أطرح هذا التساؤل من موقعين: موقعي الأساسي كباحث مهتم بقضايا الجنسانية والحريات الجسدية ومدافع عنها. وبالتالي من الأولى أن أكون من أشد أنصار الصوابية السياسية * فيما يخص طريقة تناول هذه القضايا في السينما. أما موقعي الثاني كواحد من المحبين للسينما المصرية والمهتمين بصناعة السينما والفن في مصر، فهو الذي يجعلني أطرح هذا التساؤل: هل الصوابية السياسية هي “السينما النظيفة” الجديدة؟ وما علاقة النقاش المجتمعي الدائر حول ما تقدمه منصات المشاهدة الرقمية بتاريخ “السينما النظيفة” في مصر؟ وما أهم مراحل هذا التاريخ؟

في السطور التالية أحاول الإجابة على هذه التساؤلات. ولكن في البداية أريد التأكيد على أن أي اختلاف مع طريقة التناول الفني لقضايا بعينها (خاصة قضايا النساء، قضايا الأقليات الجنسية، قضايا العنصرية، إلخ) لا يعني بأي شكل من الأشكال التقليل من أهمية هذه القضايا وإنما هو محاولة لطرح تساؤلات حقيقية عن العلاقة الجدلية الأزلية بين الفن وصناعته (وخاصة السينما) من ناحية وبين المجتمع المصري من ناحية أخرى، أريد أيضًا التأكيد على أن أي انتقاد لعمل أو مشروع فني لا يعني على الإطلاق التقليل من موهبة أصحابه.

من أول راع رسمي للسينما النظيفة في مصر؟

من أجل أن نجيب عن هذا السؤال، نحن في حاجة للاتفاق على نقطتين أساسيتين. أولهما أن نفرق بين الفن وبين صناعة الفن، بين المنتج الإبداعي وبين عملية الإنتاج نفسها والدور الذي يلعبه رأس المال في التأثير على تلك العملية. لماذا؟ لأن أي حديث عن تاريخ السينما النظيفة في مصر دون التعرض لتأثير شركات الإنتاج على هذا التاريخ هو حديث منقوص. أي محاولة لتحليل تاريخ السينما النظيفة في مصر لا يأخذ بعين الاعتبار أن صناعة السينما لا تختلف كثيرًا عن أي صناعة من حيث سياسة المكسب والخسارة، وأن الفيلم في النهاية هو “سلعة”، سواء اتفقنا مع هذا الواقع أو اختلفنا، هي محاولة مبتسرة تكشف مجرد أجزاء متفرقة من هذا التاريخ.

أما النقطة الثانية فهي مرتبطة بتعريف السينما النظيفة وفقًا للسياق المصري. دعونا نتفق ولو بشكل مؤقت على أن السينما النظيفة في تعريفها البسيط هي السينما التي لا “تخدش حياء” المشاهدين سواء بالقبلات أو المشاهد الجنسية والحميمية. أو لنقل أن هذا هو التعريف المتعارف عليه منذ ظهور المصطلح على سطح النقاشات الفنية في مصر منذ نهاية التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة.

في ضوء هذا التعريف يعتبر الممثل المصري (حسين صدقي) بمثابة الأب الروحي للسينما النظيفة في مصر. حسين صدقي الذي بالرغم من محدودية موهبته وحضوره، إلا أنه كان بطلًا سينمائيًا من أبطال أفلام الأربعينيات والخمسينيات. يكفي القول إنه من غنت له (ليلى مراد) في فيلم (شاطئ الغرام) رائعتها (يا مسافر وناسي هواك). ولكن لماذا يتم وصف (حسين صدقي) باعتباره الأب الروحي للسينما النظيفة في مصر؟ وفقًا للكاتبة (منى يسري) في مقالها المعنون “حسين صدقي: الواعظ الأخلاقي وخطيب السينما المصرية”، فإن عوامل كثيرة ساهمت في منح (حسين صدقي) هذا اللقب.

على سبيل المثال، الحكايات التي تناقلتها الأجيال عن علاقته التاريخية بجماعة الإخوان المسلمين، إصراره على خلو أفلامه من أي قبلات أو مشاهد حميمية. بل وإصراره على ارتداء الممثلات اللائي شاركن في بطولة أفلامه مثل (صباح) أزياء “محتشمة” في تلك الأفلام. ناهيك عن خطبه الأخلاقية المحافظة التي طالما حفلت بها أفلامه.

لن أتوقف كثيرًا عند حسين صدقي، وإن كنت أود الإشارة إلى أن ما ساعد (حسين صدقي) على تمرير مشروعه الفني الغارق في محافظته و”نظافته”، هو أنه في منتصف الأربعينيات تقريبًا قام بتأسيس شركة أفلام مصر الحديثة ليكون هو منتج أفلامه.

بكلمات أخرى، امتلاك حسين صدقي لأدوات الإنتاج السينمائي وقتها ساهم بشكل كبير في قدرته على خلق مساحة سينمائية لمشروعه المحافظ. وهو الأمر الذي سنراه يتكرر بأشكال مختلفة على مدار تاريخ السينما المصرية. كذلك تجدر الإشارة إلى أن مشروع (حسين صدقي) المحافظ سينمائياً لم يكن فريداً وإنما كان نتيجة طبيعية لواقع اجتماعي وسياسي يحاول خلق هوية قومية مصرية في مواجهة الاحتلال الإنجليزي، وهو الأمر الذي نتناوله بالتفصيل في مقال لاحق.

هل حقًا نكره مشاهدة الجنس في الأفلام المصرية؟

“الفيلم ده قصة ولا مناظر؟!” تذكرت هذا المشهد من فيلم (المنسي) لعادل إمام، عندما بدأت التردد على الأفلام المعروضة خلال مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في بداية الألفية. تذكرته وأنا أشاهد صفوفًا طويلة من الرجال الواقفين أمام شباك سينما (كوزموس) في وسط البلد، وكيف لا والمناسبة السنوية التي ينتظرونها قد جاءت.

بالمناسبة السنوية أقصد فرصة مشاهدة أفلام أجنبية لم يتعرض لها مقص الرقيب في مصر لأنها تعرض في إطار فاعليات مهرجان سينمائي دولي، وهو الأمر الذي يعني بالنسبة للمتفرج المصري الذكر (قبلات ومشاهد جنسية) مجانية. المفارقة أن المشاهد التي أرويها كانت في بداية الألفية أي في لحظة من لحظات الذروة لمشروع السينما النظيفة.

وهو الأمر الذي يجعلني أتساءل: هل حقًا يكره المصريون مشاهدة الجنس والقبلات في الأفلام؟ أذكر أن فنانة كبيرة كانت قد روت في لقاء تليفزيوني كيف أنها وصديقاتها كانوا يقومون بحساب عدد القبلات أثناء مشاهدة فيلم مثل (أبي فوق الشجرة) في قاعة السينما. إذن ما الذي حدث؟ كيف أصبحت القبلات  نوع من أنواع “الحرام” السينمائي؟

أتصور أن الإجابة على هذه الأسئلة تكمن في قراءة الطريقة التي يتعامل بها الفنانون والمشاهدون على حد سواء مع السينما في مواجهة التلفزيون على سبيل المثال. كيف؟ جرى العرف في مصر بشكل أو بآخر على أن يتم التعامل مع شاشة التلفزيون باعتبارها جزءًا من المجال الخاص، أي البيوت. وبالتالي، سنجد أن كثيرا من الانتقادات الأخلاقية التي توجه لمسلسلات بعينها على مدار السنوات الماضية كانت مرتكزة حول أن التلفزيون جزء من كل بيت مصري. ومن ثم تجب مراعاة “قيم الأسرة” فيما يتم تقديمه على شاشة التلفزيون، على العكس من السينما المرتبطة بالمجال العام والخروج في هذا المجال العام من أجل مشاهدة فيلم.

هذا الفصل بين التلفزيون والسينما وبين المجالين الخاص والعام ليس ثابتًا وإنما يتغير طوال الوقت وفقًا للتغيرات الاجتماعية والسياسية. إن أي متابع لتحولات المجتمع المصري قادر على الوصول لنتيجة مفادها أن المجال العام في مصر. وبالتحديد منذ نهاية التسعينيات وعلى مدار العقد الأول من الألفية كان يتسم ليس فقط بالمحافظة وإنما بعنف حقيقي تجاه النساء وأجساد النساء. ما علاقة هذا بالسينما النظيفة؟ إذا عدنا بالزمن إلى الوراء وتابعنا الهجوم المجتمعي على (منة شلبي) و(هند صبري) في بداية الألفية بسبب أفلام مثل (الساحر) و(مذكرات مراهقة) لاكتشفنا أنه ابن لحظته التاريخية والمجتمعية. تلك اللحظة التي بدأت في الثمانينات بالمناسبة عندما وجد (يحيى الفخراني) و(معالي زايد)، أبطال فيلم (للحب قصة أخيرة)، أنفسهما أمام شرطة الآداب بسبب مشهد حميمي في إطار أحداث الفيلم. هذا الخلط البين بين الخيال والإبداع من ناحية وبين الواقع بمحافظة وأسلمته من ناحية أخرى هو ما منح السينما النظيفة في مصر دفعة أخرى في بداية الألفية.

