1962- 1967

تغيرت التركيبة الاجتماعية في مصر بحُكم واقعٍ تبدلت معالمه السياسية والاقتصادية نتيجة اختلاف الطبيعة الطبقية للنخبة التي آلت إليها إدارة المشهد العام بعدما تَبَدت ملامح الدولة الجديدة وترسخت علاقاتها إقليميًا ودوليًا. وكما كان لهذا التغيير -على مستوى القيادة الأعلى- أثر هام في رسم السياسات وتحديد الاستراتيجيات العامة، فقد استتبع ذلك تغييرا مرتبطا به بشكل وثيق يتعلق بالقيادات الأدنى مرتَبَةً التي تدير العمل التنفيذي بالمؤسسات الجديدة التي نشأت بعد زلزال 1961 ثنائي الأثر الذي أشرت إليه بالمقال السابق وما ترتب على ذلك من تحول في المنظومة الفكرية الثقافية وما استلزمه هذا التحول من تشريعاتٍ تؤكِدُه ولوائح إدارية تُنَظِمُه وقوى اجتماعية تُنَفِذُه.

في عام 1960 كانت الإدارة الجديدة للدولة قد نجحت في إزاحة نخبة الإقطاع-بورجوازية بالاستغناء عنها تمهيدًا لإقصائها شبه الكامل من خلال ضرب مصالحها الاقتصادية باعتماد وتنفيذ الخطة الخمسية الأولى في 1960 دون أن يكون لتلك النخبة أي دور ملموس بها. (خروج محدود عن النص لكن الشيء بالشيء يُذكر: كانت إحدى المهام الأساسية لتلك الخطة تتمثل في زيادة الدخل القومي بنسبة 39.7% خلال السنوات الخمس 1960-1965، وقد تحققت أهداف الخطة بنسبة 97 %، وكذلك تحققت خطة رأس المال عمومًا بنسبة 96%، وفي نفس الوقت تعدت الزيادة في العمالة والأجور النسب المحددة لها في الخطة، واستكملت الخطة زيادة الدخل القومي بنسبة 89.9%). في 1962 كان تأسيس الاتحاد الاشتراكي -الذي خلف الاتحاد القومي وهيئة التحرير- بصفته التنظيم السياسي الأوحد في البلاد ممثلا “للطليعة الاشتراكية التي تقود الجماهير وتعبِّر عن إرادتها وتوجِّه العمل الوطني، وتقوم بالرقابة الفعّالة على سيره وخطِّه السليم في ظل مبادئ الميثاق”، لتتبلور “عمليًا” مسألة التغيير التي تشكل الملمح الأساسي للدولة الجديدة بإقصاء نخبة الإقطاع-بورجوازية بشقيها: الاقتصادي من خلال التأميم وتعديل قانون الاصلاح الزراعي، والسياسي بتوفير أداة جديدة من خلال إنشاء تنظيم “الاتحاد الاشتراكي”.

استدعى ذلك التغيير “العملي” بشقيه الاقتصادي والسياسي ضرورة تأكيده فكريًا/ثقافيًا/وثائقيًا ليأتي عام 1964 حامِلًا لدستورٍ جديد نص في مادته الأولى على أن “الجمهورية العربية المتحدة، دولة ديمقراطية اشتراكية، تقوم على تحالف قوى الشعب العامل” وفي مادته التاسعة على أن “الأساس الاقتصادي للدولة هو النظام الاشتراكي، الذي يحظر أي شكل من أشكال الاستغلال، بما يضمن بناء المجتمع الاشتراكي بدعامتيه من الكفاية والعدل” ثم في مادته العاشرة على أن “يكون توجيه الاقتصاد القومي بأكمله وفقًا لخطة التنمية التي تضعها الدولة”، وفي مادته الثانية عشر على أن “يسيطر الشعب على كل أدوات الإنتاج، وعلى توجيه فائضها، وفقًا لخطة التنمية التي تضعها الدولة، لزيادة الثروة وللنهوض المستمر بمستوى المعيشة”، كما تم تعريف أنواع الملكية بالمادة الثالثة عشر التي حددتها بثلاث أنواع هي الملكية العامة أي ملكية الشعب وذلك بخلق قطاع عام قوي وقادر يقود التقدم في جميع المجالات ويتحمل المسئولية الرئيسية في خطة التنمية، والملكية التعاونية أي ملكية كل المشتركين في الجمعية التعاونية، والملكية الخاصة أي قطاع خاص يشترك في التنمية في إطار الخطة الشاملة لها من غير استغلال.

باتت نخبة الإقطاع-بورجوازية خارج دائرة التأثير فِعلًا وقولًا بعدما تمت “دَستَرَة” واقعٍ جديد تغيرت على إثره التركيبة الاجتماعية لتَحِل محلها في إدارة السياسة والاقتصاد نخبة مختلفة تتناسب مع الهيكل البنيوي للدولة الجديدة.

مع استقرار دعائم الدولة الجديدة الشابة ذات القوة والعنفوان واحتكارها “العملي” لكل من السياسة والاقتصاد وتأكيد ذلك ثقافيًا بدستورٍ رَسَخ معالمها الأساسية، استلزم الأمر ظهيرًا اجتماعيًا يدعمها مؤيِدًا لتمنحه هي في المقابل من المزايا والمصالح ما يتلاءم وتطلعاته. كان الشعار الجميل المُغرق في الرومانسية “تحالف قوى الشعب العامل” مبهرًا وجذابًا إلا أنه لم يجد طريقه للتطبيق الفاعِلِ على أرض الواقع بسبب الاختلاف البَيّن في المصالح الطبقية لمكوناته. لا يمكن لمُنصفٍ أن يُنكر أن مكاسبًا قد تحققت للعمال والفلاحين ما كان لها أن تحدث مطلقًا لو كانت أوضاع ما قبل 1952 قد استمرت، لكن من زاوية أخرى كان تحالفًا بين مجموعات جديدة من رجال الصف الثاني لنخبة ما بعد 1961 من البيروقراطيين قد وجد طريقه للبروز تدريجيًا بما يتلاءم مع الطبيعة الفوقية لأسلوب إدارة رجال الصف الأول من تلك النخبة لينشأ تركيب اجتماعي جديد يقبع على قمته في إدارة السياسة والاقتصاد شريحة جمعت بين السلطوية والبيروقراطية.

وكما تم إزاحة نخبة الإقطاع-بورجوازية فقد تم كذلك إقصاء أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير من المُخاطَبين بشعار “تحالف قوى الشعب العامل” عن المساهمة الفعلية في اتخاذ القرار ورسم السياسات من خلال احتجاز الحركة العمالية بالهيمنة التامة على النقابات فانفصلت قياداتها عن قواعدها الحيوية من ناحية ومن خلال إغراق الحركة الفلاحية شديدة البدائية في مصالح يومية ضيقة قضت على الإمكانات الوليدة لنموها الواعد من ناحية أخرى. وكأن ما حدث من تغيير ثوري قد أصاب الشكل فقط دون الجوهر مما ثَبْتَ -عمليًا- نموذج مسار اتخاذ القرار من أعلى إلى أسفل، وهو أمر تنبه له الرئيس “جمال عبد الناصر” متأخرًا إثر هزيمة 1967 فحاول الإصلاح وتعديل المسار منفردًا تارة ومُعتمدًا على تنظيمه الطليعي الخاص تارة أخرى، لكن حالت ظروف موضوعية وأخرى ذاتية دون تحقق ذلك.

للحديث بقية، إن كان في العُمر بقية.