صاحب تعبير “نصر بلا حرب” هو الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، وكان التعبير عنوان كتاب مهم له يؤصل أسباب انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، على الاتحاد السوفيتي، دون حرب، وذلك بانهيار العدو من داخله، ويستشرف فيه آفاق ما سمي وقتذاك بالنظام العالمي الجديد، تحت القيادة المنفردة الظافرة للنموذج السياسي الأمريكي. وهذا موضوع لا ينبئك فيه مثل نيكسون، صقر الحرب الباردة في عنفوانها، وصانع التحول الدراماتيكي في مجرياتها باسم عصر الوفاق الدولي، والاعتراف بالصين، ذلك العصر الذي دشن ظاهرة سيد اللعبة، كعلامة تجارية مسجلة حصريا باسم وزير خارجية نيكسون ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأشهر هنري كيسينجر، والذي سنرى توا إسهامه البارز في رسم طريق انتصار إسرائيل -بدون حرب- على العرب جميعا.

مناسبة هذا الحديث الآن هي زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن المرتقبة لإسرائيل والمملكة السعودية، في منتصف الشهر المقبل، فليست أزمة الطاقة المترتبة على الحرب الروسية الأوكرانية هي الموضوع الأهم في هذه الزيارة، كما يسود الانطباع لدى عموم المتابعين، وإلا لكانت اقتصرت على السعودية ودول الخليج، ولكن الرجل نفسه قال إن أمن إسرائيل يأتي في مقدمة الأولويات، الاستراتيجية لهذه الرحلة إلى المنطقة، وذلك بمعنى محدد هو ما يقرره مشروع القانون المقدم إلى الكونجرس الأمريكي بعنوان “الاتحاد الدفاعي العربي”، وبغض النظر عن المأساة المهينة وعن السخرية السوداء في حقيقة أن الكونجرس الأمريكي هو الذي سيشرع وينظِّر لوحدة دفاعية عربية، فهو مشروع يفرض بطريقة أقل صخبا واستعراضية، ولكنها أكثر فاعلية وحسما خطة ما كان يسمي بالناتو العربي ضد إيران، بمشاركة إسرائيل، وفقا لخطة كان قد طرحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في شهر مايو عام ٢٠١٧، في قمة عربية أمريكية في الرياض، ستحاكيها قمة الرياض المقبلة بعد ثلاثة أسابيع، ولكن بوجود بايدن بدلا من ترامب، وبإضافة العراق إلى دول مجلس التعاون الخليجي الست، وكل من مصر والأردن .

بوسع المراقب المهتم قليلا أن يستنتج لماذا ستفرض خطة الناتو العربي هذه المرة من خلال قانون يسنه الكونجرس، أو على الأقل يضعه الكونجرس في أجندته التشريعية قبل أن يصل الرئيس بايدن إلى المنطقة، إذ عندما يصل الإصرار الأمريكي إلى هذا الحد، فلن يكون هناك هامش للتردد أمام بعض الدول المطلوب انضمامها .

نعرف أن مصر والأردن لم تكونا متحمستين لخطة ترامب، ولهذا السبب لم يكتب لها النجاح منذ عام ٢٠١٧ حتى اليوم، وسرعان ما توقفت الاجتماعات المشتركة لرؤساء أركان حرب القوات المسلحة في بعض الدول العربية مع نظيرهم الإسرائيلي، بعد لقاء أو اثنين، بسبب قلة حماس مصر والأردن، وبسبب تردد المملكة السعودية في المشاركة الرسمية والعلنية في المشروع الأصلي، وفِي اجتماعاته الدورية، وذلك لأسباب تتعلق بنفور الداخل السعودي من التحالف مع إسرائيل، وبسبب حاجة السعودية الدائمة لمحلل (في صيغة شريك) عربي إسلامي سني مؤثر مثل مصر وتركيا وأحيانا باكستان في مثل هذه التحولات الكبرى، وهو مالم تتحمس له مصر بالذات في المرة السابقة، وهذا أحد السياقات الأساسية لقيام ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بزيارة كل من القاهرة وأنقرة في جولة واحدة منذ أيام، خاصة بعد أن تحدثت تقارير صادرة من عواصم البلدان الثلاثة عن وساطة سعودية لاستئناف جهود المصالحة المصرية التركية .

