دخلت مصر حزام الشح المائي الذي سيؤثر بصورة بالغة على زراعة المحاصيل الزراعية مستقبلاً. خاصة بعد اكتمال بناء سد النهضة الإثيوبي. حيث بلغ العجز السنوي من المياه 54 مليار متر مكعب سنويا. فيما لا يزال المزارعون يعزفون عن زراعة محاصيل لا تستهلك المياه يمكن زراعتها على الجسور وفي التربة المالحة كـ”القرع العسلي والشعير والكينوا والاستيفيا”. والتي يمكن أن تعود على مصر باستثمارات مادية عالية علاوة على وفر المياه.

“عندنا زراعات في مصر محدودة لا يقبل المزارعون عليها لأنها غير مجدية لهم رغم توفيرها الكثير من المياه”. قالها حسين أبو صدام -نقيب فلاحي مصر- لـ”مصر 360″. وأضاف: “القرع العسلي من الزراعات ضئيلة المساحة. لا تتخطى 4000 فدان على مستوى الجمهورية. وبيتزرع على الجسور والترع والمصارف. ولا تتم زراعته بصورة نمطية في مصر. وتبلغ إنتاجية الفدان الواحد منه من 750 لـ1000 كجم بذور. ونحو 10 أطنان من الأوراق والأغصان التي تستخدم كعلف  للمواشي. ولكونه زراعة رخيصة فلا يقبل المزارعون على زراعته. رغم أنه متكيف مع الظروف المناخية”.

قرع العسل
قرع العسل

وتابع: “تحفيز المزارعين على زيادة مساحات زراعة اليقطين -القرع العسلي- تحتاج إلى توعية. فضلا عن تطبيق قانون الزراعات التعاقدية على زراعة اليقطين لتسهيل تسويقه”.

ويقول الدكتور أحمد فخري عبيد -مدير محطة البحوث الزراعية بالمراشدة- إن الأراضي الصالحة للزراعة في مصر صارت محدودة علاوة على نقص المياه. وهذه أزمة ضخمة للدولة. في ظل وجود زيادة سكانية تتطلع  إلى حياة كريمة. لافتا إلى أن الدولة تتطلع لزيادة الرقعة الزراعية باستصلاح أراض جديدة.

استنباط أصناف محاصيل جديدة

الخريطة الزراعية في مصر تنقسم لحبوب رئيسية -قمح وذرة وأرز. ومحاصيل سكرية -قصب السكر وبنجر السكر.

ويؤكد “عبيد” لـ”مصر 360″ أن العمل في مراكز البحوث ينصب حاليا على زيادة إنتاجية هذه المحاصيل لزيادة استنباط أصناف جديدة منها. فضلا عن إدخال محاصيل نادرة في مصر تقاوم الجفاف وتتحمل الملوحة واحتياجاتها أقل من مياه الري. فضلا عن دورة حياتها من زراعة البذرة للحصاد الأقل مع زيادة إنتاجيتها.

الاستيفيا
الاستيفيا

الزراعة للاستخدام الشخصي

“ناس قليلة أوي بتزرع قرع وشعير على قد استخدامهم الشخصي. لكن غيرهم بيزرعه عشان يبيعه”. هكذا قال طلعت الحصى -مزارع بقرية زيان بمركز الستاموني محافظة الدقهلية. وأضاف: “بازرع 70 شجرة في السنة على جسور الأرض وإنتاجه باستخدمه أنا وولادي وحبايبي بس. وعمري ما فكرت أبيعه. بس السنة دي قررت أتوسع في زراعته للبيع. وزيه البطيخ بيوفر مية زي القرع. وأنا قبل كدا زرعت شعير بس استبدلته بالقمح لأنه مطلوب”.

الشح المائي وتعويضه

مياه مصر.. وسد النهضة الإثيوبي
مياه مصر.. وسد النهضة الإثيوبي

على هامش مشاركته كمتحدث رئيسي في جلسة “الأمن المائي الحضري من أجل التنمية المستدامة” ضمن فعاليات “الأسبوع العربي للتنمية المستدامة” في رابع نسخه بمصر قال وزير الموارد المائية والري الدكتور محمد عبد العاطي إن مصر من أكثر دول العالم معاناة من شح المياه. إذ تعتمد بنسبة 97% على مياه نهر النيل. وتصل احتياجات مصر المائية إلى 114 مليار متر مكعب سنويا يقابلها موارد مائية لا تتجاوز 60 مليار متر مكعب سنويا. بعجز يصل إلى 54 مليار متر مكعب سنويا.

ويتم سد هذه الفجوة بإعادة استخدام المياه واستيراد محاصيل زراعية بما يعادل نحو 34 مليار متر مكعب سنويا. وأوضح أن 40 مليون فرد في مصر يعتمدون على الزراعة كمصدر رئيسي للدخل. ويصل نصيب الفرد في مصر من المساحات الخضراء إلى أقل من 40 مترا مربعا.

