منذ سنوات تمارس “الإمارات” سياسة السيطرة على المواني البحرية بغرض تحييدها عن منافسة مشروعاتها اللوجستية العالمية. وهي تعتمد في ذلك على ذراعين رئيسيين؛ مواني أبو ظبي ومواني دبي؛ تتنافسان فيما بينهما على الهيمنة على صناعة اللوجستيات في العالم. وهنا تكفي الإشارة إلى أن مواني دبي وحدها استطاعت مد نفوذها إلى 78 ميناءً في مختلف القارات.

دخلت الإمارات قطاع المواني المصرية على استحياء في العام 2008 عبر مواني دبي، وبقوة في الفترة الأخيرة عبر مشروع تطوير وتشغيل وإدارة محطة متعددة الأغراض في ميناء سفاجا البحري (مقرر إتمامها عام 2024) وتتولاه مواني أبو ظبي. بينما تمثل مشروعات مدينة أبو قير الجديدة التي أعلنت عنها الحكومة المصرية مؤخرًا المشروع الأهم لأبو ظبي حاليًا. حيث تتولى إحدى شركات صندوق أبو ظبي تنفيذ مشروعات البنية التحتية، وجميع الخدمات اللازمة لإنشائها خلال 3 سنوات.

اقرأ أيضًا.. الإمارات “الزبون المتوقع”.. لماذا يثير طرح المواني المصرية في البورصة المخاوف؟

يحمل هذا الامتداد الجيوستراتيجي الإماراتي الواضح بخريطة الملاحة والمواني المصرية العديد من التساؤلات المشروعة؛ فلماذا يطور صندوق أبو ظبي مشروعًا ضخما كهذا يعتقد أن ينافس المواني الإماراتية؟ وما الذي تحمله هذه الخطوة من نوايا، خاصة مع تجربتنا السابقة مع مواني دبي وإدارتها السيئة لمشروع ميناء السخنة؟ بينما السؤال الأهم هنا: لماذا لا تبني الدولة المصرية بشركاتها المحلية هذا الميناء الجديد دون الاعتماد على شركة خارجية؟

لماذا “أبو قير الجديدة” مختلفة؟

بدأ الاهتمام بإنشاء مدينة أبو قير الجديدة على ساحل البحر المتوسط بالإسكندرية شمالي البلاد، كخطوة تنفيذية بتوجيه من الرئيس عبد الفتاح السيسي في أحد المؤتمرات الرئاسية خلال العام السابق. بحيث لا تقتصر المدينة على المنشآت السكنية والخدمية الساحلية فحسب، بل تصبح موطنًا لأكبر ميناء بحري، وامتدادًا للموانئ المصرية على طول السواحل.

وقد انطلقت الأعمال الخاصة بتصميم المدينة الجديدة منذ فبراير/شباط 2021. ثم بدأ التخطيط على أرض الواقع في عام 2022. ليستمر الجدول الزمني للمشروع حتى عام 2024. وتصل مساحة المدينة الكلية إلى 1400 فدان.

و”أبو قير الجديدة” هي أول مدن الجيل الخامس في مصر، وفق ما أعلنته الحكومة. ومسمى مدن الجيل الخامس (5G) جديد غير رائج يعبر عن المدن المعتمدة على شبكة “فايف جي” في المقام الأول؛ فشبكة الإنترنت بها أسرع 10 مرات من الجيل الرابع وبسرعة تحميل تصل إلى 360 ميجابايت للثانية. وإنترنت الأشياء هو المحرك الأول للحياة فيها. 

وتحمل أبو قير اختلافًا آخر من حيث أن المخطط لها أن تصبح إحدى المدن التجارية المنافسة. وهي مدينة ملاحية لو صح التعبير؛ إذ أن الميناء هو واجهتها وهدفها، والجزء العقاري فيها عنصرًا مكملاً.

وتتراوح الاستثمارات الموجهة لتشييد مدينة أبو قير الجديدة بين 12 و19 مليار جنيه. وتتولى شركة “اعتماد القابضة” الإماراتية، التابعة لجهاز أبو ظبي للاستثمار، تنفيذ مشروعات البنية التحتية بها، وجميع الخدمات اللازمة لإنشائها.

