إهداء: إلى روح “عويس الراوي” و”دم الصعيد الساخن”

قناع سوبر مان

المغرمون القدامى بأفلام الخوارق يرددون فيما بينهم بفخر: “سوبر مان عمهم”، يعني عم كل الأبطال الخارقين، فهو الوحيد القوي بشخصه، بطل ابن أصول قادم من الفضاء بقوته الخارقة، ومع ذلك ارتضى أن يعيش تحت قناع شخصية صحفي خجول ومتلعثم، يعمل في صحيفة “بلانيت” اليومية، وبرغم أنه يطير ويمتلك قوة قاهرة لا يمتلكها غيره من بني البشر، لا يستطيع التعبير بشجاعة عن مشاعره لزميلته التي يحبها، وبنفس الدرجة من الارتباك لا يستطيع تحقيق مكانة مهنية مميزة أو التفوق على زملائه في جلب الأخبار والترقي.

المفارقة صحيحة في ظاهرها، فبقية الأبطال الخارقين كانوا مجرد بشر عاديين تعرضوا لحادث ما تسبب في تحولهم إلى خارقين: لدغة عنكبوت مثل “سبايدر مان” أو حادث كيميائي مثل “الجوكر” و”الرجل الأخضر” أو مشاهدة سفاح شرير يقتل أسرته وهو طفل مثل “بات مان”، لقد كان هؤلاء الأبطال البشريين ضحايا ضعفاء ثم حدث ما حدث فانقلبوا إلى خارقين، بينما “سوبر مان” خارق منذ نشأته.

إذا وضعنا مفارقة التفاخر تحت عدسة الفحص العميق، سنصطدم بأسئلة تقلب وضعية البطل القادم من كوكب كريبتون، وتجعله شبيها ببقية الخارقين البشريين الكادحين، فهو أيضا هارب تعرض لمشكلة أجبرت والده على تهريبه في سفينة فضائية باتجاه الأرض قبل وقت قصير من انفجار الوطن وموت كل من فيه!

سوبر مان إذن لم يستطع حماية وطنه، ولم يستطع الانتصار الحاسم على الشرير الذي يطارده طول الوقت، وهذا يستحضر في أذهاننا التحليل الذي قدمه المفكر الفرنسي جون بودريارد مؤكدا أن تصريحات السياسيين عن معركة “القضاء على الإرهاب”، ليست إلا خرافة مضادة لتاريخ العالم، فالحياة تم تصميمها ليكون الشر أحد أعمدتها الرئيسية، وبالتالي لا يمكن استئصال الشر من العالم.. سيبقى الشيطان حاضرا وفاعلا حتى النهاية، والعبرة هنا ليست بتوهم “قتل الشيطان”، ولكن بقدرة الإنسان على حفظ نفسه من الشر الموجود في العالم، من غير أن نبيع للسذج وهم القضاء على الشر أو قدرتنا على استئصاله من الواقع، وتسليم كوكب الأرض “متوضي” خاليا من الإرهابيين.

نقطة التحول

العبرة من ذكر حكاية “سوبر مان” في هذا المقال، ليست الحديث عن البطولة، ولكن عن “عملية التحول”، فعندما قرأت في بواكير الشباب سيرة حياة خالد الإسلامبولي كنت أفتش عن لحظة التحول، فخالد غير شقيقه شوقي، كان ضابطا بلا ميول سياسية وليس عضوا في تنظيم “الجهاد”، لكنه تأثر بدموع أمه، عندما عاد في إجازة وعرف باعتقال شقيقه وحزن أمه عليه قبل قدوم العيد واحتفالاته، وكذلك عندما كتبت عن هشام عشماوي كنت أفتش عن “نقطة التحول”، التي تجرف الشخصيات بعيدا عن مسارها الطبيعي، وتضعها في قلب العاصفة، وسوف أعود إلى ذلك إذا سنحت ظروف الكتابة استنادا إلى دراسات مهمة أجراها الجيش الألماني لتطهير صفوفه من الأفراد المحتمل تحولهم إلى الأفكار النازية، وكذلك الجيش الأمريكي الذي يضع القواعد لضمان انفصال عقيدة أفراده عن الأفكار العنصرية أو الاتجاهات اليمينية ذات المرجعية الإنجيلية، والمشكلة بدرجة أخطر في تركيبة الجيش الصهيوني الذي يعاني من تعصب المتطرفين الدينيين في صفوفه ويبحث عن حلول..

