هجرة العقول هي إحدى المشكلات الكبرى التي تواجهها الدول النامية. ومصر منها. وهذا ما أوضحته بيانات البنك الدولي بالتعاون مع موقع “لينكد إن” حول هجرة المهارات. إذ وفّر الطرفان بيانات حول التوظيف والصناعات المختلفة ومهارات العمل في البلدان المختلفة.
وتهدف تلك البيانات إلى توفير معلومات لصناع القرار والسياسات الاقتصادية لتحسين التوظيف والنمو الاقتصادي.
أرقام صادمة
ومن أهم البيانات التي وفرتها تلك الشراكة هي المرتبطة بهجرة المواهب. حيث أشارت البيانات المتعلقة بمصر إلى أن قطاع البحث يأتي في المرتبة الأولى في الصناعات التي تخسر بسبب هجرة المواهب إلى الخارج. يليها قطاع المرافق ثم برمجيات الحاسب ثم تكنولوجيا المعلومات والخدمات فالإدارة الحكومية بصافي تغيير -324.08 و-193.65 و-167.79 و-160.37 و-155.18 على التوالي.
والدول الخمس التي يهاجر إليها المصريون أصحاب المهارات هي: الإمارات في المرتبة الأولى ثم ألمانيا ثم كندا والكويت وأخيرا الولايات المتحدة.
أما فيما يخص المهارات فأعلى خمس مهارات تفقدها مصر هي: الذكاء الاصطناعي ومعالجة الإشارة ودورة حياة تطوير الأنظمة وتطوير تطبيقات الهواتف المحمولة وفحص البرمجيات. وذلك بصافي تغيير -432.00 و-414.03 و-341.43 و-326.52 و-295.24 على التوالي.
بينما الصناعات التي تستفيد من المواهب القادمة من الخارج في مصر تتركز في صناعات البناء والعقارات. وذلك بصافي تغيير +15.56 و+13.15. والمهارة القادمة من الخارج التي تستفيد منها مصر هي الهندسة الهيدروليكية بصافي تغيير +27.98.
جميع تلك المعدلات والبيانات تمثل متوسط التغيير في الصناعات والمهارات في الفترة بين يناير/كانون الثاني 2017 وبين ديسمبر/كانون الأول 2019.
هجرة المهارات والكفاءات ليست ظاهرة جديدة على مصر. يقول الباحث نزيه الأيوبي في دراسة عن هجرة العقول منشورة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي.
فيقول إن ظاهرة هجرة العقول بدأت بالظهور في فترات الستينيات والسبعينيات مع ازدياد هجرة عدد كبير من الكفاءات العلمية من مصر إلى دول أخرى.
ويتضح من أرقام البنك الدولي وموقع “لينكد إن” أن تلك الظاهرة لا تزال مستمرة ولكن في القطاعات التقنية والمعرفية المعاصرة.
مفهوم هجرة العقول
يشير مفهوم هجرة العقول إلى العملية التي تنطوي على هجرة الكفاءات من دولة إلى أخرى.
وتنقسم العوامل التي تدفع بذهاب أصحاب المهارات والكفاءات من دولة لأخرى إلى عوامل طرد وجذب. فهناك عوامل طاردة للعقول مثل تدني الأجور أو مستوى المعيشة أو غياب فرص العمل أو ضعف الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم. فيما عوامل الجذب قد تتضمن وفرة فرص العمل وارتفاع مستوى المعيشة والأجور وغيرها من مميزات اجتماعية واقتصادية أخرى.
ويفسر منظّرو نظرية المنظومات العالمية بأن هجرة الأدمغة نشأت نتيجة التقسيم العالمي غير العادل. والذي أنتجه النظام الرأسمالي بين الدول. فتتركز الصناعات التي تحتاج إلى عمالة ذات مهارات مرتفعة في دول العالم المتقدم أو دول المركز. بينما باقي دول العالم أو دول الهامش -كما تصفها النظرية- تتركز فيها الصناعات التي تتطلب مهارات منخفضة وعمالة كثيفة.
وتعد هجرة الأدمغة أحد العوامل التي تعزز هذا النظام العالمي غير المتكافئ. فتبقى دول المركز في موقعها وتستمر دول الهامش في موضعها كذلك.
لذلك فإن هجرة الأدمغة تؤدي إلى استمرار وزيادة الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية. وتُفضي هجرة الكفاءات في المجالات الاستراتيجية إلى بقاء الدول المتقدمة كمراكز للتكنولوجيا بينما تظل الدول النامية مفتقدة التقنيات والمعرفة المتقدمة. ما يجعل الدول النامية في حالة دائمة من الاستهلاك والاعتماد على التقنيات والمعرفة التي يصنعها العالم المتقدم.
كل هذا لا يعني أن هجرة الأدمغة ظاهرة سلبية بشكل كامل. فهذه الكفاءات قد تعود يوما حال تحسن البيئة الاقتصادية والاجتماعية بمهارات أكثر تطورا. كما أنها تفيد الاقتصاد المحلي خلال وجودها بالخارج عن طريق التحويلات المالية.
