تشهد الحياة السياسية العربية من وقت إلى آخر -بخاصة على مدار العقد الأخير- دعوات إلى ضرورة إجراء “حوار سياسي” في محاولة لوقف الأزمات العامة المتفاقمة، ومواجهة الحلقة المفرغة من الشد والجذب بين السلطة والمعارضة، كما في اليمن ومصر وتونس والجزائر والسودان.

*****

إن الإحساس بالحاجة إلى “حوار استثنائي” في أية دولة معناه أن هذا البلد يجتاز ظرفا غير عادي. ففي الظروف العادية من الطبيعي أن يدور الحوار باستمرار في إطار قنوات شرعية دائمة؛ من نحو المجالس النيابية أو المحلية، أو وسائل الإعلام، أو الندوات والاجتماعات. أي أنه في ظل الأوضاع العادية يجري الحوار ويستمر بين الأطراف بطريقة طبيعية، كأنها حركة التنفس. ولكن عندما تظهر الحاجة إلى شيء استثنائي وغير عادي، فمعنى ذلك أن القنوات الطبيعية معطلة أو معوقة، أو أنها أقل من المستوى المطلوب لظرف طارئ أو تحديات مستجدة. بالتالي تنشأ حاجة إلى وسائل غير عادية.. أي لا بد من “عملية تنفس صناعي”، على حد التوصيف الدقيق الذي صاغه الأستاذ محمد حسنين هيكل في ظرف مشابه.

إن الدعوة إلى حوار غير عادي معناه أن أطراف العمل الوطني يشعرون بوجود الأزمة، لكنهم يعجزون عن إيجاد حلول لها. ذلك أنه إذا كان لدى أي طرف منهم حل لما انتظر. فإذا كان لدى الطرف الحاكم حل.. فما الذي يمنعه من أن ينفذه، ويدعم مركزه أمام الجماهير، ويعزز شرعيته، كما يؤكد جدارته بالحكم، بينما ينزع كل ذلك عن المعارضة؟ بينما منذ البداية تطرح مسألة غياب الرؤية أو المشروع القومي بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ الذي ينزهه عن أن يطلق على أي مشروع من المشروعات، مهما كان عظيما! وإذا كان لدى الطرف المعارض حل.. فما الذي يمنعه من أن يطرحه على الجماهير في اتصالاته وصحفه ومجلاته، ويحصل به على تأييد الرأي العام، ما يعلي من شأنه، ويجعله مناط أمل ورجاء.. بخاصة أن هناك إحساسا عاما بالأزمة وبحدتها.

ولا شك في أن منع المعارضة من هذه الوسائل وخنقها للحيلولة بينها وبين الوصول الحر إلى الرأى العام، هو في صميم الأزمة العامة الممسكة بخناق البلد؟ وإذا لم يكن لدى الحكم رؤية أو مشروع قومي فهل يتصور وجودهما لدى المعارضه، التي تغيب عنها المعلومات والحقائق، كما تتعرض لصنوف متنوعة من الخنق والمطاردة والمحاصرة.

من ثم لا شك في أن الدعوة التي أطلقها مؤخرا الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحوار، بهدف تأسيس جمهورية جديدة، تؤكد أن الوطن يقف في مفترق طرق، وأنه يجتاز مرحلة تاريخية فارقة. مع ذلك تباينت مواقف القوى السياسية من المشاركة في الحوار، بحيث يمكن رصد توجهين أساسيين: أولهما، يرى أن الاقتناع بالحوار يبدو تفاؤلا يمني نفسه بالأمل، “لعل وعسى”.. لكنه ينسى درس التجربة. وثانيهما، يرى أن الرفض يبدو تشاؤما يطفئ بقايا شمعة تذوب.. لكنه يغفل عن أنه ليس هناك غيرها في ظلام هذا الليل البهيم. والحقيقة أن كلا الرأيين دليل أزمة عميقة تهدد الوطن في مستقبله ذاته، وليس في مجرد خياراته.