أكتفي بهذا الاستطراد، لأن القضية معقدة وتحتاج إلى كتابة تفصيلية من واقع دراسات المؤسسات العسكرية التي اهتمت بتحولات أفرادها لعقائد أخرى، بعضها مضاد لعقيدة المؤسسة التي تربى فيها الفرد، وبالطبع فإن “التحول” لم يكن أبدا “اختيارا” ولا حتى انحرافا جنائيا بالمعاني التقليدية للاختيار وللانحراف.

وأعود إلى فكرة المقال الأصلية عن التحول ودوافعه، وحتى لا أخون العنوان لن أستغرق في آراء أيديولوجية واستشهادات أكاديمية بحتة، لكنني سأقترب من شكل الحكايات كما يقول العنوان.

حكاية هيمير والكيلدوزر

في بعض المواقف لابد للرجال العاقلين أن يتصرفوا بطريقة مجنونة، وإلا لن يكونوا رجالا ولا بشرا طبيعيين..

العبارة ليست لمفكر أو طبيب نفسي أو فيلسوف، لكن قائلها ميكانيكي سيارات يمتلك ورشة لإصلاح “الشكمانات” في بلدة هادئة بولاية كولورادو الأمريكية، وقد عثرت الشرطة على العبارة في مستهل تسجيلات صوتية تركها الميكايكي خلفه بعد أن قام بعملية مجنونة لتدمير مقر البلدية وبيت العمدة وكبار المسؤولين في البلدة..

الرجل الذي تحول من عاقل إلى مجنون، أو من مواطن مهزوم مسالم إلى إرهابي مدمر اسمه “مارفن هيمير”، والتسجيلات الصوتية (ساعتان ونصف) التي أودعها أمانة عند شقيقه، تتضمن ترتيبات وتفصيلات العملية وأسبابها، واستغرق في تسجيلها أكثر من شهر (من 13 إبريل/نيسان حتى 20 مايو/أيار عام 2004)، وهذا يثبت لنا أنه لم يتحرك بدافع الغضب المفاجئ في لحظة، لكنه خطط لفترة طويلة، ودوّن ملاحظاته في أوراق متناثرة وعلى جدران الورشة، وفي الرابع من يونيو/حزيران ركب “الكيلدوزر” وانطلق ليحطم المباني الإدارية الرسمية وبيوت حكام المدينة.

“الكيلدوزر”.. تسمية أطلقها الناس والتقطها الإعلام لوصف المدرعة الحصينة التي صممها الميكانيكي لتنفيذ المهمة التي كان يعلم جيدا أنها المهمة الأخيرة له على الأرض، وتسمية “الكيلدوزر” تجمع بين كلمة kill  (أي يقتل) وكلمة “بلدوزر”، وقد نجح “العاقل/المجنون” في تنفيذ مهمته من غير أن يقتل أي نفس بشرية إلا نفسه، فقد اكتفى بتدمير المباني الحكومية، ثم أطلق رصاصة وحيدة باتجاه رأسه وانتهت العملية، التي يجب أن نعود لنعرف لماذا حدثت؟، وما هي الدوافع التي حركت هيمير في هذا الاتجاه؟

تحالف المال والسياسة

كل التحريات والتحقيقات أثبتت أن “مارفن جون هيمير” مواطن أمريكي بسيط، وصف نفسه في التسجيلات بأنه “عاقل”، والعقل نفسه هو الذي أجبره على القيام بهذه العملية المجنونة، وحسب شهادات الجيران والزبائن (التي جمعتها الشرطة)، فإن “هيمير” كان شخصا اجتماعيا هادئا محبوبا لم يظهر عليه أي  سلوك يقترب من العنف، جاء إلى بلدة “جراند ليك” بولاية كولورادو قبل 12 سنة من هجومه العنيف الوحيد والأخير، لم يكن لديه أقارب في البلدة، لكنه نسج علاقات طيبة مع السكان واشترى قطعة أرض مساحتها تزيد عن فدانين، بمبلغ 42 ألف دولار ليقيم عليها ورشة لحام وإصلاح شكمانات السيارات، وبعد سنوات قررت إحدى الشركات إقامة مصنع للخرسانة بجواره وعرضت عليه بيع أرضه مقابل 250 ألف دولار، وأمام إغراء المبلغ الكبير أبدى موافقة، لكنه سرعان ما عرف القيمة الاستثمارية المرتفعة للأرض، واصطدم بشبكة المصالح بين رجال الأعمال الذين يرغبون في الأرض وبين موظفين كبار في مجلس المدينة، فرفض البيع، فرفعوا السعر إلى 345 ألف دولار، لكنه طلب مليون دولار، فبدأ المستثمرون بمساعدة المسؤولين في التضييق عليه، وتم بناء المصنع وإغلاق الطريق إلى الأرض بسور ضخم، وبدأ نزاع كبير بين “المواطن هيمير” وبين الدولة، ممثلة في “مجلس المدينة” الذي أعطى التصريحات اللازمة للمصنع، مما أدى لحصار “مشروع هيمير” واقترابه من الإفلاس.