ويتضمن المشروع شركاء محليين في الإنشاء مثل: إيجي دريل للحفر، وكونكورد للمقاولات، سامكريت، الحاذق للإنشاءات، الشركة المتحدة. مع شركات دولية مثل هيل انترناشيونال وwatg الأمريكية، van Oord. وهذا نابع من أن “اعتماد” ذاتها ليست شركة عقارات. لكنها متخصصة بصورة أكبر في الحلول الأمنية. وربما سيكون دورها الأساسي في تمويل تطبيق تقنيات الجيل الخامس.

هل تتكرر تجربة مواني دبي مجددًا؟

في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقعت الحكومة المصرية عقد شراكة مع شركة “اعتماد القابضة” الإماراتية التابعة لجهاز أبوظبى للاستثمار والمتخصصة فى الصناعات الدفاعية والأمنية والحلول التكنولوجية المتنوعة، للمشاركة في تدشين مدينة أبوقير الجديدة. وذلك باستثمارات تتجاوز 12 مليار جنيه، وهو ما يعادل 807 ملايين دولار.

ويرتبط استثمار “اعتماد القابضة” في أبو قير في المقام الأول باستراتيجية جهاز أبوظبي للاستثمار، أكبر صندوق للثروة السيادية بالإمارات. والذي جعل التكنولوجيا وتغير المناخ مجالين رئيسيين للاستثمار في تقريره السنوي لعام 2020.

ويحمل وجود “اعتماد القابضة” في هذا المشروع (أبو قير الجديدة) مخاوف كبيرة؛ فالتجربة السابقة لمواني دبي في إدارة المشروعات الملاحية المصرية لم تحمل سوى الأزمات للدولة المصرية.

أرشيفية
أرشيفية

ففي عام 2008 استحوذت موانئ دبي على شركة تنمية ميناء السخنة، وأعلنت أنها ستنشئ رصيفًا بطول 1300 متر وغاطس 16 مترًا لاستيعاب مليوني حاوية مكافئة سنويًا. إلى جانب إنشاء محطة للصب السائل بمساحة تخزينية تصل إلى 400 ألف متر مربع. بالإضافة إلى محطة للبضائع عامة يبلغ طول رصيفها 800 متر.

وبعد عامين فقط، قال الدكتور ممدوح حمزة استشاري مشروع ميناء العين السخنة -في مؤتمر صحفي- إن “هناك فساد في مشروع العين السخنة. حيث تم تخصيص أراض مصرية لشركات أجنبية بالمخالفة للقانون”. بينما أعلن إطلاق “حملة لاسترداد ميناء العين السخنة من شركة مواني دبي. داعيًا إلى “ملاحقة شركة مواني دبي قانونيًا” بسبب الخسائر التي سببتها لمصر، من أزمة تكدس شحن لا تزال قائمة، ونقص في معدات الإنزال. فضلًا عن صغر حجم غاطس الميناء ما جعله غير قادر على استيعاب سفن الحاويات الكبرى وحتى متوسطة الحجم. ذلك دون تحرك من الشركة المنتفعة بالتطوير. هذا بخلاف أزمات الفصل التعسفي للعمالة وتأخر الرواتب، التي استدعت التدخل من الدولة.

أبو قير الجديدة.. مدينة صناعية كاملة في البحر

على مستوى الإنشاءات، تمثل أبو قير الجديدة تحديًا هندسيًا ذو تكلفة مالية كبيرة. إذ سيتم إنشائها في البحر، عبر الردم الكامل لمساحة 1400 فدان بعد إزاحة المياه. وقد استقطب المشروع معدات ضخمة، في مقدمتها كراكة الشفط سبارتاكوس، الأضخم عالميًا، والتي تعمل منذ شهور على إزاحة المياه بمنطقة تكريك الميناء الجديد.

ويتم الردم بعد إزاحة المياه باستخدام حجارة ضخمة ورمال من أجل توسعة مساحة المدينة الجديدة، وبعد الردم سيتم وضع الأساسات بأنواع من الخرسانة المعالجة ضد الملوحة التي تختلف تكلفتها وفقًا لحجم الارتفاعات في المدينة الجديدة التي يفترض أن تتضمن أبراجًا ضخمة شبيهة بالعلمين الجديدة، مع تصميم شبيه بدبي.