كيف يمكن تحديد بوصلة الحوار وتوجهاته؟ إن جوهر الجمهورية الجديدة التي يهدف إليها الحوار يتمثل لا فقط في المشروعات القومية الكبرى، مثل العاصمة الإدارية، والمدن الجديدة، والطرق والأنفاق، والمشروعات الزراعية، مع أهميتها البالغة، إنما أصلا وأساسا في تغيير أسلوب إدارة الدولة تغييرا جذريا، وتفكيك “دولة الرجل الواحد”، الشائعة في العديد من دول العالم الثالث. ويأتي على نفس القدر من الأهمية نزع الأصولية من الدولة والمجتمع، لم لا وقد ذهب الإمام محمد عبده إلى أن الإصلاح الديني أساس الإصلاح السياسي، ويخصص له مقال آخر.

إن تفكيك “دولة الرجل الواحد” هو جوهر التحول إلى الدولة الديموقراطية المدنية الحديثة؛ أساس ذلك أن الرئيس في هذا النمط الدول هو محور النظام ومركزه، وهو منبع السلطة على نطاق المجتمع بأسره، ومصدر الشرعية، ومرجع ديناميات النظام وآلياته. ويلازم ذلك أن الهيكل الدستوري والقانوني يتشكل على أساس من هذه السلطات المركزة. لذلك فإن موقع الرئيس في مثل هذا النمط من الدول يشكل العقدة الرئيسية الحاكمة للنظام بأكمله، والتي يمكن في حال حلها إنجاز الخطوة الهامة على طريق تفكيك هذا النمط من الدول.

وعلى سبيل المثال؛ استندت النظم العسكرية “الثورية” العربية، ضمن ما استندت إليه عند قيامها، إلى مسوغات ثلاثة: أولها، بطء حركة المجتمع في اللحاق بالعلم المتقدم، نتيجة عجز الحكم المدني.. وثانيها، مواجهة التحدي الإسرائيلي، ذي الطابع العسكري.. وثالثها، مقاومة فساد الأحزاب والقوى السياسية المتصارعة. لذلك كله ارتبط النظام العسكري في الوطن العربي بنظام “الحزب الواحد” كمتمم طبيعي لمهمة التغيير الثوري السريع والحاسم، التي تصدى لها. لكن “دولة الحزب الواحد” في التطبيق انتهت إلى “دولة الرجل الواحد”؛ فهي تتبنى النظام الأمريكي بدون كونجرس، والنظام السوفييتي بدون حزب، فأصبحت دولة قوية بمواطن ضعيف!

لقد كان من نتائج انتشار ذلك النمط من الدول حدوث شرخ يتعذر إصلاحه في المسار الطبيعي للتطور الديمقراطي، كما أن هذه النظم دعمت التوجه ناحية “الواحدية السياسية”: الزعيم الواحد، الحزب الواحد، الرأي الواحد، وحالت دون نمو التعددية الحقيقية، أو الواقعية، في الحياة السياسية والاجتماعية. ولا يزال من اللازم انتظار اكتمال مسار نمو مجموعات النخبة السياسية المدنية، التي تحاول استرداد مراكز المبادرة والتأثير في الحياة السياسية من بقايا تلك الأنظمة، التي تدثر أكثرها بشعارات أو بتنظيمات حزبية، ليست في الواقع سوى منظمات شكلية، وصلت في دفاعها عن مواقعها على قمة السلطة إلى طريق مسدود.

إن مشكلة المشكلات أن السلطة في تلك النظم لم “تتأسس” على نحو كافٍ، أي لم تتجسد في مؤسسات مدنية فاعلة، وقواعد للممارسة السياسية راسخة. ولعل أبرز الأمثلة التي توضح ذلك أن الحكام لا يزالون يتمتعون بقوة فعلية أكبر كثيرا من الإطارات القانونية والنظامية التي يعملون في ظلها، حتى أن القيود “القانونية” المفروضة على الحكام هي في الأغلب قيود ذاتية، يخلعونها عن أكتافهم كلما بدا لهم ذلك. يرد ذلك إلى أن شخص الحاكم في أغلبية هذه النظم متداخل في وعي جهاز السلطة، وفي وعي الجماهير، بشخصية الدولة. ولهذا فإن الولاء السياسي يظل، في المقام الأول، ولاء لشخص الحاكم، والخلاف مع شخص هذا الحاكم يصنف على أنه خلاف مع الدولة، ونقص في الولاء لها.

