في 26 يونيو/حزيران تحدث تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” عن أن مصر استضافت اجتماعا سريا في مدينة شرم الشيخ في مارس/آذار الماضي ضم كبار المسؤولين العسكريين من مصر والولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية والإمارات والأردن والبحرين وقطر. وذلك لاستكشاف كيف يمكنهم التنسيق ضد قدرات إيران الصاروخية والطائرات دون طيار.

وفي ذات اليوم تحدثت لـ”مصر 360″ مصادر مقربة من دوائر صنع القرار في القاهرة والرياض عن أن ملك الأردن عبد الله الثاني حمل على عاتقه تسويق مشروع “الناتو العربي الإسرائيلي” أو “ناتو الشرق الأوسط”. وذلك ليقنع قادة دول “الاعتدال” العربي -التي تتشابك مصالحها- بطرح الفكرة للنقاش والوصول إلى تصور بشأنها قبل زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن.

إلا أن المسؤولين في السعودية ومصر -بحسب التقرير- تحفظوا على تشكيل تحالف عسكري أو أمني تكون تل أبيب رأس حربة فيه ويحقق لها مصالحها في حصار التهديدات الإيرانية.

وأشارت المصادر إلى أن جولة ولي العهد السعودي والتي شملت القاهرة وعمان وأنقرة كان أحد أبرز أهدافها إحباط فكرة الناتو العربي الإسرائيلي. وهو ما أيدته مصر بشدة. إذ “حسمت القاهرة أمرها ورفضت الدخول في أي أحلاف عسكرية موجهة ضد أي دول في المنطقة” -بحسب المصدر المصري القريب من دوائر صناعة القرار.

الموقف المصري السعودي من ناتو الشرق الأوسط
الموقف المصري السعودي من ناتو الشرق الأوسط

إسرائيل.. عدو استراتيجي أول

ولم يفُت المصدر تمرير رسائل بأن مصر تفضل عدم استفزاز إيران. وأنها لن تكون جزءا من حلف عسكري مع دولة الاحتلال. “الثابت في عقيدة مؤسسات الدولة المصرية أن إسرائيل هي العدو الاستراتيجي الأول. وهذه العقيدة لم ولن تتغير. أما التهديدات الإيرانية المحتملة فنحن نفضل التعامل معها بالطرق الدبلوماسية” -وفق قوله.

 

اقرأ أيضا: كواليس إجهاض مشروع “ناتو الشرق الأوسط” بزعامة إسرائيل: تأييد إماراتي.. ورفض مصري

 

التناقض الظاهر بين التصريحات والأفعال يستدعي إلى الذاكرة ما جرى في قمة “النقب” (في مارس/آذار بالتزامن مع اجتماع شرم الشيخ). والتي جرت فيها مناقشات حول الشأن نفسه -تحالف أمني ضد إيران- والتي شاركت فيها القاهرة ممثلة بوزير خارجيتها مع نظرائه في الإمارات والبحرين والمغرب وإسرائيل والولايات المتحدة.

ولكن في اليوم التالي مباشرة نفى وزير الخارجية دخول القاهرة في أي أحلاف موجهة ضد دول بعينها.

قمة النقب
قمة النقب

يشرح هذا النهج طبيعة الاستراتيجية المصرية المتبعة في السياسة الخارجية خلال الآونة الأخيرة والتي يمكن تسميتها بسياسة “الباب الموارب“. فها هي تستضيف وتشارك في اجتماعات موضوعها الأساسي مواجهة طهران. وفي الوقت ذاته تنكر وترفض استعدادها للانضمام إلى أي تحالف أمني يتشكل في المنطقة.

ولكن فيما بين السطور يمكن استشفاف بعض مما يجري. فالقاهرة تدرك أن المنطقة تمر بتحولات عديدة على صعيد السياسات الإقليمية. في القلب منها يجب أن تشارك وتنخرط حتى وإن لم تؤمن بها. وذلك على طريقة “ما يجري تحت عيني وبين أحضاني أفضل مما يجري بعيدا عني ويستبعدني”.

وهي بطبيعة الحال مضطرة كذلك للجوء لهذا النهج تحت ضغط الأزمة الاقتصادية الثقيلة والتي تحتاج فيها إلى دعم مادي من الدول الخليجية -خاصة السعودية والإمارات. إضافة للتأكيد أن أمن الخليج مرتبط بمنظومة الأمن القومي المصري. وبالتالي عليها التماهي مع مخاوف البلدين من إيران التي لا تنظر إليها القاهرة بالمنظور نفسه. فهي لا تعتبر إيران عدوا استراتيجيا يهدد أمنها القومي.