وفي ذلك يقول الدكتور  عاصم عبد المنعم -أستاذ مساعد وباحث بالمعمل المركزي للمناخ الزراعي بمركز البحوث الزراعية-  لـ”مصر 360″ إن ندرة المياه تؤثر في إنتاج الغذاء.

وفقًا للمعهد الدولي لإدارة المياه فإن 70% من المياه العذبة تستخدم في قطاع الزراعة والإنتاج النباتي والحيواني والسمكي. لذا أصبح الأمر أكثر تعقيدا في ظل التنافس مع القطاعات الأخرى على استخدام المياه العذبة. كالاستخدامات المنزلية والصناعية والبيئية. بالإضافة إلى ذلك ستكون لتغير المناخ آثار كبيرة على الزراعة عبر زيادة الطلب على المياه لري المحاصيل وشرب الحيوانات وانخفاض إنتاجية المحاصيل وتقليل توافر المياه في المناطق التي تشتد فيها الحاجة إلى الري.

محاصيل تتحدى الشح المائي

نبات الشعير
نبات الشعير

ووفقا للدكتور “عاصم” يعد الشعير من المحاصيل الهامة عالميا ومحليا. ويحتل المركز الرابع من حيث الأهمية بعد الذرة الشامية والقمح والأرز. ويُستخدم كغذاء للإنسان والحيوان منذ أكثر من عشرة قرون قبل الميلاد. ولهذا المحصول صفات ينفرد بها عن باقي محاصيل الحبوب أهمها تأقلمه بيئيا أكثر من أي محصول حبوب آخر. كما أنه يستخدم لتغذية الإنسان والحيوان. فيما يتفوق مستخلص “المولت” منه في صناعة الكحول والبيرة عن غيره المستخلص من محاصيل أخرى.

ورغم ذلك يُزرع في مساحات محدودة بالأراضي القديمة التي يوجد بها مشكلات ملوحة بمياه الري أو التربة. وفي نهايات الترع التي لا تصل إليها كمية كافية من مياه الري.

وتبلغ إجمالي المساحة المنزرعة بالشعير في محافظات الأراضي القديمة نحو 10 آلاف فدان. كما يزرع في الأراضي الجديدة والمناطق الصحراوية المطرية. وهي أراض إما رملية فقيرة أو أراض متأثرة بالملوحة وتعاني نقص مياه الري. حيث تبلغ المساحة المزروعة بها منه نحو 56.5 ألف فدان. ويزرع نحو 171 ألف فدان بمحافظة مطروح زراعة بعلية كمراعٍ. ونحو 4 آلاف فدان بشمال سيناء كمراعٍ تبعا لكمية الأمطار الساقطة وتوزيعها خلال الموسم.

وفقا لإحصائيات قطاع الشئون الاقتصادية بوزارة الزراعة تبلغ مساحة محصول القرع العسلي 254 فدانا لعام 2020. بينما بلغت مساحة القرع الصيفي نحو 61 فدانا لعام 2020.

يقول د. “عاصم” إن إجراءات التكيف المُختلفة التي تتعامل مع التغيرات المناخية وتُبنى على ممارسات إدارة الأراضي والمياه المحسنة لديها القدرة على خلق تكيف مع تغير المناخ ومعالجة ندرة المياه.

فمن الأهمية أن تضع الدول التي تعاني الشح المائى كمصر استراتيجيات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد للأمن الغذائي. والتي تأخذ في الاعتبار أعداد السكان والزيادة السكانية المستقبلية. على أن لا تتم هذه الاستراتيجيات بمعزل عن السياسة الزراعية التي تضعها الدولة للنهوض بالقطاع الزراعي.

الشعير بديلا عن القمح

أما الدكتور “عبيد” فيرى ضرورة توسع مصر في زراعة المحاصيل الموفرة للمياه كالشعير. فهو يتحمل الإجهادات الملحية للأراضي حديثة الاستصلاح كما يتحمل الجفاف. وله استخدامات طبية ومضادات للأكسدة  ويمكن زراعته بالأماكن المطرية بمصر والمستصلحة حديثا والتربة المتأثرة بالملوحة. فضلا عن قلة تكاليفه وتوفيره للمياه.

أما محصول “الكينوا” فهو محصول شتوي ينجح في التربة المتأثرة بالملوحة ويتحمل العطش ويمكن زراعته بنظم الري بالتنقيط. وينتج الفدان من 1 إلى 1.5 طن حبوب يمكن طحنها وإضافتها لدقيق القمح بنسبة 10- 20% لصناعة الخبز وأغذية الأطفال. كما يستخرج من حبوبه زيت طعام يقارب زيت الذرة في قيمته الغذائية.

