منذ 42 سنة، بالتحديد في مثل هذا اليوم 26 يونيو 1980 صدر دستور 1971 معدلًا، انصب التعديل على الفترات الرئاسية، التي لم يكن الدستور قبل تعديله يسمح بغير فترتين رئاسيتين طبقًا للمادة 77 الشهيرة.

هذه المادة التي اعتبرت طوال عشر سنوات واحدة من أهم إنجازات دستور مصر الدائم، الذي ظل الرئيس أنور السادات يفخر به حتى مطلع العام 1980، حين قاربت فترته الرئاسية الثانية على الانتهاء في أكتوبر سنة 1982.

جاء التعديل ليُعدد الفترات الرئاسية، بدلًا من قصرها على فترتين رئاسيتين فقط، وفتح الطريق أمام السادات ليكون رئيسًا مدى الحياة، وهو المطلب الذي وقفت النائبة فايدة كامل (المطربة الشهيرة وزوجة وزير الداخلية النبوي إسماعيل) تطالب به تحت قبة البرلمان المصري، وسط تصفيق حاد ومتواصل من العضوات والأعضاء، لنصل في النهاية إلى إجراء أول تعديل على دستور 1971، الذي سُمي وقتها “تعديل الهوانم”.

**

هذا التعديل هو أشهر التعديلات (أو بالأحرى التعديات) على الدستور في النظام الجمهوري، حيث انقلب التعديل على النص الدستوري وبدلًا من أن إعادة انتخاب رئيس الجمهورية يكون لمدة واحدة جاء التعديل ليفتح الباب مجددًا لإعادة انتخاب الرئيس لمدد أخرى بدون تحديد.

وقد سطر التاريخ الدستوري لعنة المادة 77 التي أصابت الرئيس السادات، فلم يستفد من تعديلها، إلى جوار لعنة المادة 76 التي كانت تعديلاتها (المخزية على مستوى المحتوى والصياغة) سببًا مباشرًا في عدم استفادة الرئيس مبارك ولا نجله من هذه التعديلات، وقضت ثورة 25 يناير على التمديد والتوريث في ضربة مزدوجة، وتخلى الرئيس مبارك عن الحكم، وسُجن هو ونجلاه علاء وجمال، في أول واقعة من نوعها تحدث في التاريخ المصري الحديث.

**

جاءت فكرة وضع دستور دائم لمصر في أعقاب الصراع الذي حسمه الرئيس السادات لصالحه في مايو 1971، وعكست نصوص الدستور الجديد ثلاثة توجهات أساسية:

ـ توجه يساري راح يعبر عن نفسه في تأكيد المزيد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتضمينها في نصوص الدستور، وقد نجح في ذلك بشكل واضح.

ـ توجه ليبرالي تطلع إلى تضمين الدستور نصوصًا ليبرالية عديدة، تجلت في أبوابه الخاصة بالحقوق والحريات والواجبات العامة وسيادة القانون.

ـ ثالث هذه التوجهات وأهمها، وأكثرها تأثيرًا، هو توجه الرئيس السادات الذي وضع عينه على تكريس سلطاته فوق كل السلطات حتى لا تتكرر حالة المناطحة مع سلطاته التي وجد نفسه فيها قبل التخلص ممن أسماهم مراكز القوى.

**

لم يكن لدى الرئيس السادات أي مانع من مسايرة تلك التوجهات، خاصة وأن هذه الاستجابة تظهره مناصرًا للديمقراطية، وهي الصورة التي حاول ترويجها عن نفسه غداة حسمه للصراع ضد خصومه، وهكذا جاءت نصوص الدستور استجابةً لتأثيرات هذه التوجهات الثلاثة.

لابد من الاعتراف بأن الرئيس أنور السادات هو أصرح حاكم ـ منذ محمد علي حتى اليوم ـ تحدث في الموضوع، وأنقل عن الأستاذ «أحمد بهاء الدين»، الذي جمعته جلسة خاصة مع الرئيس الراحل في حديقة منزله بالجيزة، وتطرق الحوار إلى الدستور الذي سبق وضعه في 1971.