ويمكن القول إن أغلبية تلك النظم “الثورية” قد ضاعفت من الاضطراب والتعقيد في مسار هذه العملية التاريخية، التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ من متطلبات بناء الدولة القومية الحديثة، الديموقراطية المدنية، بخاصة من منظور الأجل الطويل، وبحساب “التكاليف” اللازمة لتصحيح هذا المسار، وهو ما يتضح من استعراض الخصائص الأساسية للنظام السياسي الذي جرى تشييده على أيدي مجموعات النخبة “الثورية” العربية. ويلاحظ في هذا السياق أن بناء مؤسسات الدولة، وإرساء قواعد الممارسة السياسية، في مجموعة النظم “الثورية”، قد استند إلى مبادئ أساسية عدة من الناحية التنظيمية، تتجسد في ظواهر أساسية ثلاث: أولاها، ظاهرة دمج السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وثانيتها، ظاهرة المركزية الشديدة في ممارسة السلطة، وثالثتها، ظاهرة الاستغناء عن الحزبية بغض النظر عن قيامها من حيث الشكل، ما ترتب عليه العديد من الآثار السلبية.

ولا شك في أن الارتباط بين هذه الظواهر الثلاث كان من شأنه أن يجمع القائم على رأس ذلك النمط من الدول سلطات السياسة والتشريع والتنفيذ في يديه. وأن يصبح مصدرا للشرعية ومنبعًا للسلطة في المجتمع، وفي مجالات العمل السياسي والتشريعي والتنفيذي كافة. والأخطر من ذلك أن ظروف ممارسة السلطة ونوع المسؤوليات والتحديات، كل ذلك قد رفع مثل هؤلاء الحكام إلى منزلة عَلِيَّة، فوق المنزلة الدستورية، وأكسبهم شرعية يتصورونها من جنس تاريخي، فتولدت عن هذه المنزلة علاقة من “نمط أبوي” بين “القادة” وبين الجماهير، وشاع لديهم فهم خاص لنوع المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وللطريقة “الفريدة” التي يحق لهم أن يمارسوا بها النفوذ، لا يتقيدون فيه بآجال زمنية، ولا يطالبون بما يطالب به غيرهم من الحكام من التقيد بمرجع أو الالتزام بقانون، ولا يحاسبون حسابهم، ولا تكون مقاصدهم عرضة لريبة، ولا أفعالهم محلا لجدال. من هنا فإن أكثر “الزعماء” العرب ينتحلون لأنفسهم أوصافًا تتصل بالقيادة والزعامة، وما يصاحبها من إلهام وقدرات خاصة تصل إلى حد “القداسة” و”العصمة”، والارتفاع فوق احتمالات الخطأ.

ويزيد من مخاطر هذه الآثار ما تتمتع به السلطة التنفيذية في أكثرية هذه الدول من نفوذ هائل قوي، وذلك في ضوء الدور الطاغي الذي أصبحت تمارسه “الرئاسة” في هذه النظم، ليس فقط من خلال سلطات الرئيس الرسمية والفعلية، إنما أيضا من خلال رجال مكتبه، وشبكة واسعة من المستشارين والمسؤولين وغير المسئولين، فضلا عن أجهزة الأمن. ويفاقم من من آثار هذا النمط في الممارسة أنه ليس الرئيس الأعلى وحده هو المقصود في مثل هذه الدول، إنما كل رئيس في موقعه، وكل مسؤول يمارس سلطة، وكل موظف عام.

يضاف إلى ذلك أن أجهزة الأمن لها دور أساسي في دولة الرجل الواحد، فضلا عن اعتبارها دعامة الحكم وقاعدته الأساسية. ورغم خطورة هذا الدور إلا أنه قد لا يظهر في الصورة، لكنه قد يتجاوز الرئيس نفسه في بعض الحالات، بخاصة تحت زعم حماية النظام، هكذا تكون “ملكية أكثر من الملك”! لكنه يكاد يمثل اليد الخفية التي تتحكم في حركة النظام بأكملها. من ذلك نمط جديد شهدته مصر تمثل في ملكية العديد من وسائل الإعلام، بدلا من تحريكها من وراء ستار، والدخول مباشرة في مجال إنتاج الدراما والمسلسلات!

إذا كانت عملية تفكيك “دولة الرجل الواحد” تمثل “عقدة الحوار” .. فكيف تتحكم تلك “العقدة” في جدوى الحوار وتوجهاته؟ هذا هو سؤال المستقبل.


الدكتور مجدي حماد رئيس مجلس أمناء الجامعة اللبنانية الدولية