المتنفذة تترك شعورًا (عامًا) بالظلم والعدوانية لا حد لهما في نفوس الكثرة الذين لم يتمكنوا من إيجاد من يتوسط لهم!
نحن نتكلم إذن عن العدالة الاجتماعية، وهي ليست مجرد كلمة أو فكرة تقال في المواسم السياسية المختلفة أو تقال على سبيل المزايدة، وإنما هي قضية أساسية، وغيابها يمنح الفساد رخصة اختراق ما هو أخلاقي أو إزاحة ما هو أخلاقي جانبًا، وهنا يتحول الفساد من ظاهرة اجتماعية إلى أسلوب حياة، كل فرد يجد مبررًا أخلاقيًا لفساده، ومع الوقت تتحلل القيم التي تميز جماعة من الناس بأنهم أمة ذات هوية خاصة.
وهناك يمكنك أن تتساءل مجددًا وبمزيد من الحسرة والألم: ماذا حدث للمصريين؟!