صارح الأستاذ «بهاء» الرئيس السادات بأن الدستور الذي أصدره يعطي رئيس الدولة سلطات هائلة، فقال له «السادات» بصريح العبارة:

ـ (يا أحمد.. عبد الناصر وأنا، آخر الفراعنة، هل عبد الناصر كان محتاج نصوص علشان يحكم بيها، ولا أنا محتاج لنصوص؟، دي علشان رؤساء عاديين.. محمد وعلي وعمر.. ها يحتاجوا النصوص دي علشان يمشوا شغلهم).

التلاعب بالدستور سيرة مستمرة

لم يبدأ تاريخنا الدستوري مع الجمهورية، فنحن نملك تاريخًا دستوريًا طويلًا، ونُحسب من البلاد التي بكرَّت في الدخول إلى الطريق الدستوري، ولكننا للأسف الشديد لم نملك حياة دستورية حقيقة في مصر على مر ذلك التاريخ الطويل منذ أول محاولة جادة لدسترة الحكم في مصر قرب نهاية القرن التاسع عشر.

طوال قرن ونصف القرن كان لدينا دستور، ولكن لم نشهد في أي فترة تاريخية احترامًا للدستور، ولا تطبيقًا نزيهًا لنصوصه، خاصة تلك النصوص التي تحد من شهوة الحكم، أو تقيد شبق السلطة.

مسيرة عسيرة طويلة، قطعت مصر خلالها رحلة شاقة ومرهقة مع الدستور، فيها الكثير من الانتصارات التي تحققت، وشملت الكثير من الانتكاسات التي تراجعت بفكرة الدستور نفسها إلى حالٍ أسوأ من الحال التي لا يوجد فيها دستور بالأساس.

**

ما من دستور صدر في مصر إلا وتم العدوان عليه، والانقلاب ضده، بصور وأشكال مختلفة لكن جوهرها واحد هو كراهية الالتزام بنصوصه، ورفض الانصياع لفكرة تقييد حق الحاكم في السلطة المطلقة التي يحلم بها ويعمل من أجل إقرارها من دون قيد يحد منها، أو رقيب يحاسب عليها.

لم يحدث أن حظي الدستور ـ أي دستور ـ باحترام أحد من بين هؤلاء الحكام، وظل طول الوقت عبئا لا طائل من وراءه، سرعان ما يتخلصون منه، إما بالإهمال أو التعطيل أو التعديل ليوائم المقاس الذي يريدونه يناسب نهمهم للسلطوية وشبقهم إلى الانفراد بالحكم من دون شركاء، متشاكسون أو مشاكسون.

**

أول تجربة دستورية شبه متكاملة في مصر جاءت بعد مرور ثلاثة أرباع القرن التاسع عشر، حين استطاعت الإرادة الشعبية أن تفرض وجود دستور وبرلمان له صلاحيات معتبرة، كان الانجليز والخديوي محمد توفيق معًا ضد الدستور والتجربة الديمقراطية الوليدة.

ومنذ اللحظة الأولى تبدَّى أن الاستبداد والاحتلال ضد الدستور، وحين حاصرت الأساطيل البريطانية السواحل المصرية، ومع أول طلقة في معركة الاحتلال، لم تكن التحصينات المصرية على شاطئ الإسكندرية هي الهدف، كان الدستور هو الهدف الأول، وكانت الحياة النيابية الناشئة هي الهدف الثاني، وحين سقطت مصر تحت الاحتلال في 1882، سقطت في الوقت نفسه أول التجارب الدستورية في تاريخها.

**

كان المأمول أن يتغير التاريخ السياسي لمصر إن قُدر للتجربة الديمقراطية الناشئة أن تأخذ فرصتها كاملة، وكان من الممكن أن تصبح مصر في طليعة الدول التي تقيم نظامًا برلمانيًا دستوريًا، وجاء الاحتلال البريطاني ليقضي على هذا الحلم الوليد.

أول عمل قام به الاحتلال، أنه ألغى دستور 1882، وحل مجلس النواب، وأعلنت إنجلترا أنها ستضع لمصر نظاما خاصا يتمشى مع ما سموه “عدم أهلية المصريين للحكم النيابي”.

