أثار التشكيل الكامل لمجلس أمناء الحوار الوطني ردود فعل متباينة تباينا شديدا،  فأغضب أناسا وأسعد آخرين. فمن استجابوا لدعوة الحوار من البداية اعتبروه تشكيلا متوازنا يمثل كل الأطياف، ومن تشككوا فيه من البداية اعتبروه تشكيلا منحازا لصالح الدولة.

لا يستقيم كل منهما -الغضب والسعادة- في فهم تأثير طبيعة هذا التشكيل على مصير الحوار ونتائجه، ونحتاج بدلا من ذلك إلى قراءة هادئة تبتعد عن الانطباعات السريعة ومواقف التنافس الشخصية لأفراد النخبة المصرية تجاه بعضهم البعض.. قراءة تقوم على التأمل في معايير موضوعية تقدمها حقائق ومعلومات عن هوية المختارين للمجلس من النواحي الجندرية والأيدلوجية والحزبية والمهنية والتخصصية، وأيضا لعلاقة هؤلاء الأمناء كل في مجاله مع الدولة المركزية النهرية المصرية. ربما تقودنا هذه القراءة إلى ما هو أبعد من موقفي التأييد المطلق والرفض المطلق.

أحاول هنا أن أبلور الإيجابيات والسلبيات في تشكيل مجلس أمناء الحوار الوطني بناء على هذه المعايير الموضوعية وبناء على قراءة في مواقف الأعضاء المعلنة من القضايا العامة.

الإيجابيات

عكس التشكيل عددا من الإيجابيات في مؤشرات التنوع القائم على الجندر والمنابع الأيدلوجية والانتماءات الحزبية وغير الحزبية وذلك بتحليل المخرجات التالية :

1- التنوع القائم على النوع يعطي نسبة مشاركة مرضية للمرأة:

ضم مجلس أمناء الحوار خمسة أعضاء من النساء، وهو إن كان أقل من المعدل الموجود عالميا فإنه بالمعايير المصرية والعربية معدل مرتفع ومُرض للغاية، إذ يقترب من حدود الـ25% وهن أميرة صابر، وريهام باهي، وفاطمة سيد أحمد، وفاطمة خفاجي،  ومايا مرسي.

2- التنوع الأيدلوجي الذي يعكس الموقف الفكري بغض النظر عن انتماء العضو أو عدم انتمائه الحزبي :

ضمت القائمة ممثلين للتيار الليبرالي مثل هاني سري الدين، ونجاد البرعي، وديمقراطي اجتماعي مثل سمير مرقص، وعبد العظيم حماد، وماركسيين مثل جودة عبد الخالق وفاطمة خفاجي، وناصريين مثل كمال زايد (الكرامة)، وأحمد الشرقاوي (مستقل). لكن هذا التنوع ربما كان بإمكانه أن يمتد ليشمل شخصيات إسلامية معتدلة أكدت الإيمان بفكرة الدولة الوطنية وتناقضها مع تفكير الإسلام السياسي وهنا يحضرني اسم كان يمكن ضمه مثل الشيخ ناجح إبراهيم.

3- التنوع الحزبي: حصل الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي دونا عن بقية الأحزاب على عضوين في مجلس أمناء الحوار (عبد العظيم حماد وأميرة صابر)، وحصل الوفد (هاني سري الدين) والتجمع (جودة عبد الخالق) ومستقبل وطن (طلعت عبد القوي) على عضو واحد لكل حزب، مع ملاحظة أن هذه الأحزاب الخمسة لها ممثلون في البرلمان، وسبق لها جميعا أن تحالفت في انتخابات البرلمان الأخيرة في إطار ما عرف باسم القائمة الوطنية بدعم من الدولة المصرية.

وحصل حزب الكرامة وحزب التحالف الشعبي الاشتراكي من خارج هذه القائمة وغير الممثلين في البرلمان على عضو واحد لكل منهما: كمال زايد، وفاطمة خفاجي.

وأعطى هذا التمثيل المحدود للأحزاب في مجلس أمناء الحوار الأغلبية -نظريا-  للمستقلين عن الأحزاب (وليس فكريا ولا سياسيا) إذ لدى كثير منهم تجارب سياسية بمشاعر تميل بقسم منهم نحو اليسار وتميل بقسم آخر نحو اليمين، وتبقى البعض الأخير مصنفا باعتباره “تكنوقراط دولة” يوظف خبراته حسب الإطار العام القائم وحدوده.

السلبيات

غياب الشباب ومجلس يميل نحو كبار السن:

باستثناء أميرة صابر التي تبدو دون الأربعين، وربما ريهام باهي، فإن التركيب العمري يبدأ من أواخر الأربعينات ويتكثف بقوة فوق الخمسين والستين، مع ثلاثة على الأقل فوق السبعين. ل اشك أن ذلك يمنح المجلس غزارة عنصر الخبرة، ولكن يحرمه بنفس القدر من عنصر الشباب وحيويته.

والشباب ليس فقط هو المعني الأول بمخرجات الحوار في بلد يصل شبابه إلى ٦٥٪ من سكانه، وهو ليس فقط منبع الأفكار الجديدة خارج الصندوق التي تخرج من دائرة الحلول المكررة في بلد تدور تجربته التنموية بحلولها الريعية المستهلكة منذ نصف قرن في طريق دائري وليس طريقا صاعدا. ولكنه أيضا الحماس الجارف والطاقة المضاعفة على العمل والرغبة في النجاح وتحقيق وإثبات الذات والرغبة في الحصول على المكانة والاعتراف، أي كل الدوافع والحوافز للانخراط في الحوار بكل نشاط وهي كلها عناصر أنجزها وحققها بالفعل ما يزيد عن ٧٥٪ من أعضاء المجلس بحكم العمر والمناصب أو المكانة المهنية والاجتماعية التي يتمتعون بها الآن، فليس لديهم الحوافز على الأقل بنفس القدر الموجود لدى الشباب. سيقول الناس إن ذلك استباق للأمور لأن لجان الحوار عندما يتم تشكيلها قد تستوعب عددا أكبر للشباب ولكن إذا كان هذا المجلس هو “المصفاة” التي ستفرز المخرجات التي ستصل وحدها لصانع القرار فنحن أمام خلل واضح في التركيب العمري ودرجة الهمة والحماس.

غلبة الإعلام والعلوم السياسية على التخصصات الأخرى:

إذا أضفنا المنسق العام الأستاذ ضياء رشوان باعتباره على رأس مجلس الأمناء سنجد خللا كبيرا في تمثيل التخصصات العلمية والمهنية التي يحتاجها بلا شك حوار وطني شامل. فهناك غلبة واضحة للإعلام والصحافة، فما يقرب من ٥٠٪ من الأعضاء هم صحفيون وكتاب أو أكاديميون في الإعلام (جمال الكشكي، عبد العظيم حماد، عماد الدين حسين، عمرو هاشم ربيع، فاطمة سيد أحمد، محمد سلماوي، محمد فايز فرحات، محمود علم الدين).. وإذا وضعنا الخلفية الدراسية والعلمية سنجد أن مدرسة العلوم السياسية تستحوذ لوحدها على سبعة مقاعد في مجلس الأمناء بنسبة تقترب من ٣٠٪.  (ضياء رشوان، محمد فايز فرحات، عمرو هاشم ربيع، عبد العظيم حماد، مايا مرسي، فاطمة خفاجي، ريهام باهي). من الناحية الشخصية يسعدني هذه الغلبة للمهنة التي عملت بها طوال عمري وهي الصحافة والإعلام، والتخصص العلمي الذي أتيت إلى هذه المهنة منه وهو تخصص العلوم السياسية، ولكن من الناحية الوطنية هذا خلل كبير في تشكيل المجلس.

عدم وجود تنوع كاف في التخصصات قد يؤثر نسبيا في قدرته على الإحاطة الشاملة عند تحليل مدخلات الحوار وتحويلها لمخرجات تحت بصر الرأي العام وتحت بصر صانع القرار.

وعلى سبيل المثال لا الحصر يبدو طلعت عبد القوي (طبيب) مغردا خارج السرب كممثل وحيد لكل العلوم الطبيعية.

أما أزمة الاقتصاد المهيمنة على الوطن والحوار فلا تجد في مجلس الأمناء إلا ممثلا واحدا لمدرسة الاقتصاد ألا وهو جودة عبد الخالق، ومع الاعتراف بأن هاني سري الدين لديه خبرات مالية واقتصادية، إلا إنه أتى أساسا من خلفية مدرسة القانون والحقوق.

غلبة الموالاة على المعارضة

عندما ترى أن حزب الموالاة الصريح مستقبل وطن ممثل بمقعد واحد في مجلس الحوار وعندما ترى أن التيارات الأيديولوجية والأحزاب المدنية موجودة بتنوعها بل وأن المستقلين يتفوقون على الحزبيين من موالاة ومعارضة قد تشعر أن المجلس عبر عن تكافؤ في صنع القرار داخله بين السلطة ومعارضيها، ولكن هذه المعايير تصبح معايير نظرية أبعد ما تكون عن العملية عندما تضعها جميعا تحت اختبار واحد هو علاقة كل هذه التنوعات الأيديولوجية والحزبية بالدولة النهرية المركزية القوية التي تدور الساسة والنخبة حولها دوران القمر حول الشمس.

ولا شك لدى كاتب هذه السطور في أن الجمهور في أعضاء المجلس سيحكم ضميره الوطني وينحاز إلى الحاجة لتعديل السياسات التي أوصلتنا للمأزق الراهن. لكن الرغبة تظل محكومة بحقائق العلاقة والروابط مع الدولة والمؤسسة الرسمية.

أشرت مثلا إلى حقيقة أن من ينتمون للمؤسسة الإعلامية والصحفية يمثلون نحو نصف عضوية مجلس الأمناء، وبسبب هذا الطابع المركزي فإن هذه المهنة تعتمد كمؤسسات ونقابات ومجالس خاصة في السنوات الثماني الأخيرة اعتمادا شبه كامل على موارد الدولة ويعرف جميعهم بالتالي الحدود التي يستطيعون أن يصلوا إليها في اختلافهم معها.

كما أن الكثير منهم يشغل حاليا أو شغل من قبل أرفع المناصب التحريرية فيها، وتعود لسنوات طويلة على السير فوق سلك رفيع يقوم على الموازنة بين مقتضيات المهنة وقيود المؤسسة العامة.

وأشير أيضا إلى أن الأحزاب الممثلة في البرلمان الحالي كجزء من القائمة الوطنية تفرض أسقفا على ممثليها في درجة الخلاف مع الدولة التي نسقت وصولها للبرلمان، والأهم من ذلك في التمسك بهذا الخلاف عندما يجد الجد أو يأتي وقت وضغوط التصويت.

وحتى تمثيل النساء رغم أهميته النوعية والتقدمية والارتفاع الواضح في القدرات العلمية لثلاث منهن على الأقل، فإنه سيدعم في الأخير اتجاه الموالاة فهن ينتمين كلهن بلا استثناء إلى مؤسسات تابعة للدولة (مؤسسات أكاديمية أو صحفية) أو مرتبطة في قدرتها على الحركة والعمل بالتنسيق مع الدولة مثل المجلس القومي للمرأة، والاتحادات الأهلية للمرأة.. إلخ.

إن عنصر التمرس بالعمل في مؤسسات الدولة الذي يقدمه معدل العمر المرتفع في عضوية المجلس يساعد أيضا في جعل كفة الموالاة في تشكيل مجلس الأمناء ترجح كفة المعارضة في عملية صنع القرار بكل ما يعنيه ذلك من آثار على فاعلية الحوار في الاقتراب -مجرد الاقتراب- من تحقيق الآمال المعقودة عليه في مصر مدنية ديمقراطية تقوم على المواطنة وتكافؤ الفرص.

لكن النتائج النهائية للحوار لا ترتبط فقط بتكوين مجلسه ولكن ترتبط بوجود إرادة سياسية وتصميم سياسي لدى صناع القرار بإنجاح الحوار وعمل مصالحة وطنية حقيقية بين تحالف القوى المدنية أو على الأدق بين قوي 25 يناير و30 يونيو بوجود إرادة وتصميم مماثلين لدى المعارضة للدفاع بجلد عن حقها في المشاركة في إعادة بناء السياسات العامة المصرية في اقتصاد أكثر إنتاجا وأكثر عدلا وفي مناخ سياسي يكفل حرية التعبير وحرية العمل السياسي والنقابي، “وأمارة” ذلك كله هو الإفراج -قبل الحوار- عن كل أو معظم سجناء الرأي الذين لم يتورطوا أو يدعوا إلى عنف.