وبحسب مصدر حكومي، فإن المشروع يعيد إحياء لميناء أبو قير البحري، الذي لا يصلح بشكله الحالي كميناء تجاري. إذ تم تأسيسه منذ عقود لصالح الصيد وأنشطة أخرى غير تجارية، ولا يتناسب مع تدفق الحاويات.

وتتضمن خطة إنشاء الميناء تحويل أبو قير لميناء صناعي، على عكس الميناء القديم الطبيعي الواقع على بحر مفتوح. الأمر الذي يتسبب في عدم اتزان سفن الحاويات.

وتحل الخطة الحكومية تلك المشكلات عبر أعمال التكريك التي ينفذها تحالف “ديمي” الأوروبي. بينما تتولى شركة “هتشيستون بورتس”، ومقرها هونج كونج، إقامة أكبر محطة تداول حاويات بالمنطقة (سعة تداول 2 مليون حاوية سنويًا). والأخيرة متخصصة في إنشاء وتطوير وتشغيل محطات الحاويات. إذ تمتلك 51 محطة حاويات في 26 دولة حول العالم.

ومواني هوتشيسون بورتس لها نشاط في الإمارات. إذ تُشغل ميناء صقر بإمارة رأس الخيمة لمدة 25 عامًا. ذلك بالإضافة إلى حصولها على امتياز تشغيل ميناء أحمد بن راشد في أم القيوين. وهو نقطة دخول وخروج رئيسية للحاويات العامة وحاويات الدحرجة “رو رو”، والبضائع السائبة في شمال الإمارات.

وترى صحيفة المونيتور الأمريكية أبو قير الجديدة بمثابة رد مصري على جزر الجميرا في الإمارات وغيرها من الجزر التي تم بنائها بمليارات الدولارات في الخليج. خاصة أن مهندسي البناء والعمال المصريين لهم خبرة سابقة في تصميم وبناء معظم المدن والمشاريع الكبرى في دول الخليج.

الإمارات وكعكة المواني

منذ سنوات، تتنافس دبي وأبو ظبي على اقتناص الموانئ. وقد استطاعت مجموعة مواني أبوظبي أن تنافس بقوة بالعمل في محطة لتداول البضائع والحاويات وإقامة منطقة لوجستية وصناعية فى ميناء سفاجا والدخول إلى عالم الأنشطة السياحية العابرة للمواني. لكن التنافس بين الإمارتين يأتي في سياق أكبر، وهو استحواذ الإمارات على صناعة الحاويات عالميًا والحيلولة دون فقدها تلك المكانة.

وفي 2012، شرعت أبو ظبي في تشغيل ميناء الشيخ خليفة. وقد بلغت تكلفته 7,2 مليار دولار، ليحل مكان ميناء زايد القديم كمحطة للحاويات، وعلى جزيرة صناعية في منطقتي الطويلة وخليفة الصناعية، والذي تم التخطيط له ليكون بحجم ثلثي سنغافورة عند الانتهاء من بنائه بالكامل. والذي تم تصنيفه السبت الماضي، ضمن الموانئ الخمسة الأولى عالميًا في مؤشر أداء مواني الحاويات العالمي “CPPI” الصادر عن البنك الدولي ووحدة معلومات السوق العالمي التابعة لوكالة “ستاندرد آند بورز”.

البحر الأحمر بالذات يمثل المنطقة الأولى في الخطط الإماراتية التي تضمنت خطة استثمارية في السودان قيمتها 6 مليارات دولار، ثلثيها (4 مليارات) موجهة لإنشاء ميناء جديد يتم بناؤه من قبل مجموعة DAL بالاشتراك مع مجموعة مواني أبوظبي. وتتضمن خطة الميناء منطقة تجارة حرة ومنطقة صناعية بالإضافة إلى مطار صغير.

التجربة الإماراتية في اليمن

حتى في حرب اليمن، كان هدف الإمارات الأول حماية مصالحها في مرور السفن دون تهديد. فسيطرت على خمسة مواني يمنية تجارية ونفطية من أصل ثمانية مواني. بينما تتحدث وسائل الإعلام عن تجربة “مواني دبي” في عدن التي رغم اتفاقها على استثمار مبلغ 220 مليون دولار لتطوير البنية التحتية للميناء، وزيادة سعته من الحاويات من 500 ألف حاوية حينما تسلمته الشركة في 2007 إلى 900 ألف حاوية، إلا أن سعته الاستيعابية للميناء انخفضت إلى 130 ألف حاوية فقط مع تدهور في حالة البنية التحتية.