وجاء القانون النظامي المصري الذي وضعه الاحتلال استبداديا يكبل الحريات ويطلق يد الخديوي ويلغى صلاحيات البرلمان. وأجهضت التجربة النيابية الناشئة، ومات الدستور بالضربة المزدوجة من الاحتلال والخديوي.

لعنة التعديلات

مع كل دستور يولد، تنشأ معه الرغبة في إلغائه أو تعديله والانقلاب عليه، وهذا ما حدث كذلك في أول دستور استطاعت الإرادة الشعبية مجددا أن تفرضه على سلطتي الاحتلال والاستبداد، سلطة الاحتلال ممثلة في قصر الدوبارة، حيث مقر المعتمدية البريطانية، وفي قصر عابدين حيث مقر الملك فؤاد.

كان الملك فؤاد يكره دستور 1923، واعتبره إنقاصًا من سلطاته وعدوانًا على صلاحياته التي ورثها عن آبائه، وكان يقول: “إن المصريين لا يناسبهم الحكم البرلماني، فلِمَ لا يتركوني أحكم مصر كما أريد لأنني أعرف وأتقن هذه المهمة”.

ولذلك استقبل فكرة الدستور نفسها استقبال المضطر، وحاول مرارا ونجح كثيرا في فرض إرادته على نصوص الدستور، ثم حين اضطر في النهاية إلى إصدار دستور سنة 1923 راح من أول يوم يعمل حثيثا على عرقلة تنفيذ النصوص التي تحد من سلطاته أو تقيد سلطانه.

وسجل التاريخ اسم الملك فؤاد باعتباره صاحب أكبر عدوان جرى على الدستور طوال هذا التاريخ، ألغى دستور 1923، ولم يكتف بذلك بل قام بوضع دستور جديد يُفرغ دستور ثورة 1919 من جوهره، ويشطب منه كل ما يُقيد سلطاته.

**

كما جاء تجربة دستور 23 كواحدة من أهم التجارب في التاريخ الدستوري لمصر، فقد جاء العدوان عليه والانقلاب ضده كواحد من أهم الانقلابات على الدستور، لم يستطع الملك فؤاد أن يتحمل دستور 1923، وما تمخض عنه من حكومة أغلبية وفدية ومجلس نيابي قوي يسيطر عليه الوفد، فعمد إلى إنشاء أحزاب موالية للقصر لتوازن قوة الوفد وحزب الأحرار الدستوريين في الانتخابات وفي المجلس، فنشأ حزب الاتحاد الموالي للقصر، ولكنه مُني بهزائم متوالية في الانتخابات.

لم تفلح لعبة الأحزاب الموالية فلجأ الملك فؤاد إلي استخدام إسماعيل باشا صدقي وكلفه بتشكيل الوزارة، التي اعتبرت أكثر الوزارات عدوانًا على الدستور وامتهانا للحياة النيابية.

وهي الوزارة التي قامت بإلغاء دستور سنة 1923، وأصدرت دستور سنة 1930، الذي حقق للملك ما كان يصبو إليه، فأعطي صلاحيات واسعة، حتى سمي بدستور الملك في مقابل دستور 1923 الذي سمي بدستور الشعب.

**

أهم ثلاث تجارب دستورية في تاريخنا هي دستور 1923 ثم دستور 1971 وأخيرًا دستور 2012/2014، وهذا لا يقلل من أهمية دستور الثورة العرابية 1882 باعتباره خطوة أولى في طريق بناء حياة دستورية في مصر.

كان دستور 1923 نقلة نوعية كبيرة في دسترة الحياة السياسية في مصر، كما كان دستور 1971 عودة إلى الشرعية الدستورية بعد حوالي عشرين سنة من دساتير فترة الشرعية الثورية، ثم جاءت نسخة دستور 2012/2014، لتقف فوق ذروة الدساتير المصرية، فهي الأفضل بالقياس إلى الدساتير التي سبقته، وليس معنى هذا أنه الأفضل على الاطلاق.