الألفينيات والمحافظون السينمائيون الجدد:

بالرغم من أن موجة السينما النظيفة عادت إلى أو ظهرت في مصر منذ منتصف التسعينيات، إلا أن عام 2001 هو عام مهم وفارق للغاية في تاريخ السينما النظيفة في مصر، وذلك لأكثر من سبب. أولهما أن هذا العام شهد تقريبًا القبلة الأولى والأخيرة بين (أحمد السقا) و(منى زكي) في فيلم (أفريكانو) قبل أن تتحول (منى) لظروف وملابسات إنتاجية ومجتمعية إلى واجهة السينما النظيفة الخالية من القبلات والمشاهد الجنسية. ساعد في ذلك التحولات الاقتصادية الحادة والتي جعلت مساهمات منتجين أفراد مثقفين وداعمين لصناعة السينما مثل (حسين القلا) أقل، في الوقت نفسه الذي لم تعد أفلام (نادية الجندي) و(نبيلة عبيد) تحقق الإيرادات التي كانت تحققها في التسعينيات على سبيل المثال، مع سيطرة عدد معين من شركات الإنتاج والتوزيع السينمائي على مفردات صناعة السينما في مصر.

2001 هو عام فارق في تاريخ السينما النظيفة في مصر لأنه شهد بداية بزوغ نجم (محمد أمين) ككاتب ومخرج لديه مشروع فني واضح، حتى وإن كان هذا المشروع محافظًا. كان من الممكن أن أتسامح كمشاهد مصري مع موجة السينما النظيفة في بداية الألفية إذا توقفت عند خلو تلك الأفلام من القبلات، لأن الواقع وقتها سمح بذلك. التحولات الاجتماعية والاقتصادية في مصر وقتها أنتجت هذه الحالة من السينما صديقة الأسرة، ومع ازدياد عدد المولات التجارية في مصر في بداية الألفية، أصبحت السينما وقتها جزءا من جدول الإجازة الصيفية في مصر، خاصة مع زيادة مواعيد عرض الأفلام الصيفية إلى ما بعد منتصف الليل لضمان تحقيق أعلى إيرادات ممكنة.

كان من الممكن أن أتسامح مع تلك الموجة من السينما النظيفة في مقابل أن تشهد صناعة السينما في مصر انتعاشة من جديد، ولكن ما فعله (محمد أمين) في فيلم (جاءنا البيان التالي) مازلنا ندفع ثمنه حتى الآن. من منا ينسى المشهد الذي يحاور فيه (هنيدي) فنانة ما ويسألها عن القبلات الكثيرة التي تقدمها في الأفلام فيكون ردها الإيفيه التاريخي (أنا مابعملش بوس غير في سياق الدراما). أزمة هذا الإيفيه هي في أزمة كاتبه الأخلاقية مع القبلات السينمائية. تلك الأزمة التي صدرها للمشاهدين فأصبحت سمة مميزة لأفلام تلك الفترة. بالضبط مثل الممثلة محدودة الموهبة التي ظهرت عبر الفضائية المصرية في مطلع الألفية لتروي كيف أنها كانت ستلعب بطولة (الساحر) و(مذكرات مراهقة) و(مواطن ومخبر وحرامي) إلا أنها رفضت بسبب المشاهد الجنسية والقبلات.

2001 هو أيضًا عام مهم في تاريخ السينما النظيفة في مصر لأنه شهد ميلاد (محمد حفظي) كسيناريست ومنتج لفيلم (السلم والثعبان) للمخرج (طارق العريان). والحقيقة أنه ليس هناك أفضل من هذا الفيلم (والذي هو فيلم جيد فنياً بالمناسبة) للمساعدة في توصيف أزمة السينما النظيفة في مصر.

في هذا الفيلم، نجد (هاني سلامة) يقدم أحد أفضل أدواره على الإطلاق ليس بسبب موهبته وإنما لأن قناعات شخصية حازم التي لعبها في الفيلم لم تختلف كثيراً عن سلسلة التصريحات التي بدأها هو في لقاءات تليفزيونية مع الإعلامي (محمود سعد) عبر شاشة قناة دريم حسبما أذكر. نعم (هاني سلامة) هو من أوائل الممثلين الرجال الذين قالوا في لقاءات تليفزيونية أن القبلات في الأفلام “حقيقية” وأنه مع كامل احترامه لزميلاته الفنانات إلا أنه لن يتزوج من داخل الوسط الفني. في فيلم (السلم والثعبان) نجد أيضًا الممثلة (حلا شيحة) التي احتلت مانشيتات الصحف لسنوات طويلة بسبب ارتدائها الحجاب وخلعه وليس بسبب موهبتها الفنية. وإن كانت الأهمية الحقيقية لفيلم (السلم والثعبان) هي في ميلاد (محمد حفظي) كمنتج سينمائي ذو مشروع فني يبدو تحررياً من بعيد وإن كانت أي قراءة متأنية لهذا المشروع قادرة على تحديد مدى محافظة هذا المشروع أخلاقيًا، واجتماعياً وطبقياً أيضاً بالمناسبة.