حين يأتي بايدن إلى الرياض مسلحا بقانون أمريكي أو مشروع قانون اسمه الاتحاد الدفاعي العربي، وحين يكون مقتضى هذا القانون هو ربط كل مبيعات ومعونات السلاح الأمريكي للدول العربية بانضمامها لهذا الاتحاد، وبانخراطها في الاستراتيجية الأمريكية للمنطقة ضد إيران بصفة مباشرة وعاجلة، وضد الصين بصفة آجلة وغير مباشرة حتى الآن، وحين تكون تلك الاستراتيجية في شقها العاجل والمباشر متطابقة مع الاستراتيجية الإسرائيلية، وبما أن واشنطن نفسها متأهبة لتوكيل إسرائيل عنها في ملء الفراغ الاستراتيجي في الخليج والمشرق العربي، ذلك الفراغ الناجم عن خفض الالتزامات الأمريكية العسكرية في المنطقة تمهيدا لزيادتها في الباسيفيك وأوروبا، وبما أن العرب المعنيين إما متلهفون على هذا الاتحاد الدفاعي تحت القيادة الفعلية لإسرائيل، وإما غير ممانعين، أو شركاء خلف الأبواب المغلقة في حقيقة الأمر، وإما مرحبون، ولكن بطريقة الهمس في الظلام كما قال بنيامين نيتانياهو، رئيس وزراء إسرائيل السابق عن الزعماء العرب الذين يتوددون الي تل أبيب، ويطلبون مساعدتها سرا، فهذا هو النصر المؤزر بغير حرب الذي حصلت عليه إسرائيل، بل هو النصر الذي حققته إسرائيل رغم فشلها العسكري في جميع الحروب الكبيرة نسبيا، التي خاضتها بعد حرب يونيو ١٩٦٧، إن لم نقل رغم هزيمتها، في تقدير الخبراء الإسرائيليين أنفسهم، كما سنرى توا .

قد تكابر الدعاية الإسرائيلية في إطار تكتيكات الحرب النفسية فتنكر الفشل العسكري في النتيجة النهائية لحرب أكتوبر، وتنفي الهزيمة في غزو لبنان عام ١٩٨٢، وفي حرب ٢٠٠٦ ضد حزب الله، ولكن الخبراء غير المعنيين هناك بالدعاية والحروب النفسية يرفضون هذه المكابرات، ولمن يريد فالمصادر متاحة في التحقيقات الإسرائيلية الرسمية في حروب ١٩٧٣، و١٩٨٢ و٢٠٠٦، ولكني أود اليوم أن أركز على شهادة المؤرخ الإسرائيلي الشهير آموتز آساسيل مؤلف كتاب (المسيرة الطويلة للحماقة اليهودية) أحد أكثر الكتب مبيعا هناك، ففي هذه الشهادة المنشورة في صحيفة جيروزاليم بوست يوم ١٢ يونيو/حزيران الحالي في الذكري الأربعين للغزو الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢، يعتبر آسايل هذا الغزو فشلا كبيرا، ويسخر من رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجين، ووزير دفاعه آرييل شارون اللذين كانا يعتقدان أن هذا الغزو سيكون نزهة، ولكنهما وبرغم وصول القوات الإسرائيلية إلى بيروت وإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان خسرا الحرب عسكريا وسياسيا، فمن الناحية العسكرية اضطرا لسحب القوات بسرعة إلى الشوف ثم إلى الجنوب، ليضطر رئيس وزراء تال إلى الانسحاب من جنوب لبنان من طرف واحد، بعد خسائر بشرية فادحة بالمقاييس الإسرائيلية، ومن الناحية السياسية فقد أدى ذلك الغزو إلى القضاء على القوة السياسية للطائفة المارونية في لبنان، والأهم إنه أدى إلى إطلاق المارد الشيعي في منطقة الشرق الأوسط، وهذه النقطة الأخيرة هي أصل وسبب مشروع الناتو أو الاتحاد الدفاعي العربي، الذي قلنا إنه يحقق لإسرائيل نصرا بلا حرب، بل برغم هزيمتها عسكريا وسياسيا في المواجهة، التي كانت هي البادئة بها، كما أنها سبب المفارقة التي أرصدها، وأكتب بسببها هذا المقال، أي المفارقة المتمثلة في قدرة إسرائيل على تحويل هزيمتها إلى نصر كبير بل أكبر من أحلامها، وقدرة العرب على تحويل نصرهم إلى هزيمة منكرة، ولكني قبل ذلك أود أن أضيف من جانبي أن نجاح ذلك الغزو الإسرائيلي للبنان في إخراج المقاومة الفلسطينية من الأراضي اللبنانية، كان في نهاية المطاف فشلا هو أيضا من جوانب أخرى، إذ كان الخروج من لبنان هو السبب المباشر لانطلاق المقاومة في الأرض الفلسطينية المحتلة نفسها، فلم تمض بضع سنوات على الخروج من لبنان حتى انطلقت الانتفاضة الأولى، والتي كان من نتائجها الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، واتفاقات أوسلو، وتأسيس السلطة الفلسطينية، مهما تكن تحفظاتنا على تلك الاتفاقات، ثم الانتفاضة الثانية، فتأسيس حركة حماس، والجهاد الإسلامي، فاعتراف الولايات المتحدة ذاتها بحق تقرير المصير الفلسطيني، وإقرار رؤية حل الدولتين، طبعا مع إدراكي لإصرار إسرائيل وحلفائها في الساحة الأمريكية على إجهاض هذه الرؤية. لكننا نرصدها بوصفها مؤشرا مهما على أن إسرائيل تحقق بالسياسة ما فشلت في تحقيقه بالحرب، وأن العرب يخسرون بالسياسة ما لم يخسروه في الحرب .