لقد طاردوه بالغرامات المتلاحقة بحجة مخالفات مرافق وتخزين خردة في غير الأماكن المخصصة، وبدأ هيمير يعاني أنواع مختلفة من المنغصات التي يجيدها ثعابين البيروقراطية في الإدارات الفاسدة. ووجد نفسه في دوامة من نزاعات استهلكت حياته ومدخراته، في الوقت الذي تتعاون فيه “الإدارة” مع أصحاب مصنع خلط الخرسانة لفرض الأمر الواقع وابتلاع مشروع هيمير الشخصي، وإجباره على التنازل عن أرضه بعد أن أصبحت محاصرة وبلا قيمة.

اتق شر هيمير إذا غضب

تتضمن تحقيقات الشرطة شهادة لشقيق هيمير يقول فيها: “أخي طيب ومسالم، لكنه ليس من النوع الذي يتراجع خوفا أمام أي شخص؛ لأن إحساسه بكرامته يدفعه لخوض أي صراع حتى النهاية”.

شهادة الشقيق تشير إلى “نقطة التحول”، وأنا ممن يقدرون هذه النقطة التي قال عنها المأثور: “اتق شر هيمير إذا غضب”، عندما يشعر شخص كريم بامتهان كرامته، أو تحاصره قوة غاشمة بين السيف والجدار، فإنه يخوض صراع المواجهة إلى نهايته، وهذا ما فعله المواطن الأمريكي الذي اصطدم بوحش الدولة في بلاد تسمي نفسها “أرض اللبن والعسل”، لكنها مثل كل السلطات الطاغية تسقي المواطنين العلقم باسم العدالة واسم القانون، لهذا قرر هيمير خوض الصراع على طريقة كافكا “رجل أعزل في مواجهة  الوحش”، وكان في عام 202 قام بتأجير جزء من أرضه لشركة نفايات، واشترى جرافة (بلدوزر) لتمهيد طريق بديل إلى أرضه، لكنه لم يستطع الحصول على تصريح بذلك، وبدا واضحا أن تحالف المسؤولين مع المستثمرين من أبناء “عائلة دوشيف” وثيقة الصلة بالسلطة قد عزموا على حصاره حتى التسليم بما يريدون، فقرر تصعيد الصراع من العقل إلى الجنون، شرع في تحويل الجرافة إلى مدرعة مصفحة بالفولاذ الصلب، واستغرق في ذلك عاما ونصف تقريبا؛ كان يسجل خلالها ملاحظاته، فيصف ما يفعله مثلا بأنه “مشروع بدوام جزئي على مدار سنة ونصف”، ثم يسخر من تغافل الأجهزة والمجتمع نفسه عما حدث معه وعما يستعد له فيقول: “من العجيب أنهم يتركونني أفعل كل ذلك ولم يتم اعتقالي، فقد دخل الورشة العديد منهم خلال العام الماضي، لكنهم لم يلاحظوا الجرافة المعدلة.. والدروع التي لا بد وأن تثير اشتباه أي إنسان يفكر.. لكنهم لا يفكرون، وإذا فكروا فإن تفكيرهم ضحل وفي الاتجاهات الخاطئة!”.