الكينوا
الكينوا

كذلك نبات الاستيفيا -حسب “فخري”- من المحاصيل الواجب التوسع في زراعتها. فهو محصول سكري لا يحتاج إلى مياه ري كثيرة كقصب السكر. وتستخدم أوراقه في تحلية المشروبات الساخنة والعصائر وتصنيع المربات والمشروبات الآمنة لمرضى السكر.

ويضيف أنه نبات معمر يؤخذ منه 3- 5 حشّات. وينتج الفدان  الواحد منه طنا من الأوراق الجافة. وتعادل درجة حلاوة الاستيفيا بين 200 و300 مرة حلاوة سكر القصب. فـ80 كجم سكر استيفيا تعادل 16 طن سكر قصب. فضلا عن أنه يمكن زراعة 28.5 ألف فدان استيفيا لتغطية الواردات المصرية من السكر والتي تقدر بـ342 ألف دولار سنويا.

ويعد القرع العسلي أحد المحاصيل التي تتكيف مع أنواع  الأراضي كافة عدا شديدة الملوحة والقلوية. وهو محصول صيفى يزرع بين مارس/آذار ويوليو/تموز ويحتاج الفدان 1 كجم بذور ولا يحتاج إلى وفرة مياه وينتج الثمار بعد 5 أشهر حسب الصنف.

قوانين ومبادرات

هناك العديد من السياسات والمبادرات والقوانين التى تم وضعها لمعالجة أزمة ندرة المياه في قطاع الزراعة من قبل منظمات دولية ودول متقدمة. والتي إذا أحسن اختيار المناسب منها لطبيعة كل دولة ومواردها عظمت الاستفادة.

استخدام كفء للمياه

ويقول الدكتور عاصم عبد المنعم إنه لا بد من الاستخدام الأكثر كفاءة للمياه على طول سلسلة القيمة الغذائية. فثلث الأغذية المنتجة للاستهلاك البشري عالميا تُفقد أو تُهدر كل عام. ولهذا فإن إجراءات منع وتقليل وإعادة استخدام وإعادة تدوير فقد الأغذية وهدرها جزء من الحل لاستخدام موارد المياه بشكل أكثر فعالية.

تبطين الترع والحفاظ على المياه
تبطين الترع والحفاظ على المياه

لذا تلجأ الدول في حالة ندرة المياه لاعتمادها على تجارة المواد الغذائية مع دول أخرى لديها وفر في المحاصيل. لكن لظروف سياسية وبيئية وصحية -كحرب أوكرانيا ووباء كورونا- تتوقف التجارة بين الدول ونعود للمنتج المحلي لتوفير السلع للسكان.

ويعتبر تغير التركيب المحصولي أحد الحلول لتوفير مياه الري. فمن شأنها تقديم مزايا اجتماعية واقتصادية جديدة بما في ذلك الدخل والعمالة والإيرادات. إلا أن له آثارا سلبية تؤدي لخفض إنتاجية استخدام الموارد الأرضية وزيادة الملوحة. فضلا عن التأثير السلبي على صحة النظام البيئي.

ففى دولة أوزبكستان تم استخدام سياسة تغيير التراكيب المحصولية -والتى من أهدافها زيادة الأمن الغذائي- وتوفير المياه وزيادة المنافع الاجتماعية- فتم زراعة محصول القمح بدل البرسيم الحجازي تحت ظروف مياه جوفية وأراض مروية لنحو 200 ألف هكتار. ووجد أن معدل البخر متساوِ للمحصولين. وأوضحت التجربة أن التحول من زراعة القمح الشتوى بديلا عن البرسيم الحجازي لم يُوفر مياه الري. لكنه بالطبيعة أدى إلى زيادة كمية الإنتاج نتيجة زيادة المساحة المزروعة. ما يعزز الأمن الغذائي. لكن له تأثيرا سلبيا على كمية الأعلاف المتاحة للإنتاج الحيواني.

ولاستخدام سياسة التراكيب المحصولية لا بد من دراسة المحددات والأهداف وحصر الموارد المتاحة للزراعة جيدا. على أن تتفق عموما مع أهداف السياسة الزراعية للدولة وليس مع أهداف فردية.

الخلاصة في أزمة نقص المياه والبحث عن محاصيل مقاومة للعطش وذات إنتاجية غذائية عالية أن الخبراء جميعا أكدوا ضرورة تشجيع الفلاحين على مستوى الجمهورية لزراعة نباتات جديدة. لها سمات موفرة للمياه ويمكن الاعتماد عليها في الأزمة الغذائية التي تهدد العالم بسبب الحرب الأوكرانية.