هذا إلى جانب المخاوف الإسرائيلية كذلك من طهران وما تستدعيه طبيعة العلاقات المصرية الإسرائيلية مؤخرا وخطوات التآلف الحثيثة. والتي يقع في القلب منها التعاون الاستراتيجي في منطقة شرق المتوسط لاستخراج الغاز. بالإضافة إلى ملفات أخرى متشابكة من التفاوض مع حركة “حماس” إلى مفتاح باب “البيت الأبيض” الذي تحمله تل أبيب.

تضارب المواقف.. وفكرة غير واقعية

الرئيس السيسي
الرئيس السيسي

وبالتالي يفسر هذا جزئيا التضارب بين المواقف والتصريحات المصرية التي تشارك ومن ثم تنفي في الآن ذاته. ناهيك بأن فكرة الناتو العربي الإسرائيلي غير واقعية بالأساس وتفتقر لشروط النضج رغم الطرح المتكرر لها خلال العقد الأخير.

ومن بين الافتقار لشروط النضج لما يسمى الناتو العربي الإسرائيلي هو طبيعة التنسيق والتعاون الأمني المفترض حدوثه من نشر منظومة دفاعات إسرائيلية في بلدان عربية عدة. وهنا إن كان الأمر تحت صيغة التحالف فذلك يقتضي تعاونا معلوماتيا واستخباريا على درجة عالية المستوى لأماكن نشر هذه الدفاعات. وطبيعة المناطق المنشورة فيها وتبادل المعلومات بين الدول عن مواقعهم الاستراتيجية واستخدام المجال الجوي المشترك والمواني البحرية وغيرها من معلومات شديدة الحساسية.

وتنفيذ مثل هذا الأمر يبدو مستبعدا حاليا. فدول مجلس التعاون الخليجي ذاتها رفضت اعتماد مثل هذا النهج (دفاع جوي مشترك) فيما بينها من قبل. ودول مثل الكويت وسلطنة عمان مثلا مخاوفها من إيران ليست كمخاوف السعودية والإمارات ولن تقبل بوجود إسرائيلي إلى جوارها.

بالإضافة إلى أن وجود مثل هذه منظومة -تقبلها الإمارات وإسرائيل مثلا- تستدعي تبادل المعلومات عن مواقعهم الاستراتيجية والتفاصيل الاستخبارية الأمنية. فهل ستكون إسرائيل مستعدة لمنح العرب معلومات عن مواقع نشر دفاعاتها ومنها دفاعاتها الجوية بالقرب مفاعل ديمونة النووي على سبيل المثال.

بالطبع لا. وبالمثل السعودية ومصر والأردن. فهل هذه الدول مستعدة لتبادل معلومات تراها في صلب أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية مع الجانب الإسرائيلي.

دعاية إعلامية

الملك عبد الله عاهل الأردن
الملك عبد الله عاهل الأردن

هنا يبدو حديث الملك الأردني عبد الله الثاني عن الناتو العربي الإسرائيلي ليس أكثر من محض دعاية إعلامية جرى التنسيق بشأنها مع واشنطن لتمرير رسائل. بل والحديث الإعلامي المتزايد يهدف للترويج للفكرة قبل زيارة جو بايدن إلى المنطقة.

أما الأكثر واقعية فهو أنه يجري بالفعل تعاون أمني مشترك بين الدول ذات الشأن. ولكن ليس كتحالف بالمعنى المتعارف عليه. وإنما ما يمكن تسميته “شراكة أمنية وتعاون من نوع خاص” على أعلى مستوى.

وبالأساس لا ترغب أي من دول الخليج في المخاطرة بالتصعيد العسكري مع إيران لأنهم سيكونون على الخطوط الأمامية وسيتحملون تداعيات أي انتقام إيراني.

وقد أظهرت الهجمات التي ترعاها إيران على البنية التحتية للنفط في الخليج عام 2019 هشاشة هذه الدول.