وبالعودة إلى النقطة التي أشرت إليها في البداية والخاصة بأهمية قراءة العمل السينمائي في ضوء علاقته بعملية الإنتاج نفسها ورأس المال المسيطر على هذه العملية، لست أبالغ عندما أقول أن (محمد حفظي) كمنتج ساهم في ظهور جيل من المخرجين أصحاب المشروعات الفنية التي لا تختلف في محافظتها كثيراً عن جوهر السينما النظيفة حتى وإن قالت عكس ذلك.

من هؤلاء المخرجين (عمرو سلامة) والذي يتصدى لموضوع شائك مثل الإيدز في فيلم (أسماء) إلا أنه يقرر في النهاية تقديم فيلم صديق للأسرة ومنزوع الجنس (سواء في الحوار أو المشاهد نفسها) بالرغم من أن الجنس هو سؤال أصيل وشديد الارتباط بموضوع الفيلم.

ولذا أتصور أن فيلم (الشيخ جاكسون) هو أصدق أفلام (عمرو سلامة). خاصة وأن من لعب دور البطولة فيه كان أحمد الفيشاوي، فحالة الالتباس القيمي والثقافي بل والطبقي لبطل الفيلم هي أحد سمات مشروع (عمرو سلامة) السينمائي، والذي هو مشروع عالي الجودة على مستوى الصنعة والموهبة بالمناسبة. مثال آخر لمن يمكن وصفهم باعتبارهم أصحاب مشاريع سينمائية محافظة، الأخوان دياب (محمد وخالد دياب)، والذين لا يمكن التقليل من موهبتهم بأي شكل من الأشكال، إلا أنني سأتوقف عند فيلمين على وجه التحديد. فيلم (678) الذي قدمه محمد دياب في 2010 والذي تناول فيه قضية التحرش الجنسي، وفيلم (اشتباك) الذي كتب السيناريو له (محمد) و(خالد دياب). في الفيلم الأول نجد نفس أزمة فيلم (أسماء) من حيث تناول موضوع شائك (وقتها) وتجميله طبقيًا واجتماعيًا لضمان إرضاء لجميع الأذواق المحافظة فتكون النتيجة في النهاية فيلم اعتذاري متوسط الجودة. أما (اشتباك) والذي وافق فيه (محمد حفظي) بالمناسبة أن يكون منتجًا بجوار الداعية (معز مسعود) أحد منتجين الفيلم، فهو تتويج لتلك الحالة من الالتباس والتخبط والمحافظة لمشاريع هذا الجيل من السينمائيين. فالفيلم الذي كان من المفترض أن يعبر عن موقف إبداعي ما من الصراعات السياسية الحادة في مصر بين 2013-2014 وقف على الحياد فخرجت شخصياته باهتة ومنزوعة السياق لولا حرفية محمد دياب الإخراجية.

هل الصوابية السياسية هي السينما النظيفة الجديدة؟

تابعت مثل الكثيرين التصريحات التي صدرت مؤخرًا عن الفنان المصري (أحمد أمين) بخصوص نيته تقديم أعمالًا مصرية للأطفال بما يتناسب مع الهوية المصرية. تابعت كذلك الانقسام في ردود الأفعال على تصريحاته ما بين مؤيد يستشعر “الخطر” على هويته الثقافية مما تقدمه منصات المشاهدة الرقمية مثل (نتفلكس) و(ديزني) في الدول العربية والإسلامية، وبين من رأى في تصريحات (أمين) انتقاد للقضايا التي تطرحها تلك المنصات. وخاصة فيما يتعلق بالحريات الجنسية وقضايا التعددية الجنسية والجندرية. في إطار هذا السياق يمكننا الاتفاق على تعريف مؤقت للصوابية السياسية بأنها أشبه بموقف تتبناه تلك المنصات الرقمية يضع الأقليات الجنسية والعرقية والقضايا المرتبطة بها في صدارة ما تقدمه وتنتجه تلك المنصات.

