لا يُمكن القبول بأن تظل اللعبة الشعبية الأولى في بلد مثل مصر يتخطى تعداد سكانه 100 مليون نسمة نشاطًا استثماريًا غير مربح، وأن تظل كرة القدم في مصر منصة للعشوائية والتخبط وسوء التخطيط. يتهافت الساسة ورجال الأعمال حول العالم على الارتباط والظهور في مشهد كرة القدم والانخراط فيها عبر بوابات الرعاية والإعلان ومجالس الإدارات بحثًا عن عوائد ومنافع تعود عليهم بأشكال عدة، من زيادة النفوذ السياسي والاجتماعي أو الترويج للشركات والمصانع الخاصة عبر الإعلانات المباشرة وغير المباشرة.
تُعاني الأندية الخاصة التي تبحث عن فرصة استثمارية في قطاع كرة القدم نتيجة لضعف الهيكل والإطار التنظيمي وقلة العوائد من نشاط كرة القدم، كما تحدثنا بالتفصيل سابقًا، نتيجة غياب القواعد الرأسمالية التي تجعل من قطاع كرة القدم جاذبًا للاستثمار الخاص. فلدينا على سبيل المثال تجربة استثمارية منذ سنوات في نادي ” إف سي مصر” الذي أُنشأ عبر شركة خاصة، من أجل بدأ مشروع استثمار رياضي عبر الوصول للدوري الممتاز من خلال نادي رياضي ثم تحقق الشركة عوائد على الاستثمار من خلال أرباح البث التلفزيوني وتطبيق دوري المُحترفين، لكن وبكل أسف إنهار الوضع المالي للنادي والشركة بعد الصعود للدوري المُمتاز، فبلغت إجمالي عوائد البث التلفزيوني لهذا النادي 8 ملايين جنيه فقط في حين تخطت النفقات 40 مليون جنيه سنويًا نتيجة تضخم عقود اللاعبين وغيرها من التكاليف، ما دفع مُلاك النادي لسرعة التخارج من السوق وبيع النادي لشركة أخرى بسبب صعوبة الاستمرار في مناخ استثماري سلبي لهذا الحد.
اقرأ أيضًا.. الكرة المصرية والاقتصاد.. استثمار بلا عوائد ومليونيرات بلا ضرائب!
بالتالي يجب أن ينتهي عصر التعامل مع الكرة كمجرد لعبة ترفيهية ونُعاملها بحقيقتها كنشاط اقتصادي له قاعدة جماهيرية كبيرة، وهو ما يتطلب بالضرورة سرعة التعاون والتخطيط الجيد بين وزارات الرياضة والتخطيط وهيئة الاستثمار والإعلام وروابط الأندية واتحاد الكرة ونواب البرلمان وخبراء الرياضة والاستثمار وكافة الجهات المعنية لوضع قطاع الرياضة في الطريق الصحيح.
أتصور أن تكون أجندة هذه اللقاءات هي وضع خطة هيكلية لخصخصة النشاط الرياضي عبر شراكات بين الحكومة التي دعمت الأندية بالبنية التحتية مع القطاع الخاص عبر نسب مئوية متوازنة تُتيح بداية التحول الرأسمالي المطلوب، ومن ثم توضع خطة لتأسيس شركات استثمارية لأندية كرة القدم خلال 3 سنوات بحد أقصى بعد استيفاء كافة المتطلبات لذلك وإمكانية جذب الاستثمارات وطرح الشركات بالبورصة.
وليس بالبعيد في هذا السياق التجربة التي حدثت في السنوات الأخيرة مع مراكز الشباب، حيث أتاح قانون الهيئات الشبابية الصادر في 2017، منح مراكز الشباب مرونة في جني الأموال من خلال خصخصة بعض الأنشطة مثل تأجير الملاعب وتقديمها كفرصة استثمارية أمام القطاع الخاص بنظام حق الانتفاع، والتي أدت إلى تحسين عوائد وأرباح مراكز الشباب في ظل نقص التمويلات المقدمة إليها من وزارة الشباب والرياضة، وهو ما يعطي تصور عن أهمية التحرك على المستوى الأكبر ” النوادي” للتحول الرأسمالي الكامل، والمستويات الأصغر “ملاعب الأرياف” بجانب مراكز الشباب التي تصلح كمورد رئيسي للثروة البشرية من المواهب التي يمكن اكتشافها في وجود منظومة احترافية استثمارية.
يستوجب أيضًا تحفيز شركات القطاع الخاص ورجال الأعمال على الاستثمار في المجال الرياضي وفي مجال كرة القدم بشكل خاص، عبر خلق حوافز ضريبية لإنشاء أندية جديدة خاصة في المحافظات والمراكز التي تقل فيها البنية الرياضية التحتية، أو عبر برامج محددة لرعاية المواهب في الألعاب الفردية عبر الخصم الضريبي من المنبع بشروط محددة.