اللعب على كل الأوتار

في هذه المرحلة يبدو الجميع يلعب على كل الأوتار والاتجاهات انتظارا لاتضاح الرؤية وتماسكها بشأن مستقبل المنطقة. فكما تقدم مصر قدما وتؤخر أخرى تحت ارتهانها للضغوط الاقتصادية الداخلية فإن السعودية كذلك تلعب بأوراقها. فهي كما تخوض محادثات أمنية مع إسرائيل وسط حديث عن التطبيع القريب تفتح باب التفاوض مع إيران ولا تغلقه. وكما تنُسق الإمارات مع إسرائيل على مستوى مرتفع فإنها تعلن أيضا أنها ليست بصدد المشاركة في أي تحالفات عسكرية.

وهو ذاته النهج الأم الذي تتبعه الولايات المتحدة: عودة للاتفاق النووي مع إيران ولكن هذه المرة مع مراعاة ومعالجة المخاوف الخليجية الإسرائيلية من الاتفاق الأول في عام 2015. فالرغبة الأساسية هنا هي: “رفع مستوى اندماج إسرائيل في المنطقة كاستمرار لاتفاقات إبراهيم”. وهو ما يجري بنجاح. و”احتواء طهران ومنعها من التوغل في دول الجوار وتقويض قدراتها الأمنية عبر سلاح الوكالة”. وهو ما يجري الإعداد له.

استخدام القوة الناعمة

ولهذا ظهرت الحاجة إلى استخدام أدوات القوة الناعمة التي قد تساعد في ذلك الاحتواء. ومنها التصالح مع جماعة الإخوان المسلمين كما حملت أجندة زيارة ولي العهد السعودي للقاهرة -وفق تقرير “مدى مصر” الذي يشير إلى رغبة سعودية في تسريع مصر لتحركاتها للمصالحة مع تركيا وجماعة الإخوان.

فخلال الأيام الماضية نشرت وسائل إعلام غير مصرية أن هناك رغبة أمريكية في بدء مصالحة بين السلطة في مصر وجماعة الإخوان (وهو ما قد تلعب فيه كل من تركيا وقطر دورا). وردّت هذه التقارير الرغبة الأمريكية في المصالحة إلى تحركات دولية تقوم بها واشنطن منذ فترة وترتبط بالحرب الروسية الأوكرانية ورؤية أمريكا وحرصها على ضرورة استقرار الجبهات الداخلية للدول الحليفة لواشنطن. و”تسكين” الملفات الساخنة والشائكة في مناطق مختلفة من العالم كجزء من ترتيبات تقوم بها إدارة بايدن في طريقها لإحكام الحصار على روسيا.

 

اقرأ أيضا: مصالحة مع الإخوان أم مع المجتمع؟

 

لذلك يقول عمار علي حسن -الباحث في علم الاجتماع السياسي- إنه “كما جرى عام 1979 حين حشدت أمريكا مسلمين لقتال الاتحاد السوفييتي في أفغانستان تحتاج واشطن إلى التيار السياسي الإسلامي في قلب تحالف ضد إيران. وربما روسيا أيضا. ولهذا يضغط “بايدن” لمصالحة هذا التيار. لذا قد نرى تعويم الإخوان والسلفيين ولو مؤقتا”.

مصالحة الإخوان.. حل وسط لمصر

ومن منظور السياسة الخارجية والإقليمية -وليس الداخلية- فإنه “حل وسط يمكن لمصر قبوله حتى لا تبقى مستبعدة من الديناميكيات التحويلية الجارية في المنطقة الموسعة”. بتعبير جوسيبي دينتتشي -زميل باحث في مركز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد الدراسات السياسية الدولية.

ويقول الخبير الذي تركز أبحاثه على الشأن المصري وتطورات العلاقات الأمريكية معها والتحولات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط لـ”مصر 360” إن هذه النقطة من منظور الرياض جوهرية ويجب تحسينها عبر العديد من الإجراءات.

في المقام الأول قيادة عملية خفض التصعيد بين مصر وتركيا. وثانيا من خلال الاعتراف بقيادتها السياسية في المنطقة. وهذه تضمن شرعية جديدة للمملكة العربية السعودية. بينما يمكن أن تسمح لمصر بقروض جديدة ومزايا اقتصادية لاستعادة وضعها المالي.

إن القيادة القوية -بالتنسيق مع إسرائيل والإمارات العربية المتحدة وربما بدعم عملي من مصر وتركيا- تفتح آفاقًا جديدة أيضًا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط -وفق تقدير دينتتشي.

وبهذه الطريقة، يمكن لواشنطن أن تحافظ على دورها كمزود للأمن وطمأنة شركائها الإقليميين في محاربة الإصرار الإيراني وإبعادهم عن المصالح الروسية والصينية المتنامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.