لقد خلق الفشل الإسرائيلي في لبنان عام ١٩٨٢، وتسببه في إطلاق المارد الشيعي، ثم الهزيمة المدوية أمام حزب الله عام ٢٠٠٦، ثم النتيجة العكسية وغير المحسوبة مسبقا للغزو الأمريكي للعراق والمتمثلة في تمكين النفوذ الإيراني في هذا البلد، وارتفاع معنويات الطائفة الشيعية في دول الخليج واليمن، وإدراكها لمظلوميتها السياسية … كل ذلك خلق تحديات ضخمة للحكومات العربية الواقعة على خطوط المواجهة الطائفية وللنظام الإقليمي الخليجي، وهي تحديات أدت إلى التطابق الاستراتيجي مع إسرائيل. أي اتفاق المصلحة في هزيمة إيران، والقضاء المبرم على حزب الله اللبناني، حتى إذا كان معني ذلك هو القضاء على آخر عنصر من عناصر التوازن الاستراتيجي الإقليمي (ولا نقول العربي أو الإسلامي) النسبي أمام إسرائيل، وتمكينها من الهيمنة المنفردة، ولذا فإن النظام الإقليمي الخليجي مستمر في الضغط بالأداة البترودولارية متزايدة الأهمية والضخامة لتفريغ النظام الإقليمي العربي ككل من التزاماته نحو القضية الفلسطينية، ولتحويل وجهته من مناهضة أو تحييد وتحجيم المشروع الصهيوني، إلى العداء الصريح والنشط لإيران، والتي بدورها تشعر أنها محاصرة ومستهدفة، منذ الأيام الأولي لخلع الشاه، ولاسيما بعد غزو العراق تحت قيادة صدام حسين لأراضيها بتحريض ومساندة شاملة من دول الخليج والولايات المتحدة .

ولعل دراما هذه المفارقة تكتمل إذا أقررنا بيننا وبين أنفسنا أن الخليجيين معذورون بل ومحقون في مخاوفهم من إيران ومن ولاء مواطنيهم الشيعة لها، ومن برنامجها النووي، وأن الإيرانيين أيضا معذورون بل ومحقون في مخاوفهم من تربص الولايات المتحدة وإسرائيل ومن تحريض الحكومات الخليجية المستمر ضدها منذ صدام حسين وحتى اليوم والغد وبعد الغد، ومن الضغط المتواصل لتجريدها من القدرات النووية والصاروخية، والحصار المستمر لحلفائها من شيعة الخليج والمشرق، وعلى حين أتذكر أيامًا خلت حاولت السعودية وإيران فتح صفحة جديدة بينهما، وبدا أن ذلك قاب قوسين أو أدنى، فلست متأكدا من أن الجيل الجديد من قادة الخليج مستعد لمعاودة هذه الكرة، ولست متأكدا من أن الشوط الذي قطعه هؤلاء القادة مع إسرائيل يمكن الرجوع عنه، لاسينا تحت وطأة مشروع القانون إياه في الكونجرس الأمريكي، ولكني قد أراهن على العقلانية الاستراتيجية في مصر والأردن، وعلى صعوبة انضمام العراق لتحالف ضد إيران، كما أراهن على خبراء الشرق الأوسط غير المتصهينين في واشنطن لإحباط مشروع الاتحاد الدفاعي العربي ذاك ضد إيران، لكي يتسنى الحد من نطاق النصر الإسرائيلي بلا حرب، ولكي لا يضحي بالفلسطينيين مرة واحدة وإلى الأبد، فيكتمل النصر الصهيوني، وأيضا بلا حرب، تماما كما نصح كيسينجر الإسرائيليين بعد حرب أكتوبر مباشرة بتجنب فكرة التسوية الشاملة، والتظاهر بصنع السلام من خلال خطوات صغيرة، حتي يتكيف العرب والمسلمون بمرور الوقت، ويضطرهم اليأس جنبا إلى جنب مع صراعاتهم البينية، إلى الاستسلام لحقائق القوة في منطقتهم، مع حرص أمريكي إسرائيلي على توسيع وتعقيد تلك الصراعات البينية، كل ذلك وفقا لما نشر كثيرا وما أعاد التذكير به مارتن إنديك مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق (اليهودي) في كتابه الأحدث عن “سيد اللعبة”، الذي هو كيسينجر نفسه.