هجرة العقول واقتصاد المعرفة في مصر
تكمن أزمة هجرة الأدمغة في أنها تفقد الدولة مجموعة مهارات حيوية تسهم في النمو الاقتصادي. يتضح من بيانات البنك الدولي و”لينكد إن” أن مصر تفقد مجموعة مهارات مرتبطة بالتقنيات الحديثة والتكنولوجيا والبحث. فالصناعات الرقمية والمعرفية أصبحت محورية في عالم اليوم ويتزايد الاعتماد عليها في القطاعات الاستراتيجية التي تسهم في تحقيق النمو والتنمية الاقتصادية. حيث إن الاقتصادات المتقدمة في العالم صارت تتجه نحو اقتصاد المعرفة.
في العقود الأخيرة تغير شكل الاقتصاد من الاعتماد على الصناعات التقليدية إلى الانتقال لاقتصاد المعرفة. فمنذ بداية الألفيات وضع الاتحاد الأوروبي الانتقال لاقتصاد المعرفة هدفا استراتيجيا. كما يقول أندرو وايكوف -مدير مديرية العلوم والتكنولوجيا والابتكار بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- إن في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أصبح الاستثمار في رأس المال المعرفي (رأس المال غير المادي مثل البحث والبيانات والبرمجيات) ينمو بشكل أسرع من الاستثمار في رأس المال المادي (المباني والماكينات والمعدات). ما كان له آثار إيجابية بارزة على الإنتاجية والنمو الاقتصادي في تلك الدول.
وأكد أن هذا النوع من رأس المال لن يتأثر بالندرة الاقتصادية التي تواجه الموارد المادية.
وتختلف تعريفات مفهوم اقتصاد المعرفة ولكن البنك الدولي وضع أربع ركائز لاقتصاد المعرفة. وهي: التعليم والتدريب لصناعة واستخدام المعرفة-وجود البنية التحتية التكنولوجية والرقمية اللازمة لنقل ومعالجة المعلومات-وجود بيئة اقتصادية ومؤسسية تشجع على حرية تداول المعرفة والاستثمار في قطاعات تكنولوجيا المعلومات-وجود شبكة مؤسسات مختلفة في المجتمع مثل القطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية والمجتمع المدني لتسهم في الابتكار المعرفي.
ويبدو من تلك المؤشرات أن صناعات البناء والعقارات في مصر جاذبة لكفاءات من الخارج. ولكن القطاعات المرتبطة بالصناعات والقطاعات الحديثة طاردة.
وقد يكون هذا نتيجة الاهتمام بالاستثمار في قطاع العقارات. ولا شك بأن هذا قطاع محوري للتنمية الاقتصادية. ولكن تلك البيانات تدق ناقوس الخطر فيما يتعلق بالقطاعات المرتبطة بما يعرف باقتصاد المعرفة. حيث إن الصناعات التكنولوجية والعلمية أصبح لا غنى عنها وستصبح أكثر محورية في المستقبل.
نزيف العقول ورؤية مصر 2030
طرحت رؤية مصر 2030 مجموعة أهداف أساسية لتحقيق التنمية المستدامة. هذه الأهداف ترتبط ارتباطا وثيقا بالمهارات والصناعات التي تتأثر نتيجة هجرة العقول.
الهدف الأول من رؤية 2030 هو “جودة الحياة”. ويتضمن هذا الهدف تحسين المستوى المعيشي للمصريين وجودته. وذلك عن طريق إتاحة التعليم والخدمات الصحية الأساسية بجودة عالية. توازيا مع تطوير البنى التحتية والبنى التحتية الرقمية.
أما الهدف الرابع فيرتبط ببناء القدرات الإبداعية وتشجيع الابتكار ودعم البحث العلمي لتحقيق التنمية. والهدف الخامس يسعى لتحقيق الاستدامة البيئية والاعتماد على الطاقة المتجددة. ويسعى الهدف السادس لمحاربة الفساد وتحقيق المساءلة والشفافية عن طريق حوكمة مؤسسات الدولة والمجتمع والالتزام بالقوانين في إطار سيادة القانون.
جميع تلك الأهداف تتقاطع مع المهارات التي تهاجر من مصر. ولتحقيق الأهداف الأول والرابع والخامس يتوجب وجود كفاءات قطاعات البحث والمرافق والتكنولوجيا. كما أن السبيل لتحقيق الحوكمة بشكل فعال يتوجب وجود مهارات تتعلق بقطاع الإدارة. وجميع تلك القطاعات تتشابك مع بضعها لتحقيق رؤية مصر 2030.
في الوقت نفسه فإن تحقيق أهداف رؤية 2030 ستحول الظروف الاجتماعية والاقتصادية الحالية من عوامل طاردة للمواهب إلى مشجعة لها. وربما قد تتحول إلى عوامل جذب للمهارات من الخارج أيضا.
لذلك ترتبط رؤية مصر 2030 بظاهرة هجرة الأدمغة بشكل مزدوج. فالطريق لتحقيقها يتطلب وجود كفاءات علمية للأسف تفقدها مصر بهجرة العقول النابهة من أبنائها. بينما تحقيق تلك الأهداف بالفعل سيحول مصر إلى دولة جاذبة ومشجعة للمهارات والكفاءات.
هجرة العقول إذًا مسألة متشابكة مع ظروف محلية ودولية عدة. ما يجعل الحد منها أمرا شديد الصعوبة. خاصة أنها مشكلة قديمة وتواجه أغلب دول العالم. لذلك فإنها تحتاج إلى حلول مبتكرة وإلا ستنفد الكفاءات في بلادنا والتي هي ضرورية للأشكال الجديدة من الاقتصاد العالمي.