في كولومبيا فاز جوستافو بيترو بالرئاسة ليصبح “أول رئيس يساري” في تاريخ البلد الذي عُرف دائما بسيطرة النخب اليمينية المحافظة على الحكم. ولكن صعود بيترو إلى الكرسي لم يكن بمعزل عمّا يجري في أمريكا اللاتينية التي تشهد منذ عام 2018 حُكما يساريا تلو الآخر. كما يتولى حكام يساريون يصفهم الغرب بالمستبدين السلطة في كوبا وفنزويلا ونيكارجوا منذ سنوات.
فاز مرشحو يسار الوسط بالانتخابات الرئاسية في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي والمكسيك وبيرو، وأخيرا كولومبيا. وهو ما يجعل موجة صعود اليسار تتجلى في أكثر صورها إثارة لقلق الولايات المتحدة التي ترى “حديقة خلفية” أخرى يصعد إليها اليسار. وذلك في وجود رئيس يساري (للمرة الأولى منذ 40 عامًا) في المكسيك، جار واشنطن وبوابتها الخلفية، والتي لطالما كانت خاضعة لنفوذها بشكل كبير.
ويطلق على صعود اليسار في أمريكا اللاتينية “المد الوردي”. والذي يبدو أنه مرشح للتوسع، حيث يتقدم المرشح اليساري والرئيس السابق لولا دا سيلفا في البرازيل، أكبر دولة بالمنطقة من حيث عدد السكان. في استطلاعات الرأي قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في أكتوبر/تشرين الأول من العام الجاري. الأمر الذي قد يعزز تحوُّل أمريكا اللاتينية إلى اليسار، خاصة بعد التدهور الواسع الذي أنتجته الجائحة -ثم الحرب الروسية الأوكرانية- والتي سرّعت بجانب عوامل بنيوية أخرى من سخط الشعوب اللاتينية على السياسات الاقتصادية التي فاقمت معاناتها.
وأظهر استطلاع في مايو/أيار الماضي أن لولا دا سيلفا أو أي مرشح يساري محتمل آخر سيفوز في انتخابات الإعادة ضد الرئيس الحالي، جايير بولسونارو، الذي تعرض لانتقادات على نطاق واسع بسبب تعامله مع جائحة كوفيد-19.
وإذا ما تحققت تلك التوقعات فإن أكبر الاقتصاديات في أمريكا اللاتينية (البرازيل والمكسيك والأرجنتين وكولومبيا وتشيلي) ستكون جميعها يحكمها اليسار. وبعد ذلك، لن يكون لأمريكا الجنوبية سوى حكومات محافظة في باراجواي (ماريو عبدو بينيتيز) وأوروجواي (لويس لاكال بو) والإكوادور (ويليام لاسو)، والأخير يواجه معارضة يسارية قوية.
بينما يظن محللون أن عودة دا سيلفا المحتملة ستعمل على تنشيط “بريكس” (تجمع اقتصادي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا وينادي بالتعددية القطبية). علاوة على ذلك، وللمرة الأولى منذ سنوات عديدة، فإنه يمكن لأكبر أربعة اقتصادات في أمريكا اللاتينية -الأرجنتين والمكسيك والبرازيل وكولومبيا- أن تعمل بدرجة معيّنة من التناغم وتتحدى موقف منظمة الدول الأمريكية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة.
وقد شاهدت الأخيرة، رئيس كولومبيا الجديد (وهي بلد “حليف رئيسي من خارج الناتو”) يعلن في أول يوم رئاسي سعيه إعادة العلاقات الدبلوماسية مع فنزويلا مجددا، حيث الرئيس نيكولاس مادورو الذي لا يعترف البيت الأبيض بشرعيته. كما سبق وأن عارض اتفاقية التجارة الحرة مع واشنطن والتي اعتبرها مجحفة لفلاحي بلاده، وانتقد أيضا سياسات البيت الأبيض في مكافحة المخدرات.
ما وراء موجة اليسار العاتية
قطع اليسار في أمريكا اللاتينية أعظم خطواته مع أول ما يسمى بـ”المد الوردي” للزعماء الاشتراكيين في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وانضم إلى هوجو شافيز، الرئيس الفنزويلي الراحل، وإيفو موراليس رئيس بوليفيا، ورئيس نيكاراجوا دانييل أورتيجا -الذي لا يزال في السلطة- راؤول كاسترو من كوبا ولولا في البرازيل ورافائيل كوريا من الإكوادور.