الرسالة وصلت

في الرابع من يونيو/حزيران دخل هيمير “المصفحة” وأغلقها عليه باللحام من الداخل حتى تحولت إلى تابوت من الصلب لا يمكن النفاذ إليه من الخارج. ووضع عددا من الكاميرات في مخابئ خارجية محصنة بزجاج مضاد للرصاص وموصولة بشاشات يتابع منها حركة الشارع، وزرع فوق الكاميرات “مراوح” لإزاحة الأتربة أثناء اقتحام وهدم المباني، كما وضع عدة بنادق ورشاشات في فتحات خاصة يتحكم بها من الداخل، وبدأ بهدم منزل العمدة ومكاتب البلدية، واستمر حتى دمر جميع المباني التي وضع بها قائمة تم العثور عليها بعد ذلك. على الرغم من أن قوات الشرطة أطلقت عليه أكثر من 200 طلقة وفجرت في طريقه ثلاث عبوات ناسفة، لكنها لم تؤثر في المدرعة الفولاذية. وبينما عجزت الشرطة تماما عن إيقاف هيمير، لم يطلق من جانبه رصاصة واحدة على أي فرد، لكنه بعد ثورة مذهلة ومخططة بعناية استمرت 127 دقيقة، حقق الأهداف الانتقامية التي وضعها، لم يكن هناك سبيل إلى العودة، ولم تكن الخطة أصلا للانتصار واستعادة الأرض، لكنها كانت رسالة تتضمن رده النهائي على ما حدث معه من تعنت ومحاولة إخضاع، وكسر إرادة، وامتهان كرامة وحقوق، ولما شعر هيمير أن رسالته وصلت، أطلق رصاصة واحدة على نفسه وأنهى العملية.

كانت الشرطة عاجزة وتتابع “العملية” في دهشة وخوف بالغين، ولما توقفت المدرعة عن الحركة لفترة من الوقت، أدركت الشرطة أن “العملية انتهت”، وشرعت في استخراج جثمان هيمير في مهمة استغرقت ساعات طويلة حتى فجر الخامس من يونيو/حزيران.

مؤيد ومعارض

انتهت “عملية الكيلدوزر” بعد 127 دقيقة من الهجوم الجراحي الذي شنه هيمير من غير إيذاء أبرياء، وتلقف الإعلام الحادث ليستولي على اهتمام أمريكا كلها.. إنها “11 سبتمبر محلية” في رأي البعض، و”بطولة شعبية” في رأي آخرين، تعاطفوا مع هيمير وأكدوا أنه حرص على عدم إيذاء أي شخص، لم يكن قاتلا، فقد أطلق رصاصاته على محولات كهرباء وخزانات غاز تخص المقار الحكومية ولم يستهدف بشرا.

توسع الجدال بين المتعاطفين مع هيمير وبين فريق العمدة الذي سعى لإدانة هيمير بأن انفجار الخزانات كان من الممكن أن يؤدي إلى خسائر بشرية، وادعى بأن بعض المباني التي تم تدميرها كان من المفترض أن تقام فيها دورة تدريبية لبعض الأطفال. واستمر الجدال يتصاعد في اتجاه الإعجاب بثورة هيمير والانبهار بمدرعته التي أطلق عليها الناس اسم “الكيلدوزر، وطالبوا بالاحتفاظ بها في متحف، أو الحصول على أجزاء منها كهدايا تذكارية، لكن السلطات قررت التخلص منها تماما حتى لا تستخدم في تخليد هيمير وثورته الكافكاوية.

دائما الرب في الاختيار

الملفت بالنسبة لي أنه في أمريكا التي تلقي المواعظ للآخرين عن كيفية التعامل مع المواطنين وفق القوانين، والتي تزخر بآلاف الأبحاث لضمان عدم تحول المواطن المسالم إلى العنف والإرهاب، والتي تنفق المليارات على ما تسميه “الإرهاب الإسلامي”، هي الدولة التي قدمت للعالم “نموذج هيمير”، المواطن الذي قاد “ثورة الكيلدوزر” بعد أن كتب بخط يده قائمة أهداف لمؤسسات يجب تدميرها لأنها دمرت حياته، وقد تضمنت القائمة كلا من مقر العمدة ومجلس المدينة والشرطة والكنيسة جنبا إلى جنب، بالرغم من أن تسجيلات هيمير أشارت إلى إيمانه بالرب، فقد قال في أول تسجيل له: “إن الله اختارني وهيأني لهذه المهمة.. لذلك كانت حكمته ألا أتزوج وألا تكون لدي عائلة”، كما قال: “أؤمن أن الله هداني للحصول على هذه الآلة، لأقودها وأفعل ما أفعله.. لقد بارك الله خطواتي سلفا وأعانني لتنفيذ المهمة التي سأقوم بها..”. وفي عبارة واضحة الدلالة قال هيمير: “هذا واجبي ودوري.. إنه صليب أحمله باسم الله”.

وللحكايات بقية