شبق السلطة وشهوة التسلط

ليس من قبيل المصادفة أن الدساتير الثلاثة واجهت عدوانًا سافرًا عليها، إما بإلغائها، وإما بإجراء تعديلات جوهرية على نصوصها، وفي كل الأحوال تمَّ تعطيل الكثير من أحكامها، وجرى العمل طول الوقت على غير ما أرادت نصوصها.

في سنة 1930 وقبل أن تمر ست سنوات على البدء في تطبيق دستور 1923 تمت أكبر عملية عدوان على الدستور بعد صدور الأمر الملكي بإلغائه، وأتبعه بأمرٍ آخر بوضع دستور جديد، مفصلًا على ما يريده الملك فؤاد، الذي واجه رفضًا واسعًا في صفوف المعارضة السياسية وفي الأوساط الشعبية خاصة أوساط الشباب والطلاب.

وظلت الحركة ضد دستور 1930 مشتعلة طوال خمس سنوات وكادت تصل إلى موجة جديدة من موجات ثورة 1919، وهي الموجة التي يسميها البعض بالثورة المنسية التي أسقطت دستور الملك، وأجبرته على إصدار الأمر بإلغاء الدستور المسخ، وإعادة العمل بدستور 1923 دستور ثورة 1919.

**

وفي سنة 1980 وقبل مرور عشر تسع سنوات على إصدار دستور 1971 ذهب الرئيس أنور السادات إلى إجراء تعديلات على الدستور الذي طالما تغنى به ليتمكن من التخلص من قيد المدتين الرئاستين وجعلها مددًا مفتوحة ليتسنى له التجديد مرة أخرى في عام 1982 في دورة رئاسية ثالثة.

ولكن حادث الاغتيال عاجله وقضى على حلمه في التجديد لولاية ثالثة. ولم يستفد من التعديل الذي مكَّن الرئيس اللاحق حسنى مبارك من احتلال كرسي الرئاسة لخمس دورات رئاسية متتالية، وجاءت ثورة يناير لتقطع عليه الطريق إلى دورة سادسة في نهايتها.

**

يتشابه دستور 1923 مع دستور 2012 (بتعديلاته) في أن الدستور الأول دفعت إلى إصداره ثورة شعبية كبرى هي ثورة 1919، ثم جاءت ثورة يناير 2011 لتفرض دستورًا جديدًا، وكما جرى مع دستور 1923 فقد جرت على دستور ثورة يناير العديد من التعديلات قبل مرور خمس سنوات على إقرار نسخته المعدلة بعد ثورة يونيو 2013.

كانت مادة المدة الرئاسية، واحدة من أهم التعديلات التي جرت على الدستور الحالي في سنة 2019 وهو التعديل الذي فتح الفترات الرئاسية شرط عدم التتالي، وأبقى على مدة فترة الرئاسة لأربع سنوات، ثم استثنى الرئيس الحالي، وعدّل له الفترة الرئاسية إلى ست سنوات بدلًا من أربعة، مع جواز إعادة انتخابه لمرة تالية.

**

شبق السلطة وشهوة التسلط كانت وراء كل اعتداء على الدساتير، سواء في الفترة الملكية، أم في كنف الجمهورية، وتبدت الظاهرة في صورتين، أولها رغبة توسيع السلطات بيد الملك، وثانيهما رغبة تمديد فترات الحكم للرئيس مع توسيع سلطاته.

شبق السلطة كان هو اللعنة التي أصابت كل من اقترف جريمة العدوان على الدستور والتلاعب بنصوصه أو تفصيلها على المقاس الاستبدادي الملكي مرات، أو قياسها على المازورة الرئاسية مرات أخرى.

وصل بنا شبق السلطة في عالمنا العربي إلى ظاهرة التوريث في النظم الجمهورية (مصر وسوريا وليبيا)، وخلق ظاهرة الحكام الذين يجددون رئاستهم أربع وخمس فترات، وهي التي دفعت الحكام (كلهم بدون استثناء) إلى تعديل الدستور وانتهاك نصوصه التي تقلل من سلطاتهم أو تحد من اختصاصاتهم وخاصة تلك التي تضع قيدًا على فترات حكمهم.

شبق السلطة وشهوة التسلط هما الأصل وراء تفشي داء التلاعب بالدساتير.

**

للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا