يتفق الاستعمار مع الاستبداد في تحميل الشعب مسئولية إعاقة التحول الديمقراطي، خذ مثالين على ذلك:
في 1909 وبعد ثلاثين عاما من أعنف مواجهات القرن التاسع عشر، الغزو البريطاني المسلح لمصر، لإخماد الثورة العرابية 1882، التي هي ثورة وطنية ديمقراطية دستورية من أرفع مستوى إنساني كان يمكن لشعب متحضر أن يبلغه ويصل إليه في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بعد كل ذلك، ورغم كل ذلك، خرج ممثل الاحتلال في القاهرة لورد إلدون غورست (1861 – 1911) ليقول: “الأمة المصرية غير جاهزة للديمقراطية”، وكانت الديمقراطية في مطلع القرن العشرين تعني الحكم الدستوري، ويومها رد عليه أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد (1872 – 1963) بما معناه أن كفاءة المصريين واستحقاقهم للديمقراطية ليست في حاجة إلى شهادة من أحد. راجع ص 16 من عليّ الدين هلال في كتابه “تجديد الفكر السياسي المصري الحديث” الصادر عن دار المحروسة.
– تكرر القول، بعد ذلك بمائة عام تقريبا، في السابع من فبراير 2011، وثورة 25 يناير في لحظة ذروتها، حين تكلم اللواء عمر سليمان (1936- 2012) رئيس جهاز المخابرات العامة لأكثر من عشرين عاما، تكلم مع مراسلة تلفزيون CNN، ونفى أن تكون الديمقراطية هي الدافع وراء الثورة، وقال إن الشعب المصري ليس جاهزا للديمقراطية، وأن الشعب يفتقد إلى ثقافة الديمقراطية.
مثلما لم يقل ولم يعترف الاستعمار الإنجليزي أنه دخل مصر -بجيش أعتى إمبراطورية على وجه الأرض في ذلك الوقت- لهدف محدد هو إخماد ثورة ديمقراطية من أعظم ثورات القرن التاسع عشر، ومثلما لم يقل الاستعمار الإنجليزي إنه حكم البلد ثلاثين عاما بالحديد والنار، وكتم كل صوت حر، وقرب منه كل مهادن ومتعاون وعميل، مثلما لم يقل الاستعمار الحقيقة فإن الاستبداد بعد مائة عام لم يقل الحقيقة.
لم يقل اللواء عمر سليمان إن الاستبداد المحلي الذي يمثله -والذي قامت عليه الثورة- ظل على مدى ثلاثين عاما يفبرك استفتاءات الرئاسة بما يكفل لشخص واحد التربع على عرش مصر ثلاثة عقود متواصلة دون انقطاع يوم واحد، ولأجل بقاء هذا الشخص تم تزييف وتزوير كافة الانتخابات البرلمانية بما يكفل تطويع السلطة التشريعية لهيمنة السلطة التنفيذية، ثم لأجل مطامع ومطامح الرئيس والأقلية التي حوله تم تعطيل انتخابات المحليات والنقابات واتحادات الطلبة في الجامعات، لم يقل اللواء عمر سليمان إن إعاقة الديمقراطية لا تأتي من جهة عدم استعداد الناس لها وإنما تأتي من كون السلطة ومؤسساتها تعمل بكل جد وإخلاص وكذلك بكل عنف وقوة لمنع الديمقراطية ولتعميق جذور الديكتاتورية في مفاصل الدولة وفي نسيج المجتمع وفي خلايا العقل العام.
لم يقل اللواء عمر سليمان إن الاستبداد الوطني ورث عن الاستعمار الأجنبي توظيف آلة الدولة ضد مصالح الشعب، وذلك يستدعي التطبيع مع الديكتاتورية بحيث تتحول إلى منهج حياة طبيعي وعادي ومألوف باعتبارها الأصل وما سواها خروج على الأصل ونشاز لا مكان له. هذه الديكتاتورية 1981- 2011 تمثل -لوحدها وبمفردها- ثلث قرن وهي فترة ليست هينة ولا يسيرة في عمر الزمن، فهي تساوي مجمل الفترة شبه الليبرالية 1923- 1953، كما أنها تزيد على مجموع ديكتاتورية عبد الناصر 1954- 1970 بالإضافة إلى ديكتاتورية السادات 1970 – 1981، فقد كانت ديكتاتورية مبارك تمثل نصف ديكتاتورية دولة 23 يوليو 1952 التي استوعبت وامتصت وأعادت إنتاج كل ما مر على مصر من ديكتاتوريات سابقة، ديكتاتورية حقبة مبارك كانت من الهدوء والتدرج والخبث بحيث حقنت كل مفاصل الدولة وخلاياها وأنسجتها الحية بما يكفي من عصارات ديكتاتورية تفقدها غريزة الإحساس بالشعب وتنسيها الحدود الفاصلة بين المطامع الشخصية لنخبة الحكم والمصالح العامة لجمهرة المواطنين .
تلك الديكتاتورية عاشت طالما كانت قادرة -عبر مؤسساتها الأمنية- على قمع أي مبادرة ديمقراطية، فلما بلغ الإجهاد والإرهاق بأجهزة القمع حدا لم تستطع معه مواجهة المواطنين في الشارع هربت من أمامهم، ولما هربت سقط النظام إلى الأبد، بينما بقيت ديكتاتوريته تنتظر الفرصة المضادة لتصعد من جديد مع دولة ما بعد 30 يونيو 2013.
****
مصر -بعيدا عن رؤية الاستعمار الأجنبي والاستبداد الوطني- جاهزة للديمقراطية من اللحظات الأولى لصعود الديمقراطية في أوروبا بعد الثورتين الأمريكية 1776 ثم الفرنسية 1789، كانت مصر -بالتزامن مع الثورتين- تشهد نزوعا قويا للاستقلال عن العثمانيين، كما كانت تشهد صعود طبقة وسطى، كما كانت تتهيأ لتطور رأسمالي، لم تكن الفجوة أبعد من عدة خطوات قليلة بينها وبين أوروبا، وكانت الفجوة واسعة -لصالح مصر- بينها وبين كل جوارها في الإقليم، مصر كانت -في النصف الثاني من القرن الثامن عشر- على درجة من المرونة الحضارية تسمح لها بمواكبة الحداثة واللحاق بها والتنافس عليها.
ثم عند مطلع القرن الثامن عشر، وبعد رحيل الفرنسيين عنها، تبلورت فيها بوضوح قوة استنارة حديثة تمثلت في ثورة القاهرة على المماليك ثم على الولاة العثمانيين ثم اختيارهم من يحكمهم بإرادتهم دون أن يكون من صفوف المماليك ودون أن يكون من الولاة العثمانيين، حيث اختاروا محمد علي باشا 1805.
1- الاستعمار الفرنسي أعاق بزوغ الجنين الديمقراطي مرتين، مرة بالغزو المسلح المباشر يقوده بونابرت 1799، ومرة ثانية برهان بونابرت على محمد علي باشا ليكون حاكم مصر عندما احتدم الصراع على حكمها بعد رحيلهم عنها 1801، ظلت الديمقراطية في فرنسا ذاتها تتعثر ولادتها أكثر من ثمانية عقود من اندلاع الثورة 1789 حتى سقوط نابليون الثالث أمام ألمانيا 1870، في الوقت ذاته كانت مصر تفقد كل يوم مناعتها وهي مجرد ضيعة يلهو بها ورثة محمد علي باشا وسلالته ويعبث بها المغامرون والمقامون والمرابون ولصوص الآثار والمبشرون والمستشرقون وطلائع الاستعمار من كل الجنسيات الأوروبية.
2- ثم إن الاستعمار البريطاني أعاق بزوغ الجنين الديمقراطي ثلاث مرات: مرة حين هندس الاتفاق الدولي 1840 الذي خصص مصر ضيعة تتوارثها سلالة محمد علي باشا، ومرة ثانية حين تدخل بالقوة المسلحة لقمع الثورة العرابية -وهي ثورة وطنية دستورية عظيمة- ووفر الحماية للحكام واحتل البلاد أكثر من سبعين عاما، ثم مرة ثالثة حين فرغ ثورة 1919 من مضمونها الاستقلالي فمنح مصر استقلالا اسميا شكليا ورقيا لا معنى له إلا استمرار الاحتلال تحت مسمى الاستقلال، كما فرغ ثورة 1919 من مضمونها الدستوري الديمقراطي حيث دعم استبداد الملك ومن في خدمته من أحزاب مصطنعة، حتى أجهضت الثورة في نهاية المطاف فلا الاستقلال تحقق ولا الحكم الدستور استقر.
3- ثم الاستعمار الأمريكي أعاق ومازال يتولى إعاقة الديمقراطية منذ تسلل إلى الداخل المصري في الفترة المضطربة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ثم اختار -بالتنسيق مع الاستعمار القديم- أن يُهندس حركة الجيش في 23 يوليو 1952، وأن يتولى إخراج المشهد، وبالذات تخلي فاروق عن العرش، ثم إلغاء الملكية ذاتها، ثم ديكتاتورية 23 يوليو التي حكمت ومازالت تحكم مصر حتى اليوم والغد.
الاستعمار القديم -فرنسا ثم بريطانيا- تكفل برعاية ديكتاتورية سلالة محمد علي باشا وهي ديكتاتورية وصلت حد الاستعباد.
ثم الاستعمار الجديد -أمريكا- تكفل برعاية ديكتاتورية ضباط الجيش من إعلان الجمهورية حتى ثورة 25 يناير 2011 وما بعدها.
لكن يظل العامل الحاسم في تمكين الديكتاتورية هو استعدادها ثم قدرتها على استئصال أي ميول أو مبادرات ديمقراطية في مهدها دون أن تمنحها فرصة لتظهر أو تنمو وتكبر، صحيح أن الأمريكان رفعوا أيديهم عن حماية نظام مبارك، ولم يكن عندهم مانع من سقوطه، ثم في اللحظات الأخيرة لم يتركوا له مجالا غير التنحي، لكن يظل العامل الحاسم في سقوط ديكتاتورية مبارك هو أن آلة القمع لم تعد قادرة على بسط سلطتها على الناس ثم فقدت رغبتها في حمايته ثم فقدت الاقتناع بقدرته على حمايتها فقررت الانسحاب من أمام الحشود الزاحفة عقب صلاة الجمعة 28 يناير 2011 وهو توقيت السقوط الفعلي والحاسم لنظام مبارك في جملته.
****
عودا إلى فاتحة المقال، يظل السؤال مشروعا:
هل المصريون غير جاهزين للديمقراطية؟
ثم هل في ثقافتهم ما يصدهم عنها بالسليقة؟
الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.