تتغير السياسة وتتقلب مثل المصالح، وأن تختلف دولة مع سياسات أخرى و”تخاصمها” وارد، وأن تعود وتتوافق معها و”يتصالحوا” يتكرر، ولكن في حالة العلاقة بين مصر وقطر تعدى الأمر تقلبات السياسة إلى إطلاق شتائم واتهامات بارتكاب جرائم ودعم الإرهاب وفق اتهامات مصرية لقطر، وتحريض ذكي ومبالغات لا أساس لها في الواقع من جانب أدوات قطر الإعلامية في حق مصر.

وحتى لا نستمر في طريقة “أقلب” وأنسى لابد أن نراجع أنفسنا ونعرف جوانب الخلل إذا أردنا إصلاح خطابنا السياسي والإعلامي، فإذا كان اتهام قطر بدعم الإرهاب مجرد كلام بسبب الخلاف السياسي وبناء على ذلك زار أمير قطر مصر واستقبله رئيس الجمهورية.

اقرأ أيضًا.. الدولة الدستورية

وإذا نظرنا لأخطاء الجانب القطري فسنجد أنها لم تكتف بتبني رواية الإخوان عقب 30 يونيو واعتبرت أن ماجرى هو انقلاب عسكري في مواجهة رئيس منتخب، إنما في قبول التحريض وتوظيف آلة إعلامية مؤثرة من أجل التحريض، واختزال الشعب المصري بكل تنوعاته في جماعة الإخوان السلمين، وتحويل مظاهرة محدودة إلى انتفاضات شعبية كبرى وثورة محتملة.

وظلت الأدوات الإعلامية القطرية من الجزيرة إلى الصحف في مواجهة مع النظام المصري، صحيح أن معظمها حافظت على معادلة فيها خليط من القواعد المهنية والتحيزات السياسة، فهي لا تختلق أخبار كما تفعل بعض القنوات، إنما ترتبها وتسلط الضوء على ما هو قريب لتوجهاتها التحريرية.

وقد اختلت معادلة الإعلام الخارجي القطري حين شهدت الأخيرة أول انقسام مجتمعي عميق نتيجة رفض شريحة من المجتمع لقانون الانتخابات، والذي تشكل على أساسه مجلس شورى البلاد وانتخب ثلثي أعضاءه (30 عضوًا) وجرى تعيين الثلث (15 عضوًا)، حيث أعطى القانون حق التصويت للقطريين “الأصليين” الذين كانوا مواطنين في عام 1930 واستبعاد معظم أبناء القبيلة الأكبر في قطر وهي”آل مرة” من حق التصويت، ما أحدث ردود فعل مجتمعية ومظاهرات محدودة وشرائط فيديو بثت على مواقع تواصل الاجتماعي تعترض على هذا القانون.

وقد أشارت الجزيرة بشكل خجول إلى ان هناك معترضين على قانون الانتخابات دون أن تشير لمظاهرات واحتجاجات لأنها تمثل تهديدًا حقيقيًا للتماسك الأهلي في قطر، ويعتبر بلغة الدول العربية الكبرى مثل مصر تهديدًا للأمن القومي.

ثورة 30 يونيو

يقينًا التعامل بحذر مع أي احتجاجات تمثل تهديدًا للسلم الأهلي في أي بلد عربي أمر مطلوب خاصة في ظل حالة الاستقطاب الدولي والإقليمي والتهديدات الوجودية التي تعرضت لها كيانات ودول كثيرة، وأن “النفخ” في مثل هذه الأحداث ستكون أضراره أكبر من فوائده حتى لو كان ذلك على حساب قاعدة “الرأي والرأي الآخر” التي تطبقها الأدوات القطرية على باقي البلاد العربية.

إن الحذر الذي وصل لحد تجاهل الأسباب الحقيقية وراء أزمة قانون الانتخابات القطرية لأن الحديث عنه قد يهدد التماسك الأهلي في قطر، يجب أن تسحب على باقي الدول العربية، فمن الوارد أن يكون للجزيرة سياسية تحريرية متعاطفة مع حركات الإسلام السياسي أو مؤيدة لكل الثورات العربية، وأن تعتبر نفسها صوت المعارضين للنظام المصري قبل المصالحة الأخيرة، فهذا خياراها التحريري، أما أن تعتبر أن معركة الجيش المصري ضد الإرهاب وجماعات العنف في سيناء هي معركة بين طرفين على قدر المساواة أمر لا يمكن قبوله، وأي تقارير من شأنها أن تضعف معنويات أي جيش لا يمكن السماح بها في أي مكان في العالم.

وعلينا أن نشير إلى أن كل القنوات الفرنسية أثناء محاكمة من نفذوا عملية باريس (2015) وعلى رأسهم صلاح عبدالسلام، لم تستضف أي من محامين الإرهابيين (أدينوا أمس بالقيام بعملية إرهابية) واكتفت بعرض ما يقولونه بشكل سردي في الصحف المختلفة، في حين استضافت على شاشاتها إما باحثين مستقلين أو مدعين بالحق المدني ومحامي الضحايا.

الاختلاف السياسي أمر يختلف عن التحريض وتبني رواية وحيدة لما جرى في مصر، مثلما أن الخلاف السياسي لا يعني قول اتهامات جزافية لا أساس لها من الصحة أو على أقل لم يكن هناك دليل قانوني دامغ عليها.

اقرأ أيضًا.. الانتخابات التشريعية الفرنسية.. التحول الكبير

إن الشتائم والبذاءة واتهام قطر برعاية الإرهاب وتمويله، أمر إن كان صحيحًا فلا يجب التساهل معه مهما كانت ظروف مصر الاقتصادية، أما إذا كان كما هو واضح غير صحيح، وكان مجرد تعبير عن غضب من بعض السياسات القطرية باتهامها بدعم الإرهاب فإن هذا أمر يجب مراجعته وطي صفحته، لأنه في الحقيقة يضر بسمعه مصر وصورتها عربيًا ودوليًا.

لا يجب أن تتكرر أي اتهامات لأي دولة أو كيان أو شخص دون أدلة حقيقية، ويجب أيضًا أن نكتفي بإدارة الخلاف أو الصراع السياسي دون اتهامات جزافية سنحتاج في يوم لتبريرها بعد عودة العلاقات، وحتى لو لم نقل شيئًا عقب تلك العودة أو الزيارة الأميرية لمصر لتفسير ماجرى، فإن الأمر ترك لمواقع التواصل الاجتماعي لتسخر من هذه التقلبات وما قيل أمس ويقال اليوم.

الأدوات الإعلامية القطرية عدلت من توجهاتها حتى لو بقى لها تحيزات سياسية، وتوقفت تمامًا عن التحريض أو تحويل مظاهرة شاردة لثورة عارمة، وكذلك مصر التي توقفت منصاتها الإعلامية التي اعتاد بعضها أن يسب قطر ويشتمها، وبقى أن التركيز على الخلاف أو الاتفاق السياسي يرفع من قيمة أي بلد وقدرها بدلًا من البهدلة والشتائم.

الخلاف السياسي طبيعي ولكن يجب أن يتم في إطار الاحترام المتبادل وعدم التحريض أو السباب أو إطلاق التهم غير الحقيقية، لأن ما سمعناه وشاهدناه في السنوات الماضية لا يجب تكراره.