لكن المصدر الحكومي يقول إن تجربة أبو قير مختلفة. فالشركة الإماراتية -على حد قوله- ستتولى التنفيذ في الموعد المحدد، والعقد سيتم تطبيقه بحذافيره ضمن الخطة الحكومة الرامية إلى تأسيس منطقة حرة خاصة باسم شركة أبو قير لمحطات الحاويات، على مساحة مقدارها 597 ألف متر مربع. فيما من المقرر أن تقوم بمزاولة نشاط تصميم وإنشاء وإدارة وتشغيل محطة حاويات بميناء أبوقير بالإسكندرية وكل الخدمات المرتبطة بهذا الغرض دون تخزين الحاويات بنظام المستودعات الجمركية.

ومما حمّل مشروع أبو قير قدرًا من الجدل توقيت التدشين الذي جاء مع الإعلان عن دمج أكبر 7 مواني تحت مظلة كيان واحد. ذلك تمهيدًا لطرحها في سوق المال وإدارتها وتشغيلها بالتعاون مع قبل القطاع الخاص. والتوقع المعتاد هنا أن يكون الزبون المترقب للصفقة إماراتي، يسعى لتكرار تجربة ميناء السخنة وتقليم أظافر المواني المصرية بعيدًا عن المنافسة.

أبو قير الجديدة.. ما المختلف عن أجيال المدن السابقة؟

تنقسم المدن الجديدة بمصر إلى عدة أجيال وفقًا لتاريخ التأسيس. وكان أول جيل في عهد الرئيس الراحل الأسبق أنور السادات وامتد من السبعينيات وحتى أوائل الثمانينيات. وتضمنت مدن “سكنية ـ صناعية” هي:  العاشر من رمضان،  15 مايو، 6  أكتوبر،  السادات، برج العرب الجديدة، الصالحية الجديدة ، دمياط الجديدة. وغالبيتها حققت أهدافها مع ربطها بالصناعة والسكن في مكان واحد.

وقد جاءت مدن الجيلين الثاني والثالث في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك. وامتد الجيل الثاني من أوائل الثمانينيات وحتى نهايتها. وشمل: بدر – العبور- بني سويف الجديدة – المنيا الجديدة- النوبارية الجديدة – الشيخ زايد. وباستثناء الأخيرة فإن تلك المدن لم تحقق اكتمالًا في الإنشاءات ولم تحقق هدفها في خلخلة الكثافة السكانية.

أما الجيل الثالث أو ما يسمي بمدن التوائم، فتم تدشينه في النصف الثاني من الثمانينيات. وفكرته قائمة على إنشاء تواءم للمدن القائمة. وتضمنت: القاهرة الجديدة – أسيوط الجديدة – طيبة الجديدة – سوهاج الجديدة – أسوان الجديدة – قنا الجديدة – الفيوم الجديدة – أخميم الجديدة، والشروق. وظلت أيضًا تستقطب قطاع محدود من السكان.

لا تتضمن المدينة الجديدة “أبو قير” اختلافًا عن المدن الأخرى فيما يتعلق بطبيعة المشروعات (حال استثناء الشق الملاحي). فمن المفترض أن تشمل المشروعات التي تضمها شقًا تعليميًا ومناطق سياحية ومجمع أسواق ومطاعم ومستشفيات ومراكز علاجية وصحية. وكلها ستكون في الجانب الخلفي للميناء، الذي سيتضمن أرصفة للحاويات والبضائع العامة والصب الجاف والسائل.

إلا أن الخلاف الحقيقي الذي تحمله أبو قير الجديدة عن أجيال المدن المصرية التي بدأ إنشائها منذ السبعينيات يكمن في كونها مدينة صناعية. وبالتالي لا تتبع خطط توزيع السكان بعيدًا عن الشريط الضيق لوادي النيل، أو إقامة مناطق جذب مستحدثة خارج نطاق المدن والقرى القائمة، ومد محاور العمران إلى الصحراء والمناطق النائية. وهي لا تحمل صبغة سياحية بحتة كشرم الشيخ والغردقة في ظل وجود مدن مثل العلمين وراس الحكمة اللتين ينطبق عليهما التوصيف السياحي الكامل.