يتطلب الإصلاح وضع حوافز بالإعفاءات الضريبية لفترة مُعينة لإنشاء شركات قواعد البيانات الرياضية، والمتخصصة في جمع البيانات للاعبين في الرياضات المختلفة، وعمل إحصائيات عنهم، وقياسات للأداء عبر آليات حديثة ومتطورة، تساعد الأندية والاتحادات الرياضية على اكتشاف المواهب الرياضية في الألعاب المُختلفة، وبالتالي يتطور القطاع الرياضي عبر آليات احترافية حقيقية تبتعد عن الفهلوة والوساطة وضلالات وتفاهات البرامج الرياضية التي يملؤها لاعبين سابقين على المعاش لم يقرأوا كتابًا أو يحصلوا على دورة متخصصة في التدريب أو التحليل تؤهلهم للعمل في دوريات ودول تطبق نُظُم الاحتراف، فضلًا عن أطنان التنمر والتحريض والكلمات غير اللائقة التي نشاهدها من هؤلاء “المحللين” والإعلاميين.
اقرأ أيضًا.. بعد قرار الفيدرالي الأمريكي.. هل يتحمل الاقتصاد المصري رفعًا جديدًا في سعر الفائدة؟
ينبغي على رابطة الأندية التي شُكلت أخيرًا هذا العام -بينما تشكلت رابطة الأندية التونسية عام 1994- أن تضع قرارًا أو نصًا لائحيًا يضع شرطًا من الموسم الرياضي القادم، بأن تكون نسبة الإنفاق على لاعبي كرة القدم واستقدام اللاعبين عبر نسبة من الدخل السنوي للنادي لا تزيد عن 70% – 90%، كما تشترط رابطة الأندية الإسبانية لضبط النفقات وأسعار اللاعبين بشكل نهائي.
نحن إذًا في حاجة ماسة أن نبدأ في مرحلة جديدة من التعامل الضريبي مع عقود لاعبي كرة القدم، رُبما نحتاج فقط لتطبيق قانون ضريبة الدخل وإنشاء شُعبة أو قسم خاص على غرار كبار الممولين بوزارة المالية، تكون مهمته فقط عقود لاعبي كرة القدم، وأرصدتهم البنكية، ومراجعة أجرهم الأساسي وكافة الأجور الإضافية ( لقاءات تلفزيونية، إعلانات، عقود رعاية خاصة، وغيرها ) للتضييق على أفكار ومحاولات التهرب الضريبي أو الضغط على الأندية لتحمل الضريبة بدلًا عنهم.
كما أتمنى أن تدرس الحكومة ونواب البرلمان ما إذا كانت هناك حاجة لتطوير تشريع الضريبة على الدخل أو باستحداث قانون جديدة للضريبة الرياضية يُراعي خصوصية هذا النشاط وحجمه، خاصة وأن إجمالي حجم ضرائب المهن الحرة والتي تشمل فئات مثل لاعبي الكرة والفنانين والأطباء والمهندسين والمحاميين هو 54 مليار جنيه فقط من إجمالي حصيلة ضريبية تتخطى الـ983 مليار جنيه بنسبة 5.4% وهو حجم حصيلة يقل عن ضرائب موظفي الحكومة بفارق يقترب من الضعف.
مُنذ طفولتي وأنا أسمع عن خطط رياضية لإنشاء دوري المحترفين وأن تكون مباريات الدوري مُذاعة بجودة عالية وتستطيع الأندية الحصول على أرباح تُساعد على التنافسية الشديدة فيما بينها، وإلى اليوم لم تنته هذه الأفكار إلى واقع حقيقي، فلا يزال إجمالي نشاط الرياضة المصرية حسب إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ما قيمته 61.2 مليار جنيه بما يشمل شركات الملابس الرياضية ومراكز اللياقة الرياضية “الجيمانزيوم”، بينما تبلغ إيرادات الدوري الإنجليزي من تذاكر المباريات فقط ما يتخطى الـ700 مليون دولار، وتتجاوز إيرادات البث التلفزيوني ما قيمته 6.5 مليار يورو! وهي أضعاف مضاعفة لما تجنيه الرياضة وأنديتنا المصرية بل وقيمتها الرأسمالية مجتمعة.
تأخرنا كثيرًا لكن لا تزال أمامنا كدولة ومجتمع فرصة مواتية للتطوير وتحديث القطاع الرياضي وهيكله بالكامل، والكرة في ملعب الجميع حكومة وبرلمان وأندية، لنعالج الخلل الحقيقي للأزمة ونسير في ركب التطور والتحديث والعمل الجاد بدلًا من استمرار الفوضى والعشوائية والفهلوة وانتظار المنح والأقدار الإلهية لتحقيق الإنجازات من رحم ما سبق، فهل من مُستجيب لهذا النداء؟
الدكتور محمد سالم، باحث في دراسات التنمية الاقتصادية