ولكن هناك سؤالان: أولًا: مرة أخرى ما علاقة هذا بتاريخ السينما النظيفة في مصر؟ وثانيًا: ما الضرر فيما تفعله تلك المنصات طالما كنا مؤمنين بعدالة القضايا التي تطرحها؟ إجابة السؤال الأول مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بإجابة السؤال الثاني. فأولًا تلك المنصات أصبحت مع الوقت كيانات إنتاجية ضخمة لا يستهان بها وبالتالي تلعب دورًا كبيرًا صناعة السينما والفن في مصر. ناهيك عن أنه لم يعد من المنطقي قراءة المشهد السينمائي والإبداعي في مصر بمعزل عن الثورة الرقمية التي يشهدها العالم كله، خاصة وأن تلك المنصات أصبحت تقريبًا في كل بيت مصري. وبالتالي، شئنًا أم أبينًا، هي جزء أساسي من المعادلة. ثانيًا إن النقاش المجتمعي حول ما تطرحه تلك المنصات في جوهره هو نقاش حول ما إذا كان العمل الإبداعي من المفترض أن يرضخ لرغبات وقيم المجتمع الذي يخاطبه أم لا.

والسينما النظيفة في جوهرها قائمة على موقف من هذا النقاش، موقف يصب في صالح “قيم الأسرة” على حساب المنتج الإبداعي. ولكن هذه ليست الأزمة، فبالرغم من إيماني الشديد بعدالة قضايا التعددية الجنسية والجندرية التي تتبناها الأعمال الصادرة من تلك المنصات، إلا أنه بعد متابعة دقيقة لتلك الأعمال، يمكن القول بأن ما تفعله تلك المنصات لا يختلف كثيرًا عما يفعله صناع السينما النظيفة في مصر حتى وإن بدت المواقف بعيدة كل البعد عن بعضها البعض. كيف؟ أولًا،  التمييز الإيجابي مكانه في البرلمان وليس شاشات السينما، وإلا أصبح طعم المنتج الفني “ماسخًا”. ثانيًا، هناك فارق كبير بين أن يتخذ فنان ما موقفًا تقدميًا فيما يقدمه في أعماله الإبداعية وبين أن يتحول الأمر إلى مانيفستو يتم فرضه على صناع السينما والفن. نعم، أرفض أن تتحول القضايا التي أتبناها إلى مانيفستو يتم فرضه إنتاجيًا على الفن والفنانين. ثالثًا، وهو الأهم، أن جوهر السينما النظيفة يتلخص في خلو الأفلام قسريًا من (قبلات) أو (مشاهد حميمية) إرضاءً لـ”قيم المجتمع”. وهو بالمناسبة نفس ما تفعله منصات مثل (نتفلكس) ولكن بشكل مختلف. ليس بإضافة شخصيات مثلية، تنتصر الحريات الشخصية على شاشة السينما، خاصة إذا تم إضافة هذه الشخصيات وكأن واقعًا من التمييز والعنف والرفض ضدها لم يكن بل ومازال موجودًا حتى الآن.

هذا ليس موقفًا تقدميًا إذن وإنما اختزال وتبسيط مخل لقضايا بالغة الأهمية. وأخيرًا، أكرر، هناك فرق بين الفيلم وبين عملية صناعة الفيلم. فصناعة الفن هي صناعة قائمة على المكسب والخسارة مثل أي صناعة أخرى. وبالنظر إلى المواقف المعلنة والمستترة بين الشركات الكبرى في هوليوود على سبيل المثال وبين منصات مثل (نتفلكس) و(ديزني)، يمكننا القول بأن التبني المبالغ فيه من قبل تلك المنصات لقضايا الأقليات الجنسية والعرقية والدينية ليس أكثر من تكنيك من تكنيكات الـ branding الذي من المفترض أن يصب في صالح تلك المنصات التي تعلم جيدًا أن التسامح مع عنصرية ومحافظة بل وذكورية هوليوود لم يعد ممكنًا على الأقل بين الأجيال الأصغر والأكثر وعيًا بعدالة قضايا الأقليات الجنسية والعرقية والدينية.

* يطلق مصطلح “الصوابية السياسية – Political Correctness” على الانضباط والرقابة اللغوية بهدف تجنب أدنى إساءة إلى الأقليات والمهمشين والمضطهدين اجتماعيًا وتاريخيًا، تكريسًا لتصورات تيارات سياسية وحقوقية متداخلة عن المجتمع المثالي، للقضاء على التمييز اللفظي والقوالب النمطية السلبية. 


 

طارق مصطفى

كاتب وباحث في قضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي