لا شك بأن الجمهورية الجديدة لكي تستحق هذا الاسم ينبغي أن تكون دولة قانون وعلى العكس من ذلك فإن شيوع “دولة الرجل الواحد” في عدد من بلدان العالم الثالث يؤدى مباشرة إلى تغييب دولة القانون. ما يعقد من مهمة تفكيك ذلك النمط من الدول. فلا شك بأن من أهم شروط الدولة الحديثة وجود قواعد قانونية يلتزم بها الحاكمون والمحكومون على حد سواء. وتبدأ دولة القانون أولى خطواتها بوضع دساتير وسن قوانين. بينما تدل ممارسات معظم تلك الدول على أن الدساتير والقوانين -رغم توافرها- معطلة. أو تطبق بطريقة انتقائية وعشوائية. حيث تشيع النظرة إلى القانون باعتبار أنه ملجأ اختياري للسلطة.
يرتبط بذلك أن تلك الدول تشهد عموما غياب أو ضعف المؤسسات المدنية الحديثة. وإلى قواعد الممارسة السياسية الراسخة. ما يعنى قصور فعاليتها في التطبيق إلى حد بعيد. ويؤدى ذلك إلى أن يصبح الحاكم هو المؤسسة الوحيدة حتى لو تخفى وراء اصطلاح: “القيادة السياسية” أو “مؤسسة الرئاسة”. تجهيلا لحقيقته وتلاعبًا بالألفاظ والمصطلحات في أمر لا يحتمل التلاعب.
ويفاقم من قضية المؤسسات المدنية والقواعد السياسية قضية المركزية الشديدة في صنع القرار. وما يرافقها من ضآلة حجم النخب السياسية الحاكمة في تلك الدول. ما يتسبب في ضيق نطاق الخبرة السياسية في الشئون الداخلية والخارجية. فالمعروف عن النخب السياسية أنها تكاد تكون محصورة في مجموعة معينة. يعاد تدويرها من وزارة إلى وزارة أو من وزارة إلى مناصب غير وزارية. ومن هذه المناصب تعاد إلى الوزارة.
كذلك الأمر فيما يتعلق بقطاعات المجتمع المدني الأخرى. ففي معظم المجتمعات لا توجد مراكز متعددة للتأثير المستقل ولا توجد أحزاب سياسية. وإذا وجدت فهي بعيدة كل البعد عن مجالات التأثير الحقيقي. ولذلك يظل اهتمامها بقضايا معينة في السياسات الداخلية والخارجية اهتماما يتصف بالعمومية. لأنها لا تطمع بل ولا تفكر في أنها ستتحمل يوما مسئولية إدارة الشئون السياسية. الشيء نفسه ينطبق على النقابات المهنية والعمالية. فأغلبها يخضع لسيطرة فعلية من الدولة.
فضلا عن ذلك تفتقر تلك النظم إلى الشفافية السياسية. بمعنى أن يتم العمل السياسي في العلن قدر الممكن. بحيث يمكن التنبؤ بمساره ومعرفة نياته وأهدافه. هذا الافتقار إلى الشفافية السياسية يعود إلى عناصر عدة. أهمها الطبيعة غير الديمقراطية والمغلقة لهذه النظم. يدعم ذلك ضعف أو غياب المؤسسات التشريعية. وانعدام حرية الصحافة والإعلام. والقيود المفروضة على الحريات بشكل عام. وعدم وجود أي أحزاب فاعلة. فيصبح من المستحيل وضع نظام للمحاسبة السياسية. هي إذًا دائرة مغلقة في مركزها يوجد الحاكم ونخبة محدودة. وتدور الدائرة حول نقاط تنتهي عند نقطة البداية. وهي شخص الحاكم ونخبته المحدودة.
وهذا النمط من السلطة المركزية الشديدة -سواء اندرج تحت اسم دولة الحزب الواحد أو شهد تعددا حزبيا شكليا يجسده في التطبيق نمط “دولة الرجل الواحد”- شائع في العديد من دول العالم الثالث. لكنه في مصر تفاقمت حدته نتيجة عاملين إضافيين:
أولهما مواريث هرم السلطة الفرعوني المتراكم عبر العهود منذ فجر التاريخ. حيث “مصر أرض الطغيان” بتعبير العلامة جمال حمدان. والحاكم إله منفرد على قمة السلطة. بينما يتسلق العديد من الكهنة والسدنة على مدارجها. السائد أن الحاكم هو فرعون مطلق فوق البشر أجمعين. كما أنه يملك البلاد والعباد. فهو حاكم النهر قبل البشر. وهو مصدر الخير والنماء. حتى لقد ذهب الرئيس السادات -بحق- إلى أنه آخر فرعون يحكم مصر!
وثانيهما النظام السياسي الذي أرست قواعده ثورة 23 يوليو. والمستمر حتى الآن بغض النظر عن المبررات التي فرضته والتغيرات الشكلية التي مر بها من مرحلة إلى أخرى. والذي يجسد الظواهر الثلاث الأساسية لتلك الدول: ظاهرة دمج السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في يد واحدة حازمة. وظاهرة المركزية الشديدة في ممارسة السلطة. وظاهرة الاستغناء عن الحزبية عموما بغض النظر عن قيامها من حيث الشكل.
وقد بلغت هذه الظاهرة ذروتها على يد الرئيس الأسبق محمد مرسي الذي جمع بين العاملين السابقين –المواريث الفرعونية والثورية- متمثلا في الإعلان الدستوري الذي يكاد يقول -وأستغفر الله-: “أنا ربكم الأعلى فاعبدون”!
ومن اللازم الإشارة إلى أن هذه الدول قد شهدت العديد من القيادات التاريخية التي حققت إنجازات هائلة في دولها. في مواجهة تحديات داخلية وخارجية عاتية. مثل جمال عبد الناصر وماوتسي تونج وتيتو ونكروما وسيكوتوري وسوكارنو ونيريري. لكن العبرة بالخواتيم. لأن أغلبية هذه الإنجازات جرى ضربها لأن هذه القيادات التاريخية لم تتجسد في مؤسسات مدنية مستقرة وقواعد سياسية راسخة تضمن استمرار التجربة.
وتلزم تحديدا الإشارة إلى أن نظام جمال عبد الناصر وقيادته التاريخية كانا محل تأييد شعبي كاسح لا سبيل إلى إنكاره. لكنه انتكس بهزيمة 1967 الكاسحة. مع ذلك خرج الشعب المصري والعربي يرفض الهزيمة. كما يرفض تنحيه عن السلطة بعدها. ما اعتبره بعثا للثورة. فضلا عن تأكيده أن قطعة من أرض الوطن قد تكون عرضة للاحتلال لكن أي قطعة من إرادته ليست عرضة لأي احتلال. وهذا هو الفيصل في كل صراعات التاريخ.
ثم جاء موقف الوداع بكل جلاله ورمزيته ليؤكد مكانته في تاريخ أمته بعد أن أصبح في رحاب ربه. لكن جاء الرئيس السادات من بعده فاستخدم النظام نفسه لتدشين سياسات مختلفة جذريا. لقد تم العدول في السبعينيات بالأسلوب ذاته الذي جري به التغيير في الستينيات من خلال مؤسسة الرئاسة كمؤسسة وحيدة تسيطر عليها قبضة واحدة. وتتجمع لها كل خيوط التحريك في الدولة والمجتمع.
معنى ما تقدم أن دولة الرجل الواحد ليست أمرا سيئا أو سلبيا على طول الخط. فقد تفرضها مرحلة أو تقتضيها ضرورة. لكن ذلك ينبغي أن يكون بأجل لا يتعداه. وعلى سبيل التحديد تمكن الإشارة إلى دور الرئيس السيسي التاريخي في حماية مستقبل مصر وإنقاذها من حكم “جماعة الإخوان المسلمين” ومحاربة الإرهاب الذي تحاول فرضه على البلاد.
كما أن تدخله يحل مشكلات عديدة. ومن هنا التطلع إليه لحل مشكلات من نحو: عمل المرأة في أجهزة القضاء كافة -إصدار قانون الشهر العقاري-إعداد قانون جديد للأحوال الشخصية-المبادرات الصحية وعلى رأسها محاربة فيروس سي. وأيضا قرار ازدواج المجرى الملاحي لقناة السويس–إقرار شبكة الطرق والأنفاق القومية. ومن نافلة القول إن الرئيس السيسي -أيضا- هو الذي أطلق الحوار الوطني. ما فتح الباب لرد الاعتبار إلى المعارضة واعتبارها جزءا لا يتجزأ من النظام السياسي. حيث يرتبط بذلك أن هذه الدول تعمد إلى صم الآذان أمام كل ما يأتي من المعارضة إلى حد اعتبارهم خونة وخارجين على القانون. بل يزج بهم في السجون بدعاوى زائفة ومختلقة. حتى شاع القول: إن اختلاف الرأي خيانة وحرية التعبير إهانة!