ولكن مع انحسار طفرة ارتفاع أسعار السلع التي ساعدت على تمويل البرامج الاجتماعية التي دافعوا عنها، هدأت تلك الموجة وعاد اليمين -مع شخصيات مثل بولسونارو في البرازيل، وإيفان دوكي في كولومبيا، وموريسيو ماكري في الأرجنتين، وسيباستيان بينيرا من تشيلي.
ولكن ما أن يدخل اليسار إلى الحكم حتى يخرج منه ليعود إليه مرة أخرى. إنها “عملية كر وفر” تشهدها دول القارة. يحكمها عاملان رئيسيان؛ الأول، مدى قدرة هذه القوى على الاستفادة من المناخ الداخلي. والعامل الثاني، مدى تراجع تأثير واشنطن على هذا الداخل، بحسب علوان أمين الدين، مدير مركز “سيتا” للأبحاث.
وتعتقد إليان بطرس، الباحثة بقسم العلاقات الدولية بمركز “جسور للدراسات الاستراتيجية”، أن فشل الولايات المتحدة فى الإطاحة بالنظامين الفنزويلي والكوبي بدأ في خلق مساحة أكبر للنمو اليساري في أمريكا اللاتينية، وهو ما تشهده اليوم كولومبيا التي تعد ثالث أكبر دولة فى أمريكا اللاتينية وواحدة من أهم حلفاء الولايات المتحدة.
ولفتت في هذا الإطار إلى أن الشعوب اللاتينية حاولت استيعاب الموجات اليمينية على مدار السنوات الماضية. على أمل أن تتحسن الظروف المعيشية لشعوبها وأن تعاد ثرواتها وتواجه الفساد المتفشي. ولكن بدت الحركة اليمينية فى حالة ضعف وهو ما أتاح الفرصة لإعادة تواجد اليسار.
ويولي قادة الجيل الجديد من اليسار اللاتيني، اهتمامًا أكبر بقضايا حماية البيئة ومكافحة التغير المناخي ودعم الطاقة النظيفة والنسوية والاهتمام بالأقليات. مما يجذب المزيد من الدعم من الناخبين الشباب. كما أن هذا الجيل من ممثلي الجناح اليساري بارعون في اكتساب المزيد من النفوذ. من الشباب عبر منصات التواصل الاجتماعي.
ولكن أوليفر ستونكل، أستاذ العلاقات الدولية في البرازيل، يلفت إلى الاختلافات البينية بين الحُكام اليساريين في القارة اللاتينية. فبينما يهتم الشاب الثلاثيني جابرييل بوريك في تشيلي بالسياسات البيئية والجندرية وحقوق المثليين والمساواة بين الجنسين. فإن خوسيه كاستيلو في بيرو يبدو محافظا للغاية عندما يتعلق الأمر بالسياسات الاجتماعية. فهو يفضل إعادة تطبيق عقوبة الإعدام ويعارض بشدة الإجهاض الاختياري وزواج المثليين.
ويمكن تفسير هذه الاختلافات الملحوظة جزئيًا بين القادة اليساريين بالمجتمعات التي ينحدرون منها. بحسب ستونكل. فبعض البلدان أكثر ليبرالية اجتماعيًا من غيرها. نتيجة للديناميكيات التي تنطوي على مجتمع مدني شديد التأثير -في أماكن مثل تشيلي والأرجنتين- أو نمو الكنائس الإنجيلية -التي يميل أتباعها إلى أن يكونوا أكثر تحفظًا اجتماعيًا- في بلدان أخرى، مثل البرازيل.
الأوضاع الاقتصادية كمحرك أول
اتصل صعود اليسار بعوامل ثقافية عدة، كتجذر الإرث اليساري منتصف القرن العشرين، إلى جانب الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية التي تتجلى في تدني مستوى المعيشة والتفاوت الطبقي الواضح. جراء إخفاق تجارب التنمية النيوليبرالية، المدعومة أمريكيا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. بحيث شهدت تسعينيات القرن العشرين عودة الشعبوية مجددا بعد أن خفتت لعقدين كاملين. بعد فشل تلك السياسات في إرضاء طموح ومطالب المواطنين.
من هنا، يرى كثير من المراقبين بأن صعود اليسار دائما ما يأتي كرد فعل على سياسات “النيوليبرالية” لا سيما على الصعيد الاقتصادي. كتخفيض الدعم الحكومي للسلع الأساسية، ولمدخلات العملية الإنتاجية، ومحاولة جذب الاستثمارات الأجنبية. فضلا عن التوسع في عملية الخصخصة.
أما على الصعيد الاجتماعي، عادة ما تكون السياسات الداخلية غير متوافقة مع المتطلبات الحقيقية للمواطنين. خصوصا لجهة نوعية الخدمات وتقديمها للطبقتين الوسطى والفقيرة، اللتان تشكلان النسبة الأكبر من شرائح المجتمع. وأبرزها تدهور مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وتراجع المداخيل، وفقا لعلوان.
وتشير التقديرات بأن نسبة كبيرة من اللاتينيين، تصل إلى حدود 71%، يعتقدون أنهم محكومون من قبل الطبقة “الأوليجارشية”، التي لا تراعي إلا مصالحها الخاصة ومصالح السوق. في الوقت الذي تتعامل الحكومات اللاتينية مع فضائح الفساد والجرائم المرتفعة والاقتصادات الراكدة.
وأظهرت بيانات البنك الدولي أن النمو الاقتصادي السنوي من 2013 إلى 2019 كان 1.2% في المتوسط للمنطقة. وقدّر صندوق النقد الدولي أن دخل الفرد في المنطقة بحلول عام 2025 سيكون هو نفسه في عام 2015.
وقد انخفض الفقر من 45.6% في عام 2003 إلى 27.8% في عام 2014، لكنه ارتفع منذ ذلك الحين حيث وصل إلى 32.1% في عام 2021. وفقًا للجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي التابعة للأمم المتحدة. بينما كان الفقر المدقع في عام 2021، عند 13.8%، هو الأعلى منذ 27 عامًا.
يشير ستيفن ليفيتسكي، مدير مركز ديفيد روكفلر لدراسات أمريكا اللاتينية في جامعة هارفارد، إلى أن المنطقة تعود إلى حالتها السابقة من السخط العام المرتفع من الدول الضعيفة. التي فشلت في بناء مؤسسات قوية والتي تكافح من أجل تقديم الخدمات الأساسية، من الصحة العامة والتعليم اللائق إلى شوارع خالية من الجريمة.
وبحسب “وول ستريت جورنال” فإن التحول المناهض للمؤسسات الحالية ليس له علاقة بالأيديولوجية بقدر ما يتعلق برد فعل عنيف ضد الأحزاب التقليدية من جميع الأطياف.
لصالح الصين؟
قال تشو تشيوي، الخبير في دراسات أمريكا اللاتينية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، إن التحول “اليساري” في سياسات أمريكا اللاتينية. كان واضحا وليس مفاجئا “بالنظر إلى طبيعة البندول بين اليسار واليمين في المشهد السياسي لأمريكا اللاتينية”. على الرغم من أن التحول من “اليمين إلى اليسار” جاء هذه المرة في وقت أبكر مما كان متوقعًا، في تقديره، إذ لم تمر دورة اليمين الكاملة المقدرة بعقد من الزمان.
ويقول خبراء لصحيفة “جلوبال تايمز” الصينية، إن “المد الوردي” المتجدد قد يكون في صالح الصين في الاستثمار الاقتصادي وتوثيق التعاون السياسي. مما يجعل وصول الصين إلى المزيد من الفرص واكتساب المزيد من الدعم من المنطقة أمرًا مرجحًا للغاية. وقد تساعد العودة المتوقعة لليسار في البرازيل. أكبر دولة في المنطقة وتمثل أكثر من 40% من اقتصاد أمريكا اللاتينية، على دفع الموجة إلى ذروتها.
ووفقا للصحيفة الصينية “عندما تواجه أمريكا اللاتينية قضايا اقتصادية ومعيشية، فإنها لا تتلقى ردًا إيجابيًا من الولايات المتحدة؛ كما أدى رفض (دونالد) ترامب -الرئيس الأمريكي السابق- وازدراءه لدول أمريكا اللاتينية. بشأن مسائل مثل الهجرة إلى زيادة الصراع بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية إلى حد ما”. وعلى المدى الطويل، أصبح “أمريكا اللاتينية المستقلة” و”النأي عن الولايات المتحدة” اقتراحًا سياسيًا من قبل اليسار.
ويُعتقد أن ظهور سياسيين يساريين في أمريكا اللاتينية قد يوسع دائرة أصدقاء الصين في المنطقة؛ نظرًا للتقارب في القيم الأيديولوجية والسياسية. يقول يانج جيان مين، خبير آخر في دراسات أمريكا اللاتينية في الأكاديمية الصينية للشؤون الاجتماعية، إنه إذا فاز اليسار في البرازيل هذا العام. فمن المتوقع أن تلعب مجموعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (CELAC) دورًا أكبر في توحيد دول أمريكا اللاتينية.
“التكامل الإقليمي المعزز في أمريكا اللاتينية سهّل دخول الاستثمارات الصينية إلى المنطقة، مما يعني المزيد من الفرص لجميع الأطراف المعنية”. بحسب يانج. ومع ذلك، حذّر من أن بعض اليسار في القارة قد يرفع معايير الاستثمار الأجنبي في التقييم البيئي، وقد تواجه بعض الشركات الصينية خطر إعادة التفاوض على العقود وإعادة تنظيم الفوائد.
وأوضح المختص الصيني “لكن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة تخسر أمريكا اللاتينية. هي تعمل جاهدة لجذب المزيد من اليساريين في أمريكا اللاتينية إلى جانبها. وقد استمالتهم إدارة (جو) بايدن بوعود رفيعة المستوى بشأن البنية التحتية ومساعدات الهجرة، وواصلت تعزيز التعاون مع اليساريين في حماية البيئة والتخفيف من حدة الفقر”.
تحديات جمّة
مع وصول بيترو إلى حكم كولومبيا فإن المهمة أمامه لن تكون سهلة في ظل سيطرة اليمين على البرلمان. كما أن وعوده بالتخلص من إنتاج النفط (خطته للتخلص التدريجي من النفط والفحم ستحرم كولومبيا من حوالي نصف عائداتها التصديرية) والانتقال إلى نموذج يتمحور حول الدولة. حيث سيوفر وظائف للعاطلين عن العمل، ويجعل الجامعات مجانية ويمنح الائتمان وسندات ملكية الأراضي للمزارعين الفقراء، لن تكون سهلة التحقق.
إذ تواجه كولومبيا توقعات اقتصادية قاتمة في ظل الأزمة العالمية. بجانب تفاقم المعادلة السياسية في دولة شديدة الانقسام (فاز بفارق 700 ألف صوت) والافتقار إلى الأغلبية في الكونجرس. ولكن خبرته السياسية الطويلة، في مجلس الشيوخ ومنصب عمدة بوجوتا، ستكون موضع ترحيب للتعامل مع تلك الأزمات.
وتتنبأ صحيفة “لوموند” الفرنسية بأنه في حين أن هناك سببًا للأمل، فإن الفوز في الانتخابات ليس سوى مقدمة للصعوبات التي يواجهها اليسار في أمريكا اللاتينية. كما ظهر في حالتي بوليفيا وتشيلي والأرجنتين.
والأخيرة يعاني رئيسها، ألبرتو فرنانديز، من انخفاض حاد في صورته في استطلاعات الرأي بالإضافة إلى انتقادات من داخل وخارج الحزب الحاكم في بلد يواجه اختلالات خطيرة في الاقتصاد الكلي. بما في ذلك واحدة من أعلى معدلات التضخم في العالم، ومشاكل التمويل والقيود المفروضة على الوصول إلى العملات الأجنبية التي تؤثر على العديد من القطاعات الإنتاجية.
تُظهر الحالة الأرجنتينية إذا أن القادة اليساريين في السلطة يواجهون قيودًا اقتصادية خطيرة، ومعارضة برلمانية توقف مشاريعها الطموحة، ومواطنون متعثرون ومتطلبون يختارون أحيانا الخيارات الشعبوية. لكنهم أظهروا أيضا استعدادهم لمعاقبة من لا يحتفظون بوعودهم. هذا في الوقت الذي تقل فيه الدلائل على أن بيئة الاقتصاد الكلي ستتحسن في أي وقت قريب.