وأسهم الحبس الاحتياطي بمصر في قتامة الصورة. لذلك فإن من الخطوات الأولى نحو تأسيس الجمهورية الجديدة رد اعتبار المعارضة وتأكيد أنها جزء لا يتجزأ من النظام السياسي.
ورغم أن كل ذلك يضاف إلى إيجابيات الرئيس السيسي لكنه يكشف في الوقت ذاته مشكلة المشكلات في دول العالم الثالث. وهي بناء المؤسسات المدنية وتقاليد الممارسة السياسية. لأن الرئيس في الحقيقة يقوم بأدوار كان ينبغي أن تقوم بها مؤسسات أخرى في الدولة لكنها لم تفعل. دون أن يحدث تغيير بها أو محاسبة لها.
ومن هنا تأتي الأهمية القصوى لدعوة الرئيس السيسي إلى الحوار لتمهيد الطريق إلى الجمهورية الجديدة. التي تقوم قبل أي اعتبار آخر على المؤسسات الحقيقية التي تفتح الباب الطبيعي أمام التداول السلمي للسلطة.
بل يمكن القول إن المنهج الحقيقي لتلافي الأساليب الانقلابية وأعمال العنف السياسي يصبح فعالا حين يكون هناك تداول حقيقي للسلطة.
فهذا التداول يؤدي إلى تحقيق التمايز بين أمور عدة تتعرض في هذه الدول إلى عملية اختزال مستمر. فالشعب أو الوطن يختزل إلى الدولة. والدولة تختزل إلى الحزب. والحزب يختزل إلى الرئيس. وهكذا لا يبقى هناك مجال للتمييز بين سياسة الدولة كسياسة وطنية عليا وبين السياسة اليومية كما تمارسها الأحزاب. ما يمكن أن يكون موضع تداول.
ويمكن القول إن هناك مدة زمنية كافية لوضع محصلة الحوار موضع التنفيذ وإرساء معالم الجمهورية الجديدة التي تليق بمصر حتى عام 2030 على سبيل المثال. واختيار ذلك التاريخ يرجع إلى اعتبارين:
أولهما أن الحد الأقصى لولاية الرئيس السيسي ينتهي –دستوريا– في عام 2030. ولذلك فإن أمامه فرصة تاريخية لصياغة جمهورية جديدة بالمعنى الحقيقي للكلمة. لا تحتاج إليه ولا يحتاج إليها. أي إنتاج نظام لا يحتاج إلى “رئيس ضرورة” ولا إلى “رئيس استثنائي”. وإذا كان الحوار لا بد وأن ينتهي إلى صياغة دستور جديد يجسد محصلة الحوار ويرسي معالم تلك الجمهورية الجديدة فإن من المتصور أن ينص في هذا الدستور الجديد على أن ينفذ ما يتصل برئيس الجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس السيسي.
لقد كانت أمام الرئيس مبارك فرصة مماثلة بعد انتخابه عام 2005 عندما طرح الأستاذ محمد حسنين هيكل فكرة تشكيل “مجلس أمناء الدستور” من شخصيات مرموقة من وزن الدكتور أحمد زويل والدكتور مجدي يعقوب. كمدخل لإنشاء جمهورية جديدة تليق بمصر. بحيث تتولى مهمة صياغة دستور جديد تحت إشراف الرئيس مبارك نفسه في غضون ثلاث سنوات ثم يتقاعد بعدها. لكنه استكبر وأبى!
وثانيهما أن هناك بالفعل “خطة 2030” التي اعتمدتها الدولة. ومن ثم فإن مراجعتها تمثل أساسا جيدا للحوار. بحيث تجري مراجعة ما تم تنفيذه منها حتى الآن. وما تعثر أو تأخر تنفيذه وأسباب ذلك. وما لم يجر تنفيذه بعد بحكم الجدول الزمني للتنفيذ وما يلزم تغييره. والخروج من ذلك بخطة مقبولة فكريا وممكنة عمليا.
ومن الطريف والغريب أن “خطة 2030” جرى حذف الجانب السياسي منها. وإلا كان الحوار قد انشغل الآن بمراجعة هذا الجزء في ضوء المتغيرات والظروف الجديدة. وربما يعتبر ذلك الجانب المحذوف -وهو متوافر لدى وزارة التخطيط التي أشرفت على وضع الخطة- من مدخلات الحوار الجديد.